منذ نهاية الانتخابات البرلمانية، دخل العراق فى دوامة ما بعد النتائج التي لم تسفر عن فائز حقيقي نتيجة تقارب مقاعد كل كتلة، ما يجعل التحالف بين الكتل ضرورة حتمية.
ضرورة التحالف الحتمية تعرقلها الخلافات البينية والتوجهات الإقليمية لدى بعض الكتل على حساب الوطن العراقي، ما يجعل من فكرة اللجوء إلى مرحلة العراك المسلح احتمالًا واردًا بشكل كبير، وبخاصة أن كثيرًا من الكتل هددت وحذرت من الحرب الأهلية، سواء قبل الانتخابات أو بعدها.
كانت الانتخابات العراقية أسفرت عن تصدر تيار «سائرون» المدعوم من رجل الدين الشاب مقتدى الصدر نتيجة التصويت بعد حصوله على 54 مقعدًا، يليه تحالف «الفتح» الذراع السياسية لقوات الحشد الشعبي المدعومة إيرانيًّا، بـ47 مقعدًا، في حين حل ثالثًا تحالف حيدر العبادي، رئيس الوزراء المنتهية ولايته، في مفأجاة رآها بعضهم غير متوقعة.
الانتخابات التي لاحقتها تهم الفساد والتزوير منذ اللحظة الأولى لإعلان النتائج التي جاءت على غير هوى كثير من الساسة الذين سبقوا وهددوا بالحرب الأهلية حال حدوث انتهاكات في العملية الانتخابية، وسرعان ما تكررت تهديداتهم داعين إلى إلغاء الانتخابات وإعادتها.
منذ إعلان النتائج والصراع لا يتوقف بين القوى السياسية وسط اجتماعات وجولات متكررة من مسؤولين إيرانيين وأمريكيين مع القوى الفائزة، بالتزامن مع ذلك بدأت تحركات القوى الخاسرة للبقاء في المشهد عن طريق إثارة قضية الانتهاكات وشبهات التزوير التي صاحبت العملية الانتخابية.
عقد البرلمان العراقي، برئاسة سليم الجبوري الذي خسر مقعده في الانتخابات، أكثر من جلسة لمناقشة انتهاكات الانتخابات، وهو ما رأته القوى الفائزة محاولة للالتفاف على النتائج.
جلسات البرلمان التي فشل اثنتان منها في الانعقاد نتيجة غياب النصاب القانوني، نجحت ثالث جلساته التي عُقِدَت ظهر الأربعاء السادس من يونيو 2018، في إجراء تعديل على قانون الانتخابات يُلزِم المفوضية العليا المستقلة للانتخابات بـإجراء عملية فرز يدوي لأوراق التصويت.
جاءت جلسة البرلمان بعد يوم واحد فقط من تأكيد رئيس الوزراء العراقي، حيدر العبادي، بأن خروقات جسيمة وقعت في الانتخابات وهو ما رآه بعضهم نوعًا من تنسيق المواقف بين رئيس البرلمان سليم الجبوري الذي يعد أبرز الخاسرين في الانتخابات، ورئيس الوزراء العبادي المهدد بفقدان منصبه في الحكومة الجديدة.
شملت مواد التعديل إلزام المفوضية العليا المستقلة للانتخابات بإعادة العد والفرز اليدوي لكل المراكز الانتخابية في عموم العراق، وانتداب تسعة قضاة لإدارة مجلس المفوضية يتولون صلاحيات مجلس المفوضين بدلًا من مجلس المفوضية الحالي، على أن يوقف أعضاء مجلس المفوضين الحاليين ومدراء مكاتب المحافظات عن العمل لحين الانتهاء من التحقيق في جرائم التزوير التي أشار إليها مجلس الوزراء.
أثار قرار البرلمان حالة من الجدل وسط الكتل السياسية التي تباينت مواقفها بين الترحيب والرفض.
في ظل الخلافات المتصاعدة بين القوى السياسية دعا الرئيس العراقي فؤاد معصوم إلى اجتماع يوم السبت التاسع من يونيو 2018 بين الرئاسات الثلاث (الجمهورية والبرلمان والحكومة)، بحضور قادة الكتل السياسية لمناقشة تبعات ما بعد قرار البرلمان، والإجراءات التي يمكن اتخاذها لحل الأزمة، وهو الإجتماع الذي تغيَّب عنه العبادي.
تباين وجهات النظر، واختلاف المصالح، أجهضا محاولة لم الشمل. وفشل اجتماع الرئاسات فشل فشلًا ذريعًا عبَّر عنه رئيس البرلمان العراقي سليم الجبوري بقوله: «وجهات النظر كانت غير متطابقة بين المجتمعين، لكن علينا جميعًا احترام الإجراءات القانونية والتوجهات التي اعتُمِدَت، ولكي لا يؤدي ذلك إلى حالة من الفوضى والإرباك لا نستطيع معالجتها».
