أناركيو «الجيش الأسود»: جنود الثورة الروسية وضحاياها

الصورة: منشور

سفيان البالي
نشر في 2017/10/25

هذا الموضوع ضمن ملف «أحمر باهت: مئة عام على الثورة الشيوعية». اقرأ موضوعات أخرى ضمن الملف من هنا، وشارك في الكتابة من هنا.


«من الأفضل التخلي عن أوكرانيا بأكملها، وتسليمها إلى قوات دنيكن هناك (الجيش الأبيض)، بدلًا من السماح بتوسع سيطرة أتباع ماخنو». ليون تروتسكي.

تصريح صادم كهذا، من لدن قائد الجيش الأحمر ضد حليفه الميداني الوحيد الجيش الأسود، أي قوات الفلاحين والعمال الأوكرانيين بقيادة الرفيق «نستور ماخنو»، في واحدة من أحلك فترات الحرب الأهلية الروسية بالنسبة إلى البلاشفة، إذا دل على شيء فهو يدل على عمق القطيعة بين الطرفين، لدرجة لم تُسهم معها وحدة العدو والهدف الثوري في إنتاج موقف توافقي بينهما.

لم تكن الأناركية غريبة عن سياق روسيا السياسي والاقتصادي والاجتماعي، بل خرجت منه، وتبلورت داخله على يد منظِّرين أمثال «ميخائيل باكونين» و«بيتر كروبوتكين»، أخرجوا الوعي الاشتراكي اللاسلطوي من طوباويته التي اكتساها عند «برودون» إلى ممارسة ثورية فاعلة وفعالة، وكان لهم فضل تفشيها بين عموم عمال أوروبا والعالم، على حساب شقيقتها المستحدثة وعدوتها في نفس الآن، اشتراكية كارل ماركس وفريديريك إنغلز.

ربما قد نتصور أن الصف الثوري إبان الثورة الروسية عام 1917 كان واحدًا وموحدًا، في حين توضح لنا أحداثها وأحداث الحرب الدامية والسجال السياسي المحتدم وجود تشققات عميقة داخل الجسد الثائر. يذكرنا المسدس الذي لوَّح به لينين تهديدًا في وجه معارضيه خلال المؤتمر العاشر للحزب الشيوعي، بأن الثورة لم يشعلها البلاشفة وحدهم مهما نُسبت إليهم انتصاراتها، والحسم الذي جاء لصالح الحُمر فُرض بالدم ولا شيء غيره، دم كل من قال لا في وجه قوادها.

الأناركيون الروس: حطب الثورة ونيرانها

مجموعة من الجنود في الجيش الأسود - الصورة: rusrevolution

إلى حدود أكتوبر 1917، لم يكن البلاشقة تلك القوة الثورية القائدة لعموم المنتفضين ضد سلطة القيصر في روسيا، ولم يكن التصور البلشفي للدولة الروسية بعدها يحظى بذلك الإجماع من طرف عموم الثوار .

الأحداث السابقة للثورة وخلالها تُبرز لنا بجلاء مَن كان «دينامو» العمل الثوري وقتها، ومن أنضج للثورة الروسية الظرف الذاتي والموضوعي، ودفعها كي تقفز على المراحل وتناقض حتى التصور الماركسي للتناقضات المخلصة بالثورة الشيوعية، المسمى «مادية تاريخية».

الثوريون الماركسيون لم يكونوا الوحيدين، ولا السباقين إلى حمل مشاعل الثورة في روسيا، فالمشهد كان يزخر قبل ذلك بعدة تنظيمات ثورية، عمالية وفلاحية، منتشرة في كل أنحاء الإمبراطورية مترامية الأطراف، تتبنى نظرية ثورية مغايرة لما يتبناه البلاشفة.

الأناركية كانت موجودة منذ أواسط القرن التاسع عشر، وبرزت حركة «الناروديين» وسط الفلاحين والعمال تحرضهم على النضال ضد استبداد القيصر، وبعد فشلها في تعبئة الشعب، تحولت إلى الفعل المباشر ضد مصالح الدولة، وصولًا إلى عملية اغتيال القيصر «ألكسندر الثاني» ذات مارس من سنة 1881.

بعد ثورة أكتوبر الأحمر، أُفرِج عن مجموعة المعتقلين الأناركيين في سجون القيصر سابقًا، وفُتح باب العودة لعديد من المنفيين خارج الوطن الروسي.

