ما زال صدى خروج المملكة المتحدة من الاتحاد الأوروبي في الاستفتاء الذي أجري في يوليو 2016 يُسمع داخل القارة، إذ أعلنت بعده اسكتلندا نيتها إجراء استفتاء يسمح لها بالاستقلال عن بريطانيا، كما أعقبه استقالة رئيس الوزراء البريطاني ديفيد كاميرون.
ليس من المرجح أن تتلاشى تداعيات هذا الحدث قريبًا، بعد أن خلق حالة من الفوضى داخل الاتحاد الأوروبي، خصوصًا مع صعود أحزاب اليمين المتطرف في عدة دول وترحيبها بهذا القرار، وعزمها اتخاذ نفس الإجراء في حالة وصولها إلى الرئاسة.
لذلك تكتسي الانتخابات الرئاسية الفرنسية أهمية استثنائية، كونها ستحدد مستقبل الاتحاد الأوروبي، لا سيما أن المنافسة على منصب الرئاسة تنحصر بين قطبين سياسيين، أحدهما مع البقاء داخل الاتحاد والآخر مع الخروج، بحسب مقال نشرته صحيفة «The Economist».
فرنسا اليوم
مرت سنوات عديدة منذ آخر محاولة جادة لإصلاح الأوضاع داخل فرنسا. البلد الذي كان موطن ثورة عصفت بأنظمة الحكم القديمة، وأرض الحرية والمساواة والإخاء، أصبح يعاني، بحسب المقال، من ركود اقتصادي وسياسي لم تنجح الأحزاب المتناوبة على السلطة في إيجاد حلول له.
الفرنسيون هم أكثر شعوب العالم تشاؤمًا.
لكن، تعِد الانتخابات الرئاسية لعام 2017 بنتائج مغايرة، لأن المنافسة لم تعُد منحصرة بين الحزبين الجمهوري والاشتراكي فقط، كما كان الحال منذ تأسيس الجمهورية الخامسة (النظام الذي تأسس على يد شارل ديغول بعد جلاء النازيين) عام 1958، إذ يرجَّح أن يُستبعد الحزبان من السباق الرئاسي خلال الاقتراع الذي سيُعقد في 23 من إبريل، خاصة بعد صعود نجم المرشحين «مارين لوبان»، القيادية في الجبهة الوطنية لأقصى اليمين، و «إيمانويل ماكرون»، زعيم الحركة الليبرالية المؤسسة حديثًا «En Marche».
يرى كاتب المقال أن التوجه نحو تفضيل أحد الحزبين، الجبهة الوطنية أو الحركة الليبرالية، هو نتيجة مباشرة لغضب الناخبين الفرنسيين على السياسات الفاشلة للطبقة الحاكمة. فالرئيس الاشتراكي فرانسوا هولاند فقد الشعبية التي كان يتمتع بها، لذلك فضل أن لا يترشح لولاية ثانية، أما حزب يمين الوسط الجمهوري، ممثل المعارضة، فتضاءلت حظوظه بعد كشف مرشحه «فرانسوا فيلون» أنه يتعرض للتحقيق على خلفية صرف مبالغ مالية مشبوهة من المال العام على زوجته وأبنائه.
كشفت حالة الطوارئ الانقسامات الثقافية العميقة داخل المجتمع الفرنسي.
ما يزيد من تأجيج غضب الناخبين الفرنسيين هو حالة السخط العامة تجاه الحكومة الفرنسية، إذ وجد استطلاع أجري في 2016 أن الفرنسيين هم أكثر شعوب العالم تشاؤمًا، وأكد 81% ممَّن أجابوا على أسئلة الاستطلاع أن العالم يتجه إلى الأسوأ، في مقابل 3% فقط قالوا إن العالم يسير نحو الأفضل.
قد يهمك أيضًا: هل أنت غاضب؟ جيد.. يمكنك تغيير العالم
هذه النظرة المتشائمة للعالم حصيلة أوضاع اقتصادية راكدة، فربع الشباب الفرنسي عاطلين عن العمل، وبين أولئك الذين حصلوا على وظائف، نسبة قليلة فقط تجد عملا دائمًا، أما من يقرر إنشاء مشروعه الخاص، فمع الضرائب المرتفعة والتعقيدات الإدارية يصير الاستثمار في الخارج أنسب خيار متاح.
إذا أضفنا الهجمات الإرهابية المتكررة التي عمَّمت حالةً من القلق والتوجس، وأجبرت المواطنين على العيش تحت حالة الطوارئ، وكشفت الانقسامات الثقافية العميقة داخل المجتمع الفرنسي، فليس مستغربًا أن تحدث قطيعة بين الناخبين الفرنسيين والأحزاب التي حكمتهم لعقود طويلة.
خيارات انتخابية متعارضة
استفاد إيمانويل ماكرون ومارين لوبان في رأي كاتب المقال من هذه الإحباطات المتراكمة، فقدم كلٌّ منهما حلولًا مختلفة للأوضاع التي تعاني منها الدولة الفرنسية.
تُلقي لوبان اللوم على القوى الخارجية، وتَعِدُ الناخبين بإقامة المزيد من الحدود الوطنية وزيادة الرفاهية الاجتماعية، تاركةً خلفها ماضي حزبها المعادي للسامية، وتوجه النداء إلى كل من يريد أن يعيد إلى فرنسا هيبتها السابقة.
نجدها كذلك تصرح أن الإسلاميين خطر على الثقافة الفرنسية، وتتعهد بإغلاق المساجد المتطرفة وإيقاف تدفق المهاجرين. إضافةً إلى هذا، فهي تَعُدُّ العولمة تهديدًا لسوق العمل الفرنسية، وتعتزم الحدَّ من التجارة الخارجية والعودة إلى الفرنك الفرنسي، وإجراء استفتاء لمغادرة الاتحاد الأوروبي.
اقرأ أيضًا: ربما يصبح العالم أكثر سلامًا تحت حكم المجانين
في المقابل، يرى المرشح إيمانويل ماكرون أن الانفتاح أكثر سيجعل فرنسا أقوى، لذلك يشجع التجارة والمنافسة الاقتصادية ويوافق على استقبال المهاجرين ويؤيد البقاء في الاتحاد الأوروبي، كما يشجع التغيير الثقافي والتكنولوجيا المزعزعة، أي الابتكارات التي تؤدي إلى تحولات جذرية في مجالها، ويصرح بأن تقليص نسبة البطالة لن يتحقق إلا بالحدِّ من الحماية العمالية والانفتاح على نظام التجارة العالمي.
أيًّا كانت النتائج، فإن فوز أحد المرشحين سيمثل ثورة على الوضع الراهن، إذ يعني انتصار ماكرون أن التوجه الليبرالي ما زال يجذب الأوروبيين، بينما يعني فوز لوبان «فرنسا أكثر فقرًا وانعزالًا»، وفي حالة انسحابها من الاتحاد الأوروبي، سيثير هذا أزمة مالية ربما تطيح بالتكتل الأوروبي الذي، رغم كل علاته، عمل على تعزيز السلام والازدهار في أوروبا لعقود طويلة.