هذا الموضوع ضمن ملف «الثورة والثوار»، لقراءة موضوعات أخرى في الملف اضغط هنا.
الموضوع متوفر صوتيًّا كذلك، يمكنك الاستماع إليه هنا.
ربما فكَّر «هانتر طومسون» أن هناك صياغة صحفية أفضل من التي ملأت صفحات مجلة «تايم» حتى مطلع الستينيات، غير أن بدايةً كهذه في عالم الصحافة لن تصل به إلى مكتب مدير التحرير قريبًا. ربما كانت مدخلًا جيدًا لراحة البال، أو هكذا يُخيَّل لمتابع سيرته.
فبعد أن صُرف مبكرًا من الخدمة العسكرية لطباعه غير المنقادة لتنفيذ الأوامر، شغل وظيفة عامل نسخ بمجلة «تايم» مقابل 51 دولارًا أسبوعيًّا، يطبع التقارير الصحفية وينقلها من مكان إلى آخر في المجلة.
لكنه كان نشط الذهن، يقضي وقتًا طويلًا تحت تأثير الماريوانا وقراءة كتب «إرنست هيمنغواي» (Ernest Hemingway) و«سكوت فيتزغيرالد» (Scott Fitzgerald)، فيفكر أن العالم يتحرك بمعدل أسرع من رغبته في مجاراته، ويضطره ذلك لترك وظائفه بسهولة، إما لشجاراته الكثيرة مع مديريه، أو لحظه العاثر الذي يجرُّه إلى صدامات جسدية مع مُعلِنٍ ما بالجريدة، فيُفصَل إكرامًا له.
ولهذا أحب «طومسون» مخدر «الأسيد» (Acid)، الذي خلق في رأسه احتمالات أكثر من التي ينحصر فيها الأمر الواقع عادة. وحين كُلف بتغطية سباق «المينت 400» (The Mint 400) في مدينة لاس فيغاس الأمريكية عام 1971، كان عليه الاختيار بين أمرين: إما أن يستسلم لشعوره بالفشل في أداء المهمة، وإما يلعب لعبة صغيرة تُخرجه بأقل الخسائر.
الرجل في نهاية الأمر لن يتمكن من دفع أقل فواتيره تكلفةً إن أخفق هذه المرة. منذ عدة سنوات، في 1965، ترك عمله في جريدة (National Observer)، وكان على وشك التحول إلى صحفي عاطل يشحذ في شوارع سان فرانسيسكو، لكن المدينة التي وضع سُكَّانها الورد في شعرهم، بحسب ما غنى في ما بعد «سكوت ماكنزي» (Scott Mc Kenzie)، لم تخذله.
أسندت إليه صديقة تغطية قصة صحفية عن بعض راكبي الدراجات النارية صُنِّفوا جماعةً خارجة على القانون، كتبها بعنوان «ملائكة الجحيم» (Hell's Angels) وحصل في مقابلها على مئة دولار، بعد أن قضى قرابة عام بصحبة هذه الجماعة يوميًّا. القصة تركت علامة قوية في مجال الكتابة الصحفية، تطوَّرت في ما بعد لتصنف باسم «الصحافة الجديدة» (New Journalism) أسماه «طومسون» «الغونزو» (Gonzo).
لولا هذا، لكان «هانتر طومسون» يجلس على أرصفة حي «هايت أشبوري» (Haight Ashbury) في كاليفورنيا، يرتل على مجموعة من الطلبة، تركوا الدراسة لتوهم وتفرغوا لطوابع الهلوسة، إنجازاته غير المعتَرف بها في عالم الصحافة.
لم يدر «طومسون» أن كتابته هذه القصة جسَّدت أسلوبًا جديدًا كانت الصحف والمجلات في حاجة إليه.
خلال رحلته إلى لاس فيغاس عام 1971، التي كلفته بها مجلة «سبورت» وأغرقها بجميع أنواع المخدرات والمهلوسات والمهدئات والمنشطات والمنومات، كان عليه كتابة قصة صحفية عن سباق «المينت» وإرسالها للمجلة.
ورغم أن السباق فاته وهو في فورة صور خيالية إثر جرعة «ميسكالين» شديدة في غرفة الفندق، استطاع الرجل تحويل ما جرى له في هذه الرحلة إلى تقرير طويل من ألفين و500 كلمة. رفضته «سبورت»، لكن أُعجب به رئيس تحرير جريدة «رولينغ ستون»، ونشره بعنوان «الخوف والاشمئزاز في لاس فيغاس» (Fear and Loathing in Las Vegas).
