لم يدُرْ بخلد أيٍّ من متابعي الحراك الاجتماعي في السعودية أن يرتبط اسم الفنان راشد الماجد ذات يوم بمطلب حقوقي تقوده النساء في الشارع، خاصة أن فنه لا يحمل أي حس ملتزم يمكن التعويل عليه في هذا الجانب.
يعد الماجد أيقونة غنائية يتهافت عليها الجمهور المتعطش للأغنية السريعة لتوظيفها في تلبية احتياجاتهم العاطفية، ممَّا حول صورته خلال العقود الماضية إلى فارس أحلام تهوي إليه قلوب الفتيات في سن المراهقة، وليس فنانًا يناضل عن المرأة وحقوقها.
لم تعد كلمات أغنيته «آه يالقهر يكفيني آه، الهم في كل اتجاه، أمشي وأهوجس، وكل من شافني قال إش بلاه» تستخدم للتعبير عن حالة انكسار عاشقة تبدو عليها ملامح الوهن والضياع، ولكنها تحولت في السعودية خلال الفترة الماضية، بسبب فتاة من مواليد منتصف التسعينات تدعى مناهل العتيبي، إلى خلفية لأحد أشهر مقاطع رفض واقع حظر قيادة المرأة للسيارة عن طريق «الصمت».
كيف وصلت المرأة السعودية إلى «الصمت» كوسيلة للتعبير عن مطالبها، بعد أن كانت أولى مبادراتها في ملف قيادة السيارة «التظاهر» في أحد أبرز شوارع العاصمة الرياض؟
هنا محاولة فهم وربط للأحداث بغية الوصول إلى نتيجة وتفسير.
البداية: مسيرة قيادة جماعية
تاريخيًّا، منذ العام 1990 أخذ مطلب قيادة المرأة للسيارة أشكالًا وأطوارًا مختلفة. ففي التسعينيات كانت الخطوة الأجرأ بإقدام 47 امرأة على القيادة بشكل جماعي في الشارع، سعيًا لتحويل الأمر من «مطلب» إلى «واقع» يجب القبول به.
جاء ذلك والسلطة السياسية تعيش أزمة حرب الخليج الثانية، وتسعى إلى الموازنة بين التهديد الخارجي والسلم الداخلي، لذلك سرعان ما وُئدت تلك الخطوة رسميًّا ببيان من وزارة الداخلية، إضافةً إلى فصل نساء الحملة من وظائفهن، وتوقيف عدد من أولياء أمورهن.
لاحقًا، استُدعي أولياء الأمور أولئك لمقابلة «مسؤول رفيع»، وبَّخهم لأنهم «غير قادرين على ضبط نسائهم، وسمحوا لهن بالإقدام على خطوة كهذه رغم عدم جاهزية المجتمع لها»، فيما تم غض الطرف عن الأصوات الرافضة لهذا الحراك النسائي، لممارسة التحريض والقذف بحقهن، بحسب ما ذكرته اثنتان من المشاركتان في المسيرة في كتابهما «السادس من نوفمبر: المرأة وقيادة السيارة».
اقرأ أيضًا: شبح «كلام الناس» يطارد النساء في العالم العربي
يوحي توقيت طرح المطالب بأن الهِمَّة الحقوقية تنشط في النوازل كهَبَّة تتسق مع حالة عامة في المنطقة.
تعلمت الحملات اللاحقة من تلك الخطوة أن السلطة لن تسمح بالقيادة عبر النزول الجماعي إلى الشارع وفرض الأمر فرضًا، فخطوة كتلك ستلفت النظر إلى وجود «تنظيم»، ممَّا سيكون مسوغًا للسلطة والرافضين لمحاصرة المجموعة بتهمة «تنفيذ مظاهرة» تهدد الأمن والأمان، في بلد يحظر، إلى جوار قيادة المرأة للسيارة، أي شكل من أشكال التنظيم والتجمع والمظاهرات في الشوارع والميادين.
لكن رغم التنبُّه والحذر من العمل تحت مظلة جماعية، لم تُفلت بعض الحملات من فخ اختيار الأزمات الإقليمية كتوقيت للمطالبة بالتغيير، وهو ما وقعت فيه حملة «سأقود سيارتي بنفسي»، التي تزامنت مع قدح شرارة «الربيع العربي» عام 2011.
