العولمة ببساطة هي عملية تصغير للعالم وتقريب لوعي البشر في مُختلف الجوانب الاقتصادية والسياسية والثقافية؛ عن طريق إذابة الحدود بين البلدان.
لكن العولمة غير قابلة للتحقق على وجهها الصحيح إلا بين قوًى متكافئة سياسيًّا واقتصاديًّا، ولهذا يبدو عالمنا اليوم منقسمًا إلى دول كبرى ذات مصالح متبادلة، ودول هزيلة واجبها الانصياع والرضا باستنزافها والاستيلاء عليها لصالح الدول الكبرى.
يحارب البعض العولمة لأنها تزيد الغني ثراءً، بينما تترك الفقير لفقره أو تزيده فقرًا.
ويتناول مقال نشره موقع (Quartz) لخبيرة الاقتصاد «دامبيسا مويو» (Dambisa Moyo) أثر هذا الانقسام علينا، ودور العولمة في النجاة منه ومن التبعيات الناتجة عنه، ويتساءل عن إمكانية تحقيقها في صورتها النموذجية.
قد يهمك أيضًا: من يدفع ثمن الانفتاح في قطر؟
هل العولمة جيدة أم سيئة؟
يحارب البعض العولمة لأنها تزيد الغني ثراءً، بينما تترك الفقير لفقره أو تزيده فقرًا، ويقف هذا في طريق إيجاد أجندة دولية للعولمة يتفق عليها الجميع؛ أغنياء وفقراء.
وفي الوقت نفسه، فإن التأزم المتزايد للوضع السياسي العالمي؛ المتمثل في ظهور السياسيين الشعبويين (مثل دونالد ترامب في أمريكا) وخروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، وكذلك الظروف الاقتصادية العالمية المتعثرة؛ كهبوط معدلات النمو العالمية وارتفاع معدلات البطالة، كل ذلك، من وجهة نظر «مويو»، مؤشرات صارخة على أننا في أشد الحاجة للعولمة.
نظريًّا، يمكن للتطبيق السليم للعولمة الكاملة أن يؤدي إلى ازدهار غير مسبوق، وهو الأمر الذي يعني أن العولمة ليست المشكلة بحد ذاتها؛ وإنما سياق تطبيقها أو موازين القوى المحيطة بها.
هل يمكن إذًا، في سياق آخر، تطبيق نظام عولمة عملي أساسه حركة التجارة الحرة وتدفق رؤوس الأموال والعمالة عبر الحدود؟
ما الذي يقف في طريق العولمة؟
بالنسبة لـ«مويو»، فإنه من الممكن إقامة عولمة حقيقية فقط إذا تخلى صناع القرار عن نزعتين سياسيتين تعيقانها؛ الأولى هي التخطيط قصير المدى، والثانية عقلية «إما المكسب أو الخسارة»، فصناع القرار لا يُبدون اهتمامًا بالتكلفة الحقيقية والتبعات الناتجة عن القرارات التي يتخذونها، ويميلون عادةً للعقلية التي تقضي بأن الشعوب تكون إما رابحة وإما خاسرة في مسائل السياسة، ولا يوجد بين الحالين وسط.
ﻻ تقاوموا العولمة
لا يؤدي هذان العائقان فقط إلى جعل صناعة القرار أمرًا ضبابيًّا، ولكنهما يُضعفان كذلك أثر العولمة، الذي يتضمن حرية التجارة وتدفق الأموال والبضائع والخدمات والعمالة.
وعلى سبيل المثال، فإن المبادرات التجارية التي تدعم المنتجين المحليين على حساب اقتصادات نامية لا تقوِّض العولمة فقط، بل لها تأثير مدمر كذلك على الدخل القومي ومستوى معيشة المنتجين والمزارعين في الدول النامية، التي تعجز عن منافسة الإنتاج المدعوم في العالم الأول.
548 مليار دولار خرجت من أسواق الدول النامية في 2015، وهو أكبر هروب للأموال منذ 1988.