ولم يدر «طومسون» أن كتابته هذه القصة، التي تحولت في ما بعد إلى كتاب وفيلم، جسَّدت أسلوبًا صحفيًّا جديدًا كانت الصحف والمجلات تحتاج إليه قبل دخول الألفية الجديدة.
اقرأ أيضًا: كيف أسهمت المخدرات في تطور البشرية؟
«الغونزو»: كيف تكتب ما تشاهده؟
يُرجَّح اقتران الإسهامات التجريبية في فن الصحافة بأسماء قليلة، لأن المهنة في الأساس حديثة العهد، مقارنة بتجارات وصناعات أخرى حفرت تقاليدها منذ حقب قديمة.
الصحافة التي ازدهرت بقوة بعد الثورة الصناعية، هدفها البسيط أن تجيب عن تساؤل: كيف تحكي ما حدث لشخص لم يشاهده؟ غير أن الشكل التقليدي الذي يعتمد على تقديم المعلومات المطلقة دون إضافة رؤية الصحفي أو دوره خلال نقلها، سيطر عليها فترة طويلة، وكان على أحد أن ينتهك تلك الخصوصية، ويُطلق سراح صور صحفية أخرى تعبِّر عن تطور البشرية.
كيف يمكن أن تُخبر عن سقوط بناية في مدينة كبيرة بإحدى دول العالم الثالث؟
يمكن لخبر صحفي تقليدي أن يقول إن البناية سقطت في يوم كذا وساعة كذا في مكان كذا ونتج عن ذلك كذا، ويمكن لقصة عن أحد الذين عايشوا الحادث أن تعرض زوايا أكثر، ويمكن لربط الواقعة بأحداث سابقة أن يجعل من الخبر تحقيقًا استقصائيًّا جيدًا.
«هانتر طومسون» فكر أنه في غِنى عن تلك الأنماط كلها، ليس لإحساسه بوجود نمط أكثر صلاحية؛ بل ربما لأنه كان يقضي وقتًا طويلًا في جمع المعلومات المتعلقة بالقصة، فشعر بأهمية هذه المرحلة وما حدث للصحفي في أثناء كتابة القصة.
لذلك كان نمطه في الكتابة الصحفية يعتمد على سرد ما حدث له خلال رحلة وصوله إلى البناية المنهارة ومراحل تجميعه المعلومات عنها، وتهميش حدث الانهيار نفسه.
كسر الرجل الحواجز الأخلاقية واللغوية في أثناء الكتابة، باستخدام الألفاظ الدارجة والعادات التي يرفضها المجتمع كجزء من تكوين التقرير الصحفي، الذي يطل من خلاله بطل خيالي، يكون في غالبية الأحوال، الصحفي نفسه أو شخصًا تحت اسم مستعار، يُقحم نفسه في القصة التي شارك بالتحري عنها.
قد يعجبك أيضًا: سيد حجاب: المتمرد الذي رفض أن يكون شاعر المثقفين
النيو جورناليزم
يبدأ «طومسون» يومه في الثالثة عصرًا باستنشاق الكوكايين واستحلاب طوابع «الأسيد»، ثم يبدأ الكتابة.
كانت هذه هي كتابة «الغونزو»، التي اعتُبرت موجة تكميلية لـ«النيو جورناليزم» أو الصحافة الجديدة، التي ظهرت بشكل محدود في صحف الستينيات بالولايات المتحدة.
الحديث عن الموضوعية في كتابة «الغونزو» لم يكن طرحًا مقبولًا عند كُتَّابها، ومن ضمنهم «طومسون»، الذي كان يُقحم نفسه في القصة التي يكتبها دومًا، فلا مجال للموضوعية في الصحافة وفق رأيه، في عالم أصبح الغريب فيه أمرًا واقعًا، يحتِّم على المرء التعامل معه بوسائل غير تقليدية أيضًا.
الطريقة الأمثل لكتابة «الغونزو» بالنسبة إلى «طومسون» كانت نقل ما يحدث كما يراه ناقله. يستقبل «طومسون» يومه في الثالثة عصرًا، يرحب بالعالم باستنشاق عدة سطور من الكوكايين واستحلاب طوابع «الأسيد»، ثم يبدأ الكتابة وتدوين ما يراه ويحدث له في أثناء تغطية الحدث الذي كُلِّف به.
يبدو هذا الشكل الجديد محفزًا لصحافة متحررة من القيود التقليدية وكتابة تسخر من الأوضاع الراهنة، وهو ما سيتطور في ما بعد ليبدأ عصر برامج الـ(Satire) أو الصحافة الساخرة، التي ملأت شاشات التليفزيون الأمريكي.