ورغم ما حققته الحملة من نجاحات بـخروج عدة نساء منفردات للقيادة في مناطق من المملكة، إلا أن ما وقع مع منال الشريف كتب نهاية الحملة، إذ أوقفت وسُجنت وشُهِّر بها في الإعلام، ووُجِّهت إليها تهمة «إخلال النظام» خلال التحقيقات، ثم أُفرج عنها لاحقًا مع منعها مؤقتًا من السفر.
قد يهمك أيضًا: أبرز الأفلام التي تناولت حياة وقضايا المرأة العربية
يرى بعض المتابعين أن توقيت طرح المطالب يوحي أن الهِمَّة الحقوقية تنشط في النوازل كهَبَّة تتسق مع حالة عامة في المنطقة، تُستغل للفت النظر إلى معاناة ملايين النساء السعوديات، اللاتي يتكبدن خسائر معنوية ونفسية ومادية بسبب حظر القيادة، ومحاولة توصيل ذلك إلى منظمات وجمعيات حقوق الإنسان العالمية، بهدف السعي إلى إعادة النظر في واقع المرأة السعودية، وهو ما يجعل المناوئين يفسرونه بأنه يأتي بإيعاز غربي ولتنفيذ «أجندات خارجية».
ما بين حظر العمل الجماعي، وتفسير الحملات كشكل من أشكال التظاهر وبث الفوضى، وحجة وجود أزمة اختيار التوقيت عند المطالبة بالحقوق، وقبل ذلك كله العذر المستمر بعدم جاهزية المجتمع، لا يمكن لمتابع أن لا يدرك سيل الوعي الجارف بحقوق المرأة خلال السنوات القليلة الماضية، والاستعداد للحظة لا يعلم أحد متى ستأتي حتى الآن تقود فيها المرأة السعودية سيارتها بنفسها.
قد يعجبك أيضًا: كيف تعيش المرأة السعودية تحت ولاية الرجل؟
لا يا امرأة، لا تقودي
إن التراكم المتزايد بشكل سريع في حالة الوعي بحقوق المرأة حوَّل حملة «26 أكتوبر» عامي 2013 و2014 إلى وعاء، يتجاوز فكرة القيادة إلى حاضنة لتبني فكرة حقوق المرأة بشكل كامل غير مجتزأ من عدد من الناشطات على مستوى المملكة، ممَّا أنتج مجموعة من المقالات والندوات واللقاءات وورش العمل التي تم تنفيذها لتوعية المرأة بحقوقها.
المختلف هذه المرة أن النظام رصد حالة مرتفعة من الوعي مختلفة عمَّا سبق.
فضَّلت الحملة ألا ترفع السقف في خطابها ضد السلطة، التي تتحمل عبر أنظمتها مسؤولية هذا القرار، كون المجتمع في المحصلة لا يمتلك حق إصدار قرارات المنع والقبض والسجن. ورغم إيمان الوجوه الأبرز في الحملة بذلك الرأي، إلا أنهم ربما رأوا في حينها أن التصادم مع كافة الجبهات، الرسمية والشعبية، سيضاعف الحمل عليهم.
ومع كل هذا التريث والعقلانية في اتباع خطط مدروسة لتمرير الحملة وأهدافها بسلام، إلا أن السلطة سرعان ما انقلبت على الحملة قبل بدئها بأيام، وأكدت أن بيان حظر قيادة المرأة الصادر في التسعينيات لا يزال ساريًا، وأن من تخالفه تعرض نفسها للعقوبة.
وبالفعل، أُلقي القبض على عدد من الناشطين في الحملة، بينهم كُتَّاب وحقوقيون وإعلاميون، للتحقيق معهم وأخذ تعهد عليهم، إضافةً إلى انتشار كبير لأفراد الشرطة والأمن في الشوارع الرئيسية، للحدِّ من أي محاولات لاستنساخ تجربة القيادة الجماعية، وهو الأمر الذي نفته الحملة في حينه عبر حساباتها على شبكات التواصل الاجتماعي.
المختلف هذه المرة أن النظام رصد حالة مرتفعة من الوعي والتأييد مختلفة عمَّا سبق، ما دفعه إلى استباق أي حدث فجائي بإعادة قرار المنع، وتنفيذ سياسة «الضرب بيد من حديد على كل من تسوِّل له نفسه العبث بأمن هذه البلد».