 مع بداية القرن العشرين، بدأ العمال الروس التكتل في عديد من الجماعات الأناركية، أبرزها جماعة «اللواء الأسود»، الجماعة التي نفذت أول عملية انتحارية ضد السلطات في مدينة بياليستوك (في بولندا الآن)، بعد أن قمعت شرطة القيصر تجمعًا يساريًّا كانت تشارك فيه.

سيأتي الأحد الدامي عام 1905 ليفجر ثورة مسلحة قادها الأناركيون الروس ضد السلطات، وبلغت العمليات ذروتها في كل المدن الروسية، مُرفقةً باضرابات عمالية وفلاحية كبيرة أوجعت اقتصاد البلاد، وبالتالي عموم المُلَّاك حينها.

عمَّ الدولة مناخ دموي مشحون، تراخت خلاله أدوات هيمنتها على المد الشعبي المنتفض، ما شجع العمال على الاستيلاء على عديد من المصانع في مدن سان بطرسبورغ ووارسو وباكو وأوديسا، وتفشت الخلايا المسلحة في كل أقطار روسيا، لدرجة أصبح لكل قرية مهما كانت صغيرة ميليشيا أناركية تحارب السلطة.

هذه الأحداث انتقلت بروسيا بسرعة فائقة من واقع سياسي محكوم ببقايا الإقطاعية إلى آخر حداثي، بتنزيل الملكية الدستورية وإحداث مؤسسات جديدة كالبرلمان والأحزاب المتعددة، عِوض انفراد «التسار» (القيصر باللغة الروسية) بالحكم باسم الدم والرب، أي السلطة الدينية.

تكوَّنت نوى النضال العمالي المنظم المغاير للتركيبة النقابية التقليدية، أو السوفييتات، مجالس التنسيق العمالي، الشيء الذي لم تنفِه البلشفية على لسان تروتسكي: «كان نشاط السوفييتات يعني تنظيمًا للأناركية، فوجودها وتطورها اللاحق أدى إلى ترسيخ الأناركية». ويمكننا اعتبار هذه النقلة تسريعًا لنضوج الواقع الثوري في تلك الفترة، ممهدةً لها.

رغم القمع الشرس والاجتثاث الذي تعرضت له الجماعات الأناركية في روسيا، أتت سنة 1917 بانفراج كبير.

فبعد ثورة أكتوبر الأحمر، أُفرِج عن مجموعة المعتقلين الأناركيين في سجون القيصر سابقًا، وفُتح باب العودة لعديد من المنفيين خارج الوطن الروسي، أبرزهم «بيتر كروبوتكين»، هذا الأخير رأى في البلاشفة، كباقي الأناركيين الروس، حليفًا في الصراع الكوني ضد الرأسمالية، وفرصةً سانحة بصحبتهم لتحقيق حلم التحرر.

هذا الحلف بدى بعدها مشكوكًا في أمره، رغم افتتان النشطاء اللاسلطويين الروس بشعارات لينين الصادحة بـ«كل السلطة للسوفيتات».

السؤال المحير الذي جاب أذهانهم حينها يتمثل في «أيُّ اشتراكية في السلطة أمام خيار ديكتاتورية البروليتاريا الذي أخذه البلاشفة؟»، والذي تبين من بعد أن ديكتاتورية البروليتاريا لم تكن إلا ديكتاتورية اللجنة المركزية للحزب الشيوعي، وبالتدقيق: لم تكن إلا سلطة رئيس اللجنة.

مع انفجار الحرب الأهلية عام 1919، سيقع الأناركيون في معضلة موقفهم من البلاشفة، وأي صف يجب الاصطفاف فيه: البلاشفة أم أعدائهم؟ وكلا الطرفين لم يكن على هوى الأناركيين، كما يوضح المؤرخ «بول آفريتش» في كتابه «الأناركيون الروس».

غير أنه، وككل حرب، للواقع على الأرض سلطته، والواقع أكد التوافق الميداني بين الجيش الأحمر والجماعات الأناركية، والالتفاف حول السلاح في وجه الثورة المضادة. توافقٌ قرأ فيه الأناركيون خطوة لتغيير موازين القوى في الميدان، وإمكانيةً لتحصيل رقعة جغرافية تكون وعاءً لبناء مجتمع الحرية الذي يحلمون به. ورأى فيه البلاشفة، وأولهم لينين، إرجاءٌ لصدام لا مفر منه مع هذه القوى المعادية.