إقالة الرئيس
موقف رئيس الجمهورية فؤاد معصوم ومساعيه لحل الأزمة ووقف قرار البرلمان من خلال الطعن عليه أمام المحكمة الإتحادية أثار غضب قوى سياسية ونواب بالبرلمان الذين رأوا تحركاته ذات طابع حزبي، وليس وطنيًّا.
جاء حرق صناديق الاقتراع العراقية بعد كشف رئيس الإدارة الانتخابية رياض البدران، عن وجود نحو 800 ألف ورقة اقتراع مزيفة.
بدأ نواب بالبرلمان جمع توقيعات لإقالة معصوم من منصبه، موضحين أن تحركه يأتي دعمًا للجهة السياسية التي ينتمي إليها، وهي «الاتحاد الوطني الكردستاني» الذي تتهمه قوى سياسية كردية بممارسة عمليات تزوير ممنهجة في السليمانية شمال العراق.
في ظل هذه الأجواء والأزمات المتلاحقة حدثت الطامة الكبرى، فقد استيقظ العراقيون صباح الأحد 10 يونيو 2018 على خبر الحريق الذي التهم صناديق الانتخابات التي كان من المفترض أن يعاد إحصاؤها يدويًّا في إطار القانون الذي أقره البرلمان.
جاء حرق صناديق الاقتراع العراقية بعد كشف رئيس الإدارة الانتخابية رياض البدران، عن وجود نحو 800 ألف ورقة اقتراع مزيفة داخل صناديق الاقتراع، منها 170 ألفًا في بغداد فقط، ما يثير الشكوك في ضلوع المفوضية بهذه الحادثة للتغطية على التلاعب في صناديق الاقتراع.
جريمة متعمدة
رأت معظم القوى السياسية أن حادث حرق صناديق الاقتراع متعمَّد، وتقف وراءه جهات تريد عرقلة المسار الديمقراطي للبلاد.
وصف رئيس الوزراء العراقي، حيدر العبادي، حرق المخازن الانتخابية التي تضم نصف صناديق الاقتراع في بغداد، بأنه «مخطط لضرب البلد ونهجه الديمقراطي».
بدوره استغل رئيس مجلس النواب العراقي سليم الجبوري الحادثة في تكرار دعوته بإعادة الانتخابات التشريعية.
ائتلاف الوطنية الذي يقوده إياد علاوي دعا منذ إعلان النتائج إلى إلغاء الانتخابات وإعادة إجرائها في وقت لاحق، مع إبقاء الحكومة الحالية لتصريف الأعمال إلى حين توفير الظروف الملائمة لإجراء انتخابات في فترة من ستة إلى ثمانية أشهر.
بعد حريق الصناديق دعا علاوي إلى إجراء استفتاء شعبي حول قبول نتائج الانتخابات التشريعية المطعون بها مؤخرًا، أو تنظيم انتخابات جديدة.
من جانبه، حذر مقتدى الصدر، زعيم ائتلاف سائرون الذي تصدَّر الانتخابات، من نشوب حرب أهلية في البلاد.
دعا الصدر في رسالة، الاثنين 10 يونيو، إلى الوقوف صفًّا واحدًا بدلًا من حرق صناديق الاقتراع، أو إعادة الانتخابات، منوهًا مرة أخرى بضرورة نزع السلاح وتسليمه للدولة.
نوري المالكي، نائب رئيس الجمهورية وزعيم ائتلاف دولة القانون الذي سبق وهدد بحرب أهلية حال حدوث تلاعب بالانتخابات، أعلن رفضه تشكيل حكومة وفق نتائج انتخابية «مزورة»، داعيًا إلى «مطابقة شاملة» لأوراق الاقتراع مع نتائج الأجهزة الإلكترونية.
لا يمكن الجزم بهوية الجهة التي تقف وراء حرق صناديق الاقتراع، لكنها بالتأكيد جزء من صراع سياسي في «عراك» ما بعد الانتخابات.
من جهته، رأى ضياء الأسدي، وهو أحد كبار مساعدي الصدر، الحريق «مؤامرة تهدف إلى فرض إعادة الانتخابات»، بحسب تغريدة له.
اقرأ أيضًا: طموحات متعارضة: «عراك» ما بعد انتخابات العراق
من أحرق صوت العراق؟
أعلنت وزارة الداخلية العراقية، في بيان لها الأربعاء 13 يونيو 2018، أن تقرير الأدلة الجنائية كشف عن استخدام البنزين في حريق مخازن مفوضية الانتخابات، وأكد الناطق بإسم الوزارة أن حريق مخازن المفوضية حدث بفعل فاعل.
بالتأكيد لا يمكن الجزم بهوية الجهة التي تقف وراء حرق صناديق الاقتراع، لكنها بالتأكيد جزء من صراع سياسي في «عراك» ما بعد الانتخابات، وبخاصة أن حادث التفجير سبقه حوادث أخرى كانت ذات طابع سياسي أكثر منها إرهابي. فقد شهدت مدينة الصدر، فى الأربعاء 6 يونيو، معقل الزعيم الشيعي مقتدى الصدر، تفجيرًا إرهابيًّا سقط فيه جرحى.