بينما ظُنَّ أن الحملة وُئدت في مهدها، برز اسم لجين الهذلول ليخلق فارقًا.
تسترجع طالبة الدراسات العليا نوره الدوسري ذكريات ذلك فتقول: «اتفقت مع زميلتين لي على قيادة السيارة إلى أحد المقاهي القريبة من منازلنا في محافظة الخبر، ولم يكن القصد تحديدًا التضامن مع حملة 26 أكتوبر، ولكن تطبيع مسألة قيادتنا للسيارة وقبول المسؤول والمجتمع واعتبارها واقعًا».
الدوسري، التي تستكمل دراستها الآن في الولايات المتحدة الأمريكية، حصلت قبل الحملة بسنوات على رخصة قيادة من مملكة البحرين، وكانت تقود سيارتها عند زيارة المنامة بصحبة والدها، ولاحقًا زوجها.
ورغم مُضِيِّ قرابة الثلاث سنوات على الحملة، تعيد نوره خلال حديثها مع «منشور» تأكيد أن «الخروج من جدل كهذا سيحدث بعد اللجوء مباشرة إلى اتخاذ قرار يضع حدًّا لهذا الوقت المُهدر، فالمشكلة ليست صراعًا بين تيارات المجتمع، هذه حجج تزيد من عمق الإشكال، والأمر لا يعدو أن يكون غياب تشريع قانوني يجعل القيادة اختيارًا وليست إجبارًا».
اقرأ أيضًا: التجربة الآيسلندية 1971: هل تفعلها المرأة السعودية؟
وبينما كانت بعض الأصوات ترى أن الحملة وُئدت في مهدها بسبب الهجمة الأمنية والإعلامية، برز اسم لجين الهذلول ليخلق فارقًا في الحملة، وكذلك في ملف قيادة المرأة للسيارة بشكل كامل.
وضعت لجين الموقف الرسمي السعودي في حرج على الشريط الحدودي مع دولة الإمارات المجاورة، إذ استغلت اتفاقًا بين دول مجلس التعاون الخليجي بسريان رخص القيادة في جميع الدول الأعضاء، فاستخرجت رخصة من الإمارات وجاءت تقود سيارتها إلى السعودية، لكن أُلقي القبض عليها عند منفذ الدخول في البطحاء.
إضافةً إلى الهذلول، أوقفت كذلك صديقتها المذيعة ميساء العامودي، التي لحقت بها في المنفذ لتدعمها، بعد أن ظلت لجين عالقة لساعات دون تهمة محددة في البداية.
«الصمت» حيلة المُضطر
نجحت حملة إسقاط الولاية في الصمود أكثر من 200 يوم.
أشد المتفائلين بقرب السماح للمرأة بقيادة السيارة أخذوا يلملمون أوراقهم وينظرون إلى المشهد من بعيد، خصوصًا مع حدوث تغير سياسي في هرم السلطة مطلع العام 2015.
دفع ذلك كثيرًا منهم إلى التركيز على التثقيف والتحرك في مساحة «المتاح» لحين تكشُّف الأمور، حتى عادت المطالبات تنشط في منتصف 2016 عبر وسم «سعوديات يطالبن بإسقاط الولاية» على تويتر، لكن هذه المرة حرص النشطون في الحملة على توخِّي الحذر الشديد.
لم تنشئ الحملة حسابًا يمثلها، جريًا على ما كان يحصل في الحملات السابقة، وكان التركيز على استخدام منصات التواصل الاجتماعي للمطالبة عبر تغريدات أو مقاطع فيديو وصوت. وعند الشروع في اتخاذ خطوة عملية، انصاعت الحملة إلى الخطوات الرسمية التقليدية التي لطالما أكد الساسة ضرورة اللجوء إليها عند المطالبة بالحقوق، وهي كتابة الخطابات والإبراق إلى الجهات المسؤولة، كونها وسيلة مُجازة نظاميًّا ولا يلحق منفذها أي ضرر.
قد يرى الراصد ذلك انتكاسةً في خط سير المطالبة بالحقوق في السعودية، وعودة إلى المربع الأول الذي يسلم زمام الأمور إلى السياسيين لاتخاذ قرار متى شاؤوا، دون الحاجة إلى ممارسة أي ضغط.