حرب 1919: زمن الأحلاف والبندقية

مقطع سينمائي يجسد إحدى معارك الحرب الأهلية الروسية

تمخضت الأحداث بعد أكتوبر الأحمر سنة 1917 عن تغيرات جيوسياسية مهمة شرق القارة العجوز، القارة التي كانت ترزح حينها تحت ثقل ويلات الحرب العالمي.

كان الانسحاب من الحرب العالمية أحد شعارات البلاشفة لجذب الناس الذين ضجروا من الحرب، وكانوا بحاجة إلى الإسراع في ذلك لسببين:

  1. إعادة ترتيب أوراقهم الداخلية بعد فشلهم في السيطرة على الحكم داخل الجمعية التأسيسية المحدثة بعد الثورة.
  2. الاهتمام أكثر بالصراعات المسلحة الداخلية مع بقايا النظام السابق، وتفادي أي صدام مع الحركات الانفصالية التي انتشرت في كثير من بقاع الدولة.

أما عند الطرف الآخر، أي دول المركز، فأي انسحاب لطرف معادٍ كان صفقة مربحة بالنسبة إليهم.

من هذا المنطلق كان توقيع معاهدة «بريست لتوفسك» حتميًّا للطرفين، وهي معاهدة بموجبها تخلت روسيا عن أوكرانيا وبيلاروسيا ولاتفيا وإستونيا وفنلندا، مقابل السلام مع قوات حلف المركز وعلى رأسها ألمانيا، التي عمدت إلى اجتياح الأراضي المستقلة حديثًا مباشرةً بعد توقيع المعاهدة.

بعد تنازل البلاشفة عن أوكرانيا، واجتياحها من طرف قوات المركز، تشكلت مقاومة شعبية تشن حرب عصابات شرسة ضد القوات الغازية، معبرةً عن الرفض الشعبي للرضوخ لإمرتها.

سرعان ما أخذت العمليات العسكرية صبغة سياسية أناركية، عبَّأت العمال والفلاحين في أوكرانيا في «جيش الانتفاضة الثوري الأوكراني»، أو «الجيش الأسود» كما سمَّته السلطة في موسكو، لأن محاربيه كانوا يقاتلون تحت راية سوداء هي راية الأناركية، بقيادة رمزية من نستور ماخنو، ذلك الفلاح الأوكراني الشاب الذي تشبع بالفكر اللاسلطوي عقب ثورة 1905.

قاوم الجيش الأسود محاولات اجتياح جيش الثورة المضادة، وانضمت إلى مجهودهم الحربي وحدات من الجيش البلشفي في صراعها ضد نفس العدو.

في مارس 1918، نجح الجيش الأسود في هزيمة الجيش الألماني والنمساوي، وتحرير الجزء الشرقي من أوكرانيا كاملًا، وانتقل بذلك إلى دحرهم تدريجيًّا نحو الغرب.

فاق تعداد الجيش الأسود مئة ألف محارب، توزعوا بين قطاعات الخيالة والمشاة وفرق المدفعية والبندقية الآلية، غير أنه ختلف عن باقي الجيوش بانعدام القيادة الفردية، أي أن تحركاته كانت تحدث بناءً على قرارات لجان التنسيق داخله.

ومع التقدم في  تحرير الأرض، عمد العمال والفلاحون إلى تأسيس آليات للمجتمع الأناركي، ورفضوا أي سلطة، واستولوا على عجلة الإنتاج الصناعي والزراعي، وأسسوا أول مؤتمر كونفدرالي أناركي لإدارة شؤون البلاد.

خلص المؤتمر إلى خمس نقاط أساسية تحدد أسس توجهات اللجان الشعبية والجماهير الأناركية:

  1. الشك في كل الأحزاب
  2. رفض كل الديكتاتوريات، بما فيها ديكتاتورية البروليتاريا
  3. نفي أي مفهوم للدولة
  4. رفض أي فترة انتقالية في ظل سلطوية تنظيمية
  5. الإدارة الذاتية لكل العمال والفلاحين عبر مجالس العمال الحرة

حظيت الإدارة الأناركية بشعبية كبيرة وسط عموم الشعب، فعمدت إلى تدمير السجون ومراكز الشرطة، وإطلاق حرية التعبير، وإنشاء جمعيات صحافة غير مقيد بشروط وقوانين.