ويتسبب هذا في انخفاض كبير للعائدات التجارية لهذه الدول، وهي في أشد الحاجة للمال لدعم البنية التحتية والتعليم والصحة والمرافق العامة الأخرى.
وفي هذا السياق، أصدرت مجموعة العشرين الكبار (G20) بقيادة الولايات المتحدة الأمريكية 644 تشريعًا تجاريًّا تمييزيًّا على الدول الأخرى عام 2015، وفقًا لتقرير أصدره «مرصد التجارة العالمية» (Global Trade Alert).
وانحدر تدفق رؤوس الأموال بين الأسواق نتيجة للقيود الشديدة المفروضة على البنوك. وبحسب تقرير آخر نشره «معهد المالية الدولية» (Institute of International Finance)، فإن نحو 548 مليار دولار خرجت من أسواق الدول النامية عام 2015، في أكبر هروب للأموال من هذا النوع منذ 1988.
قد يعجبك أيضًا: كيف يعيد المال تشكيل معتقداتنا؟
لكن المسؤولين عن هذه الإجراءات يُغفلون الكلفة الضخمة والتبعات المستقبلية الناتجة عن انتهاج هذه السياسات على اقتصاد بلادهم؛ لأن السياسات التجارية الحالية تخلق نوعًا من الزعزعة وعدم الاستقرار في أسواق الدول النامية، وهو ما يشكل اختبارًا قاسيًا؛ اقتصاديًّا وسياسيًّا، على المهاجرين من هذه الدول إلى الدول الغربية فيما بعد.
على الحكومات أن تترك السلطة للمؤسسات الدولية إذا أرادت إعطاء العولمة فرصة حقيقية.
لقد حققت الهجرة في السنوات الأخيرة أعلى معدلاتها تاريخيًّا؛ إذ يوجد نحو 60 مليون لاجئ من دول العالم المختلفة بسبب الحرب أو الاضطهاد، كما هاجر أكثر من 750 ألف شخص إلى أوروبا عام 2015.
نتعلم من أزمة الهجرة أنه أصبح واجبًا على صُنَّاع القرار وضع عواقب هذه السياسات في اعتبارهم؛ بسبب تأثيرها على الأوضاع السياسية والاقتصادية في أنحاء العالم، وعليهم معرفة الآثار التي قد ترتد على اقتصاداتهم في شكل هجرات جماعية متزايدة.
اقرأ أيضًا: قصة مصورة: جيل «التهجير» يروي حكايات الظلم والقهر في قلب النوبة
الطريق إلى العولمة
تتطلب العولمة الناجحة مجموعة من التغييرات يصعب تحقيقها، فالمسؤولية الاقتصادية عن العالم لا تقع اليوم في يد أي شخص، لكنها تسلَّم بدلًا من ذلك إلى قادة الدول الكبرى، الذين ينحازون بصورة طبيعية لإرضاء ناخبيهم.
لكن، في رأي «مويو»، إذا أردنا إعطاء العولمة فرصة حقيقية؛ على الحكومات أن تترك السلطة للمؤسسات الدولية، فالكثير منها مكلَّف بمعالجة القضايا المركزية للعولمة، وهي تبذل جهدًا هائلًا من أجل الوصول لأجندة دولية موحدة ومُلزِمة للجميع، غير أن هذه الكيانات تخضع أحيانًا للأجندات السياسية لحكوماتها.
وترى «مويو» أنه يجب أن تكون لهذه المؤسسات سلطة تنظيم تدفق الأموال والعمالة والبضائع والخدمات. وطالما لا تزال الحكومات ممسكة بزمام الأمور، ستبوء محاولات تطبيق العولمة في النهاية بالفشل.
ويبدو أن الحل الوحيد هو تحرُّر العولمة من هذه القيود، وإلا ستكون العواقب وخيمة على العالَمَيْن النامي والمتقدم على حدٍّ سواء.