لكن هذا الرأي تقابله وجهة نظر أخرى، وهي أن العمل بوسائل نظامية قد يشتت النظر عن استهداف الشخوص، وهو ما سيشجع الكثيرات على الالتحاق بالمبادرة وإعلان تضامنهن مع الحملة دون الشعور بوجود أي تكلفة أو مخاطرة، إضافةً إلى أن المطلب يمس جميع النساء كونهن واقعات تحت مظلة هذا النظام، ممَّا يضمن كثافة التأييد دون الحاجة لحساب يمثل مظلة تحتوي الحراك وتوجهه.
وما بين هذا الرأي وذاك، نجحت الحملة في الصمود لما يزيد عن مئتي يوم عبر الوسم النشط، الذي استقطب المؤيدات والمعارضات كذلك، وتحولت إلى مادة دسمة اجتماعيًّا وعبر وسائل الإعلام المحلية والعربية، وعند هذا الحد توقف الأمر، في انتظار رد فعل من السلطة أو المجتمع، يشجع أو تحبط المطلب/الحملة.
المقاومة بالمشي
#سعوديات_نطلب_اسقاط_الولايه265 #انا_سعوديه_اعتقوني_من_العبوديه عادي عندهم لو اقطع الشوارع رجليه المهم ما أصير ولية امري واقود سيارتي بنفسي☺! pic.twitter.com/Aq72YDgQ0C
— Manahel♊.#كلنا_الاء (@1994_thefreedom) ٢٨ مارس، ٢٠١٧
نَفْضُ هذا الركود جاء هذه المرة من مدينة القصيم (شمال العاصمة الرياض)، عبر فتاة صغيرة خلقت لها سربا خاصًّا بها، هي الطالبة مناهل العتيبي، التي قررت بشكل عفوي أن تُخرج هاتفها الذكي وتصور رحلتها وهي عائدة سيرًا على الأقدام من الجامعة إلى المنزل، دون أن تنطق بكلمة، بل تركت مهمة الكلام لراشد الماجد إذ يغني «آه يالقهر يكفيني آه، الهم في كل اتجاه، أمشي وأهوجس، وكل من شافني قال إش بلاه».
وخلف العتيبي انطلقت عديد من الفتيات السعوديات يقلدنها، وينشرن مقاطع فيديو لهن تحت وسم «المقاومة بالمشي»، ليضاف إلى رصيد مطالبات النساء السعوديات بحقوقهن.
الأمر مرهون بيد السلطة، التي لا تُوليه أي قيمة في الوقت الحالي على ما يبدو.
ترى الناشطة الحقوقية نسيمة السادة أن خطوة مناهل «تثبت وجود معاناة للمرأة، وأن المرأة تبحث دائمًا عن حلول لها»، موضحةً لـ«منشور» أن «الاعتراض بالصمت أحد الوسائل التي تسلكها الشعوب لتحقيق مطالبها»، وهو فعل غير تصادمي وغير مكلف شخصيًّا أو اجتماعيًّا.
أما عزيزة اليوسف، أحد أبرز الوجوه النسائية في مجال حقوق الإنسان في المملكة، فتفسر الظاهرة بأنها «طريقة سلمية من بنات الجيل الجديد للتعبير عن احتياجهن لقيادة السيارة، وأعتقد أنها طريقة آمنة من وجهة نظرهن»، مشيرة إلى أن الوعي الجديد بالحقوق والرغبة في عدم التصادم مع الدولة أجبر هؤلاء الفتيات على اللجوء إلى تلك الطريقة.
قد يعجبك أيضًا: 7 أسئلة تشرح أثر التحولات الثقافية في المجتمع
حتى تنطلق حملة نسائية جديدة للمطالبة بحق قيادة السيارة، سيبقى هذا الإرث مادة تاريخية تثبت تمدد وانحسار المطلب اجتماعيًّا، بينما الفصل مرهون بيد السلطة، التي لا تُولي هذا الأمر أي قيمة في الوقت الحالي على ما يبدو، ما دامت تحتكر حق التشريع وتستمر في رفض الضغوط من كل التيارات والشرائح والفئات، ممَّا دفع النسوة إلى التزام «الصمت».. مؤقتًا.