تطهير عِرقيٌّ وقُرًى محرَّقة ومجاعات واغتصابات جماعية، هذا هو ملخَّص الوضع الذي عاينه خبراء الأمم المتحدة خلال جولتهم الميدانية في جنوب السودان أواخر 2016.
ورغم ما يصدِّره الواقع الحالي من مشاهد بشعة فإن له خلفية أكثر بشاعة، فـمنذ اندلاع الحرب الأهلية في ديسمبر 2013 لقي ما لا يقلُّ عن 50 ألف إنسان مصرعهم، وهُجِّر أكثر من 2.3 مليون نسمة، في حين يواجه ستة ملايين فرد خطر المجاعة.
موقع «Vox» الأمريكي عرض تقريرًا يتتبَّع مراحل وأصول الصراع بين شمال وجنوب السودان الذي لم يُنهِه انفصالهما في 2011، وأجاب التقرير عن عدة تساؤلات حول ذلك الصراع وأسبابه وأطرافه، ودور الولايات المتحدة الأمريكية فيه.
جنوب السودان: أَمَدٌ من النزاعات
الصراعات المسلحة ليست جديدة على جنوب السودان، الذي يدين مواطنوه بالمسيحية وعدد من الديانات الأخرى، فقد دخل في حرب أهلية مريرة استمرت نحو 22 عامًا مع حكومة الشمال المسلمة الناطقة بالعربية.
انتهت الحرب باتفاق سلام عام 2005 بين الحركة الشعبية لتحرير السودان والرئيس عمر البشير، بإسهام من أمريكا وبريطانيا والنرويج والهيئة الحكومية للتنمية (IGAD)، وهي منظمة للتعاون بين ثمانية دول إفريقية تضم جيبوتي وإثيوبيا وكينيا والسودان والصومال وأوغندا وإريتريا وجنوب السودان.
أشاد معظم قادة العالَم باستفتاء انفصال الجنوب واعتبروه انتصارًا للسلام.
رجَّعت الكاتبة الأمريكية المهتمة بالشأن السوداني «ريبيكا هاميلتون» (Rebecca Hamilton)، نشاط الولايات المتحدة في عملية السلام بجنوب السودان إلى مجموعة من أعضاء الكونغرس يُعرَفون بـ«ائتلاف السودان»، عمِلوا عقودًا لجعل قضية الصراع هناك على قائمة أولويات السياسة الخارجية الأمريكية.
وغير ذلك، كان للجماعات المسيحية في الولايات المتحدة دور، إذ رأت ضرورة النضال ضدَّ حكومة شمال السودان المسلمة من أجل حقوق المسيحيين في الجنوب، بحسب هاميلتون.
تَضمَّن اتفاق 2005 جدولًا زمنيًّا لإجراء استفتاء شعبي على قرار تقسيم السودان واستقلال الجنوب عن حكومة الشمال، وأُجرِيَ هذا الاستفتاء في 2011، وأسفر عن أغلبية ساحقة بنسبة 99% لصالح قرار الانفصال، وهو ما أشاد به معظم قادة العالَم واعتبروه انتصارًا للسلام.
ويدين بعض مواطني جنوب السودان بالفضل في الانفصال عن الشمال لأمريكا، فقد ظهر أحد المحتفلين في جوبا، عاصمة الدولة الجديدة، يرفع لافتة كتب عليها «شكرًا جورج بوش».
اقرأ أيضًا: العصيان المدني في السودان: هل يدفع البشير ثمن جرائمه أخيرًا؟
عودة صراعات القبائل
اختفت التوترات العرقية التي طالما اشتعلت بين أكثر من 60 قبيلة في جنوب السودان، وعلى رأسها أكبر قبيلتين؛ «الدِّنكا» (Dinka) و«النوير» (Nuer)، لكن اختفاء تلك الصراعات كان مؤقتًا فقط.
«هيلدا جونسون» (Hilde Johnson)، مبعوثة الأمم المتحدة السابقة إلى جنوب السودان، تقول إن لعنة الاستقلال أصابت شعب الجنوب، فأصبحت كل طائفة تشعر بأن لها الحقَّ في اعتلاء سلطة البلاد، وأن دورها حان لأخذ نصيبها من الكعكة، وهو ما لاحظه «سلفا كير» (Salva Kiir) رئيس جنوب السودان بعد الاستقلال، وجعله يدعو في خطاب إعلان الاستقلال الرسمي إلى أن يكون التنوُّع العرقي سببًا في الوحدة والقوة لا الخلاف.
قد يهمك أيضًا: كيف تعني «الوطنية» كُره الآخر؟
خلافات الرئيس والنائب
في 2013، اتهم كير نائبه بمحاولة الانقلاب عليه.
أظهر حديث سلفا كير عقب تولِّيه المسؤولية تسامُحًا كبيرًا ونبذًا للصراعات العرقية الداخلية، إلا أنه في النهاية أحد أفراد قبيلة الدِّنكا، ولإثبات حسن نيَّته عيَّن نائبًا له من أبناء قبيلة النوير، ثاني أكبر قبائل الجنوب، هو «رياك مشار» (Riek Machar)، الذي أغار في 1991 مع مقاتلي قبيلته على المدنيين من الدِّنكا، وقتلوا منهم نحو ألفي شخص في مذبحة شنيعة.