قاوم الجيش الأسود محاولات اجتياح جيش الثورة المضادة، الجيش الأبيض، لمدة ثلاثة أشهر، بعد ذلك ستنضم إلى مجهودهم الحربي وحدات من الجيش الأحمر البلشفي في صراعها ضد نفس العدو. شكَّل ذلك تحالفًا ميدانيًّا، حافظت فيه قوات ماخنو على طبيعتها التنظيمية، وقدمت الدعم الميداني إلى قوات تروتسكي، خصوصًا بعد الهجوم المضاد الذي نفذته قوات «أنطوان دنيكن».

أبلى الأناركيون بلاءً حسنًا في الحرب، ما أثار مخاوف الجيران الشرقيين البلاشفة، فنقضوا عهدهم وأوقفوا الإمدادات العسكرية، بل خرج لينين، بعد المؤتمر الرابع للكونفدرالية الأناركية، عن هدوءه وأمر باعتقال كل أعضاء المؤتمر الأناركي، وحرَّك الجيش الأحمر لشن هجوم مباشر على قوات ماخنو.

يعيدنا هذا إلى تصريحات ليون تروتسكي التي بدأنا بها، بأن التخلي عن أوكرانيا للجيش الأبيض أفضل من تركها لسيطرة الأناركيين.

فوبيا الأناركية

مجموعة من جنود الجيش الأحمر - الصورة: Copper Kettle

لم تكن معاداة النزعات التحررية مطروحة في بداية مراحل ثورة 1917، بل على العكس من ذلك، اتصفت الثورة بكل ما يمكننا وصفها من أناركية، وانطبعت التجربة العمالية النضالية الروسية حينها بما خلَّفته ثورة 1905 من تكنيكات نضالية، ما سهل تحركاتها ومهد طريقها لتحقيق ذلك الانقلاب القطعي في تاريخ الأمة.

مع أول شرارة لانفجار الانتفاضة العارمة، وبسلاسة، عمد العمال وعلى غرارهم عموم قطاعات الشعب إلى تشكيل تعاونيات وجمعيات لإدارة شؤون معيشتهم، وأخذت السوفييتات في تصفية الملكية والاستحواذ على وسائل الإنتاج، بدعوة شعبية لم يكن لدائرة البلاشفة دور فيها، ولم يجدوا من بُدٍّ سوى دعمها، كما يوضح لنا الباحث الفرنسي «دانيال غيران» في كتابه «الأناركية من النظرية إلى الممارسة».

لم ينفذ البلاشفة القرارات الأناركية واعتبروها احتواءً للجماهير فقط، ثم عادت مرحلة تكشير الأنياب والصراع على السلطة.

في 20 أكتوبر 1917، وخلال المؤتمر الأول لمجالس الصناعة، أُقِر مقترح ينقل دور المجالس من الاقتصار على رقابة الإنتاج إلى نقله ليد العمال. قرارٌ كهذا مستلهَم من المبادئ الأساسية المؤطِّرة للفكر الأناركي، ويبرز مدى تغلغل النزعات التحررية داخل الممارسة الثورية حينها، والشكل الواضح الذي عبَّرت عن نفسها من خلاله.

فرض لينين حينها على مساعديه استخدام معجم أناركي لحشد الجماهير وتوجيههم، معجم هو الوحيد، على حد تعبيره، القادر على إشعال الحماسة الثورية وتحقيق المستحيل، لأنه «عندما يرى الفقراء هذا كله ويشعرون به، لن تكون هناك قوة قادرة على هزيمة الثورة الاجتماعية»، الشيء الذي يؤكده «فولين»، المناضل الروسي الأناركي الذي عايش المرحلة، من أن «الحزب البلشفي عمد إلى استخدام شعارات كانت حتى ذلك الوقت أناركية الأصل، بقصد مداعبة خيال الجماهير ونيل ثقتهم».

كان لتلك المرحلة عنوان بارز هو «الإدارة الذاتية لشؤون الحياة» على مستوى الفرد والعامة، وفي كل مجالاتها، في غياب واضح لأي تنظيم هرمي يُنزل القرارات من القمة نحو القاعدة، ودون وجود أي قمة أصلًا كي تكون هناك قاعدة.