قبل انفجار الصدر بأيام شهد مقر الحزب الشيوعي (حليف الصدر في تيار سائرون) انفجارًا استهدفه بعبوات ناسفة ألقاها مجهولون، ما أسفر عن سقوط ثلاثة جرحى.
الإنفجارات التي استهدفت «سائرون» ربما ترافقت مع مواقف معينة أبداها الزعيم الشيعي مقتدى الصدر تجاه بعض القوى السياسية في وقت سابق.
تحول مفاجئ
فوجئ العراقيون، مساء الثلاثاء 12 يونيو، بالإعلان عن تحالف بين تيار سائرون، بزعامة الصدر، وائتلاف الفتح، بزعامة هادي العامري، القيادي المقرب من إيران، ما أثار صدمة لدى الحزب الشيوعي العراقي شريك الصدر في قائمة سائرون.
بالتزامن مع تحالف سائرون والفتح اجتمع نوري المالكي، رئيس ائتلاف دولة القانون المقرب من إيران، مع وفد تحالف الفتح، برئاسة قيس الخزعلي، القيادي بالحشد الشعبي، لبحث تنسيق المواقف وتشكيل التحالف الوطني الشامل، ما يعني أن تيار الصدر تحالف مع الفتح، واقترب من ائتلاف القانون المقربين جدًّا من إيران.
الغريب في تحالف الصدر مع العامري هو المواقف السابقة لزعيم سائرون التي اعتاد أن يهاجم فيها الحشد الشعبي وقياداته، ووصل الأمر بالصدر إلى أن وصف الحشد بـ«الميليشيا الوقحة».
وسبق أن شن الصدر هجومًا شديدًا على نوري المالكي، موضحًا أنه وراء سقوط الموصل في يد تنظيم داعش، ويتحمل مسؤولية كل جرائم التنظيم بحق أبناء الشعب العراقي.
ابحث عن إيران
التحول في موقف زعيم التيار الصدري ليس بعيدًا عن النفوذ الإيراني في العراق، ويكشف حجم إيران وتأثيرها في تغيير خارطة السياسة العراقية، وبخاصة بعد الزيارة الأخيرة التي أجراها نجل المرشد الأعلى للثورة الإيرانية، مجتبي خامنئي، وقائد فيلق القدس قاسم سليماني للعراق، واجتماعهم بقيادات ائتلاف الفتح بزعامة هادي العامري، ودولة القانون برئاسة نوري المالكي، وذلك بعد ساعات قليلة من حريق صناديق الاقتراع في خزائن مفوضية الانتخابات.
وموقف الصدر الجديد أشبه بصفعة إيرانية للسعودية في صراعهما الإقليمي بالعراق، وبخاصة أن الرياض كانت ترى انتصار سائرون فوزًا لها على معسكر إيران، الأمر الذي ردت عليه طهران بنجاحها في التحالف بين الصدر والعامري.
يمثل تحالف سائرون مع الفتح نهاية أحلام رئيس الوزراء حيدر العبادي في الاحتفاظ بمنصبه، وخصوصًا في ظل طموحات هادي العامري المقرب جدًّا من إيران في تولي المنصب مستغلًّا عدم جواز ترشح الصدر لعدم خوضه الانتخابات، إضافة إلى رغبة إيرانية في استبدال العبادي.
أيام صعبة
يبدو المستقبل العراقي غامضًا بشكل كبير في ظل مخاوف كبيرة من دخول البلاد في مرحلة فراغ دستوري مع نهاية ولاية البرلمان الحالي آخر يونيو 2018، وعدم جواز التمديد له.
بعيدًا عن الصراعات السياسية تبدو بلاد العراق في حاجة لوحدة بين مكوناتها في ظل التحديات الخارجية التي تنتظرها، إذ تمثل السياسات التركية حيال العراق تحديًا كبيرًا، وبخاصة بعد إعلان أنقرة بدء استعدادتها لتنفيذ عملية عسكرية بجبال قنديل شمال العراق لمطاردة عناصر حزب العمال الكردستاني، واحتلال المنطقة لفترة ليست بالقصيرة، بحسب تصريحات المسؤولين الأتراك.
إضافة إلى الأزمة المائية التي تمر بها البلاد نتيجة إنشاء تركيا سد «إليسو»، ما تسبب في انحسار مياه نهر دجلة بشكل كبير، والذي يؤثر في القطاع الزراعي ببلاد الرافدين.
يبدو العراق على أبواب أيام صعبة داخليًّا وخارجيًّا، ولا يمكن التنبؤ بما يمكن أن تسفر عنه الساعات القادمة، فتحالف الصدر/العبًّادي قلب كل الحسابات في بلاد الرافدين بصورة أصبحت معها كل الخيارات المستبعَدة متاحة، والمستحيلة ممكنة.
يبقى السؤال: هل يصمت معسكر أمريكا على الهدف الذي أحرزته إيران، أم تعزز الأخيرة وجودها بأهداف ونجاحات جديدة؟ الأيام وحدها كفيلة بالإجابة عن هذه التساؤلات. فلنصبر، وننتظر.