تَوقَّع كير أن تخمد نار الصراع بين القبيلتين بعد تعيين رياك مشار نائبًا، إلا أن الأخير لم يلبث أن بدأ ينتقد سياسات الرئيس في بداية 2013، تحديدًا في ما يتعلق بإدارة اقتصاد البلاد، وأعلن نيته منافسة كير على رئاسة الجمهورية عام 2015، وجاء رد سلفا كير في يوليو 2013 بعزل مشار ومعه 28 من الوزراء، وهو ما هدَّأ الأوضاع لعدة أشهُر.
عادت الاشتباكات في ديسمبر 2013 بين القوات الموالية لمشار وتلك التي في صَفِّ كير، مما دفع الرئيس إلى اتهام نائبه السابق علنًا بمحاولة الانقلاب على نظام الحكم.
أصوات أخرى أكَّدت أن سبب النزاع محاولة الحرس الرئاسي المكوَّن من مقاتلي قبيلة الدِّنكا نزع سلاح قبيلة النوير التي ينتمي إليها مشار، وهكذا عاد الصراع السياسي إلى أصله صراعًا عرقيًّا قديمًا، وراح ضحية ذلك نحو ألف قتيل وما يقرب من مئة ألف نازح في الأسبوع الأول من القتال.
بعد أن تجاوز عدد القتلى عشرات الآلاف، وقَّع الطرفان اتفاق سلام في أغسطس 2015 برعاية الهيئة الحكومية للتنمية (IGAD)، وعاد بمقتضاها مشار إلى العاصمة جوبا لممارسة عمله نائبًا لرئيس الجمهورية، لكنه اصطحب معه وحدة من المقاتلين الموالين له خوفًا على حياته، وبالفعل تحققت ظنونه ووقع اشتباك بين قواته وموالين لكير، فاضطُرَّ إلى مغادرة العاصمة مرة أخرى.
لم ينتظر سلفا كير طويلًا بعد التخلُّص من الصراع مع مشار وقبيلته حتى دخل في صراع آخر مع قبيلة «الاستوائيين» (Equatorians)، وفي أكتوبر 2015 قرَّر الرئيس إعادة ترسيم الحدود الإدارية الداخلية للبلاد، ليصبح عدد الولايات 28 بدلًا من عشر ولايات.
أسهمت خطوة إعادة ترسيم الحدود في زيادة غضب الاستوائيين، إذ اعتبروا أن الهدف من القرار تحجيم سيطرتهم لصالح قبيلة الدِّنكا. كان ردُّهم هو حمل السلاح، لكن النزاع أسفر عن تدمير نحو 1900 من منازل الاستوائيين.
قد يعجبك أيضًا: ربما يصبح العالم أكثر سلامًا تحت حكم المجانين
كيف ننزع سلاح جنوب السودان؟
طالبت «ياسمين سوكا» (Yasmin Sooka)، رئيسة بعثة الأمم المتحدة إلى جنوب السودان، المجتمع الدولي بالتدخل، وحذَّرت بعد عودتها من أن الوضع يكاد يصل إلى الإبادة الجماعية كما حدث في رواندا، وأن هناك ما يُنذِر بوقوع ذلك في ظلِّ تَصاعُد نبرة الكراهية في الخطاب الإعلامي.
وبحسب سوكا، يمكن سماع أشخاص يصرِّحون في كل مكان باستعدادهم لإراقة الدماء من أجل استرداد أراضيهم.
منظَّمة «IGAD» وروسيا والصين جزء أصيل من مشكلة الجنوب.
تسعى الولايات المتحدة الأمريكية في الوقت الحالي إلى استصدار قرار أممي بنزع السلاح في جنوب السودان بطرق مختلفة، منها تطبيق العقوبات على مشار و«بول مالونج» (Paul Malong)، قائد قوات سلفا كير، إلا أنه من المتوقَّع أن لا تحصل أمريكا على عدد الأصوات الكافي من أعضاء مجلس الأمن لاستصدار هذا القرار.
وتُعتبر دول منظَّمة «IGAD» جزءًا أصيلًا في المشكلة، لأن معظمها له مصالح في جنوب السودان تتعارض مع الخطوات المطلوبة لوقف أعمال العنف.
على سبيل المثال، تُعَدُّ أوغندا، التي تجمعها بسلفا كير علاقات قوية، أبرزَ المعارضين صراحةً لنزع السلاح من جنوب السودان، فضلًا عن أن الدول المصدِّرة للأسلحة مثل روسيا والصين ستعترض على مثل هذه الإجراءات لأنها ستعرضها لخسائر مادية.
وفي ظل شبكة معقدة من المصالح الفردية لكل دولة، وعناد القبائل لفرض سيطرتها على أكبر مساحة من أراضي البلاد، يدفع المدنيون ثمن ذنب لم يقترفوه سوى أنهم وجدوا أنفسهم يعيشون على تلك البقعة من العالم.