كانت الجماهير تفهم شعار «السلطة للسوفييتات» بمعناه الليبرتاري، فهم أكدته الخطابات الصادرة على ألسن قادة البلاشفة، مثلًا كما أعلنها لينين في المؤتمر الثالث للسوفييتات أوائل عام 1918، أن «الأفكار الأناركية اتخذت اليوم صورًا تنبض بالحياة». وزاد من ذلك تبني المؤتمرات اللاحقة قرارات تُقر الملكية العامة، وتنهي عمل المسؤولين الإداريين والشرطة والجيش، وتمهد لحد وجود العملة النقدية، وهي قرارت في مجملها أناركية.

هذه القرارات بطبيعة الحال لم تنفَّذ، بل يمكن النظر إليها كعملية احتواء للجماهير، وسرعان ما مر البلاشفة إلى مرحلة تكشير الأنياب والصراع من أجل الاستحواذ عن السلطة. مرحلة بدأت بإلغاء الإدارة العمالية للمصانع بذريعة عدم استجابتها لمتطلبات البلاد الاقتصادية، والتلاعب بنتائج انتخابات لجان العمال، كما يخبرنا غيران في كتابه.

يحكي فولين قصة مصفاة «نوبل» النفطية، التي استحوذ عليها عمالها البالغين أربعة آلاف، وطلبوا مساعدة المركز في إدارتها، بيد أن طلباتهم قوبلت بالإهمال بين مكاتب الكرملين. ورغم ذلك، عمد العمال إلى تشغيل المصفاة من جديد بتنسيق ذاتي مع كل الممولين وتوفير كل متطلبات الإنتاج، الشيء الذي أغضب السلطة المركزية فأصرت على إغلاقها بالقوة.

من الواضح أن البلاشفة لم يتخلوا تمامًا عن أحلام السلطة، وكذا عن توجههم الماركسي السلطوي. ويُعَد كتاب لينين «الدولة والثورة» مظهرًا للازدواجية التي تبناها البلاشفة، ازدواجية تشِيد بجدوى التحرر اللاسلطوي، لكن عبر مرحلة انتقالية تضع السلطة في يد دولة بيروقراطية، وصفها لينين بأنها طويلة الأمد وبطيئة.

كرَّس البلاشفة مع الوقت توجههم السلطوي، الذي لم يكن ليخفَى حتى في المرحلة الأولى للثورة عن بال الأناركيين، الذين ما فتئوا يحذرون من أن الدعم البلشفي لم يكن سوى دعمًا تكتيكيًّا، وأن المعنى الواقعي لشعار «السلطة للسوفييتات» هو  سلطة زعماء الحزب، كما كتب المفكر الأناركي فولين في إحدى مقالاته حينها.

لكن بينما كانت تصفية الأناركيين داخل روسيا في أوجها عام 1918، كان الأمر مغايرًا في أوكرانيا، إذ صعد نجم المقاومة الشعبية اللاسلطوية بزعامة ماخنو، الذي نجح في بناء تنظيم أناركي قروي قوي اقتصاديًّا وعسكريًّا، ربطته بالقوات البلشفية وحدة العدو، لكن سرعان ما أدار له البلاشفة ضهرهم وتركوه في صراع الوجود وحده.

بعد التصفية الممنهجة للأناركيين الروس، أعلن تروتسكي أن الحكومة السوفييتية، وبقبضة من حديد، خلَّصت روسيا من الأناركيين إلى غير رجعة.

حُظرت كل الجرائد والمنشورات الأناركية، ومن ضمنها جريدة «ناباط»، الناطقة بلسان الكونفدرالية الأناركية الأوكرانية. تعالت أصوات الجرائد التابعة للحزب السوفييتي بوصف قوات ماخنو بالخارجين على القانون والمخربين، وزادوا في تأليب الشعب عليه بوصفه أمير حرب سلطويًّا.

هذه الاتهامات يذكرها لنا مقال «الأناركية، مجتمع بلا رؤساء»، فالدعاية التي أطلقتها الصحافة البلشفية للصدام مع الأناركيين كانت أن «دولة ماخنو الأناركية» هي نظام حكم أمير حرب، يعيِّن الأشخاص في مناصبها المدنية هو والقادة العسكريون الآخرون، ولا ينتخبونهم.

قيل كذلك إن ماخنو نفسه رفض تزويد عمال السكك الحديدية وعمال التلغراف السوفييت بالطعام، وإن «القسم الخاص» للهيئة الأناركية يؤدي عمليات إعدام وتعذيب سرية، وإن قوات ماخنو أغارت على قوافل الجيش الأحمر التي تحمل الإمداد والتموين، وسرقت سيارة مدرعة من بريانسك كانت في انتظار إصلاح عطل نفذه الأناركيون، وإن «ناباط» مسؤولة عن أعمال دموية إرهابية في المدن الروسية.