لقد أسهم نهج «طومسون» العام في الحياة في نشأة هذا النوع من الصحافة، إذ يسير الرجل في الشوارع متحفزًا لأي شرطي، ويتجرع البيرة في أثناء القيادة، ويطلق الرصاص في حديقة منزله.
بدت حياته ملائمة تمامًا للصور الصاخبة التي عاشتها الولايات المتحدة في الستينيات: الإضرابات العمالية وتظاهرات الطلاب ضد الحرب في فيتنام ومسيرات المطالبة بالحقوق المدنية والاشتباكات مع الشرطة وصراخ «جيم موريسون» (Jim Morrison) على المسرح ووفود الحُفاة التي حضرت مهرجان «وودستوك» في 1969، وحجزت لنفسها مكانًا في عالم جديد صوَّرته لهم طوابع «الأسيد» والثورة الوجودية التي انتشرت في الهواء.
كان على «طومسون» أن يجد ملاذًا وسط كل هذا وقد انتقل إلى الورق، ومكَّنه من ذلك عمله مع عدد لا يستهان به من الصحف والمجلات الكبيرة في الولايات المتحدة وبورتوريكو والبرازيل، مراسلًا ومحررًا وصحفي سيارات وباحثًا في الصحافة، وكارهًا للرئيس الأمريكي حينها «ريتشارد نيكسون» (Richard Nixon).
قد يهمك أيضًا: كيف يمكن عزل الرئيس الأمريكي؟
إن لم تستحِ فاصنع ما شئت، حرفيًّا
رغم عمله في جريدتي «نيويورك تايمز» و«هاربور» وغيرها من المؤسسات الصحفية الكبيرة، فإن أولى كتاباته التي التزمت أسلوب «الغونزو» ظهرت على صفحات مجلة أمريكية مستقلة مغمورة اسمها «سكانلان»، كانت تتبنى الموضوعات التي تُكتب بطرق الصحافة الجديدة، لكنها لم تحظَ بشعبية كبيرة.
نشر «طومسون» مع «سكانلان» موضوع «سباق خيول كنتاكي» في 1970، الأمر الذي أكسبه شهرة جيدة في الأوساط الصحفية، خصوصًا عند «بيل كوردوسو» (Bill Cardoso) رئيس تحرير «بوسطن غلوب» في ذلك الوقت، الذي أبدى اندهاشه من أسلوب «هانتر طومسون» غير التقليدي في الكتابة الصحفية، إذ كان «طومسون» في هذا التقرير قد اكتسب أسلوبًا فريدًا دون أن يدري، أطلق عليه «الغونزو».
رحلاته عبر أمريكا الجنوبية والعمل بأكثر من جريدة ناطقة بالإنجليزية وفصله من عددٍ منها لعدم التزامه بالقوانين، كتعاطيه المهلوسات والماريوانا والكوكايين، كل ذلك أكسبه شعورًا بالخفة انعكس على الكتابة.
نال أسلوب «الغونزو» حظه من المدح والذم على حد سواء، فـرأى بعض الصحفيين في أمريكا وقتها أن غياب الموضوعية عن التقرير الصحفي ينزع عنه عنصرًا أساسيًّا التزمت به الصحافة فترة طويلة.
على الأقل هذا ما آمن به الصحفي الأمريكي «جاك نيوفيلد» (Jack Newfield)، ففي رأيه أن هناك كتابة صحفية جيدة وأخرى سيئة، هناك صحفي كسول وآخر يطوِّر نفسه. غير ذلك لا توجد مدارس صحفية تنمِّط الصحافة.
أما الصحفي «توم وولف» (Tom Wolfe)، فأثنى على فكرة أن تحل الصحافة الجديدة محل الرواية، فالأولى في نظره مثَّلت نوعًا جديدًا من الكتابة يورط الصحفي في أحداث التقرير الذي يكتبه، ويقدم للقارئ قصة طويلة عن حدث ما، تُرسم تفاصيلها بطابع روائي.
يقول «هانتر طومسون» إن الصحافة الموضوعية السبب في فساد الولايات المتحدة، مشددًا على أنه من المستحيل أن يكون المرء، على سبيل المثال، محايدًا بشأن الرئيس «نيكسون».
على أي حال، انتحر الرجل في فبراير 2005، فلا مجال للموضوعية في رأيه كما أشرنا سابقًا، ومن المرجح أنه لم ير موضوعية في جدوى الاستمرار في هذا العالم.