لكن لا يمكننا اعتبار أن السنوات الأولى من الثورة، وتماهي التوجه البلشفي مع التوجهات اللاسلطوية، كان محض خدعة أو ازدواجية في المواقف، بل هو توجه يقبل اللاسلطوية كهدف لكنه يتمسك في الوقت نفس بالسلطوية كأداة، وهذا لُب الخلاف بين التيارين.

نجحت التصفية الممنهجة التي شنها البلاشفة على الأناركيين في كل أنحاء روسيا في القضاء على هذا الفكر نهائيًّا، وأعلن تروتسكي أنه «في النهاية، الحكومة السوفييتية، وبقبضة من حديد، خلَّصت روسيا من الأناركيين إلى غير رجعة». وبنفس الكلمات بالضبط، ولسخرية القدر، وبعد 20 عامًا، سيصف ستالين تصفية تروتسكي بمعية جُلِّ أتباعه.

نهاية الملحمة وموت البطل

قادة الجيش الأسود يتوسطهم نستور ماخنو - الصورة: public domain

في خضم رحى الحرب الدائرة، وجد الجيش الأسود نفسه بين عدوانين، أحمر وأبيض. على الأقل كان العدوان الأبيض واضحًا، على غير البلاشفة الذين أوهموا جيش ماخنو بالتحالف، بينما كانوا أول ناقضي ميثاق النضال بينهم.

كانت حرب الجيش الأحمر على المتمردين الأناركيين الأوكرانيين ذات طابع استنزافي في أول الأمر، إذ قطعوا عنهم الإمدادات التي كان من المفروض أن يزودهم بها لمجابهة قوات الثورة المضادة، فطال انتظار المؤن والفحم، قبل أن يفطن المتمردون للحيلة التي حيكت لهم. ومع الأصداء الآتية من موسكو أيقنوا أنهم محارَبين، فتحولوا إلى المناورة في الميدان والهرب في الأوقات التي تزيد فيها شراسة هجومات البيض، تاركين الجيش البلشفي في مواجهة عدوه، في انتظار إنهاك الجيشين بعضهما بعضًا.

هذا التكتيك كان ناجعًا في مقاومة العدوان على الجهتين، ما دفع لينين إلى محاولة استمالة الأناركيين الأوكرانيين بإرسال مبعوثه «ليف كامينيف» إلى ماخنو لإجراء لقاء ودي، بعدها مباشرةً ستقع رسالتان سريتان في يد ضباط الجيش الأسود، تحملان أوامر صريحة للبلاشفة بالهجوم على قوات ماخنو واغتياله، فترد القوات المتمردة بالانسحاب مجددًا.

في أكتوبر 1920، وقَّع البلاشفة مهادنة جديدة مع المتمردين الأناركيين، عندما اقتربت القوتان من المقاطعات التي يسيطر عليها الجيش الأبيض، لكنها ستنتهي بعد دحر البيض من القرم والانتهاء من خطرهم.

كانت قوات ماخنو حينها تعاني ويلات وباء التيفوس في قسم كبير منها، وقِسم أنهكته الحرب كما البلاشفة، الذين استغلوا الفرصة وأطلقوا الرصاصة الأخيرة على تجربة الجيش الأسود، التجربة التي استبسلت فيها قوات ضعيفة التسليح والتدريب لتقهر جيوشًا نظامية مثل النمسا وألمانيا والمجر، متحدةً معًا، وتدحر نهائيًّا بقايا عسكر القيصر، وتقاوم رفاق الأمس والثورة حتى آخر رمق بالحماسة نفسها.

خلال حماسة الانتصار، أبى الداهية تروتسكي إلا أن يلعب لعبته الأخيرة، فاستدعى قواد الجيش الأسود إلى لقاء احتفالي في القرم، احتفال تخلَّف عنه ماخنو، لتأتيه الأخبار المُفجعة في الصباح بأنه غُدر بهم وقُتلوا جميعًا. أمام هذه الأوضاع المأساوية، اختار ماخنو الاستسلام والهرب إلى رومانيا أولًا، بعدها إلى باريس، التي بقي فيها متخفيًا يعمل نجارًا حتى مات عام 1934.

مواضيع مشابهة