رغم الاعتقاد العام بأن «الرأسمالية»، كمنظومة اقتصادية ونمط للإنتاج «علمانية» بالكامل في جوهرها، ولا تحوي أي مكون ديني، بمعنى أنها لا تخصص للَّه مكانًا في الحياة العامة، ورغم انتشار اعتقاد أكثر جذرية مفاده أن الرأسمالية تُهمش الدين تدريجيًّا، حتى تتحول ممارسته إلى مجرد نوع من الثقافة الشكلية، فلا يُشكل إطارًا مرجعيًّا عامًّا لحياة الإنسان بسبب حلول أفكار «علمية» محله؛ فإن بعض الآراء ذهبت كذلك إلى وجود علاقة وثيقة بين الرأسمالية والدين.
كتب «ماكس فيبر» (Max Weber) مثلًا في أوائل القرن العشرين، محاولًا تحليل أواصر العلاقة بين الإصلاح الديني البروتستانتي والقيم المرتبطة بالنظام الرأسمالي، عن «الأخلاق البروتستانتية وروح الرأسمالية»، كما كتب «فالتر بنيامين» (Walter Benjamin) في الوقت نفسه تقريبًا عن «الرأسمالية بوصفها دينًا».
ولم تقتصر المقاربة بين الدين والنظم الاقتصادية «العلمانية» على الرأسمالية فحسب؛ وإنما كتب «برتراند راسل» (Bertrand Russell) كذلك عن الماركسية بوصفها دينًا له عقيدة وأتباع ورُسُل، يعدُ بعالم آخر يخلو من الشر والمعاناة.
وفي السياق نفسه، لكن بأسلوب أقل أكاديمية وأكثر ودًّا، يكتب «بن فيشل» (Ben Fishel)، وهو كاتب لعدد من المجلات ورائد أعمال، عن الرأسمالية كدينٍ للعالم الحديث، وعن النقود كإلهٍ يعبده أتباع هذا الدين.
اقرأ أيضًا: كل ما تريد معرفته عما قد يكون «مستقبل النقود»
ويُسلِّم فيشل مبدئيًّا بالطرح القائل بأن الرأسمالية همَّشت الدين التقليدي وضيقت مجاله؛ ما خلق فيما يبدو فراغًا أيديولوجيًّا عند الإنسان المعاصر، كان لا بد من ملئه ببديل لله.
ويتساءل الكاتب، بخصوص أفكارنا الحديثة عن الفردية وقدرة الإنسان على التحكم في مصيره و«خلق جنته الخاصة» بجهده وعمله ربما: هل يمكن أن تكون هذه الأفكار دينًا بديلًا للأديان التقليدية؟ والنقود إلهًا جديدًا، والرأسمالية دين العالم الحديث؟
ثم يلفت انتباهنا إلى أن النظام الرأسمالي يشبه الدين كثيرًا، بتنظيمه الهرمي للمعرفة: إذ يقع خبراء الاقتصاد ومديرو البنوك في القمة، يتشاورون ويتكهنون بصدد مستقبلنا الاقتصادي، لاعبين في ذلك دور الكُهَّان، بينما يعاني عموم الناس من الارتباك وعدم الفهم، في الوقت الذي تتخبط فيه الأسواق كما لو كانت قدرًا إلهيًّا.
ويحاول فيشل في مقالته أن يستكشف الأفكار الخاطئة، أو «الأيديولوجية»، المرتبطة اليوم بالنقود، والكيفية التي تعيد بها هذه الأفكار هيكلة معتقداتنا ورؤيتنا لذواتنا وللعالم.
وهكذا، إذا كانت الرأسمالية دينًا كما يرى فيشل، فهل يمكن أن نحدد لها عقيدة أو مجموعة بعينها من العقائد؟ وهل يدعو هذا الدين لعبادة إله بعينه؟ وهل يجب علينا اتباعه أم الكفر به؟
ما هي عقائد الرأسمالية؟
ربما تبدو فكرة الرأسمالية كدين غريبة للوهلة الأولى، خصوصًا عندما نتحدث عنها بالمصطلحات التقليدية للعقيدة والإله. لكن النظر في الأمثلة التي يعرضها الموضوع قد تساعد على فهم كيف تتخلل هذه «العقيدة» الجديدة عالمنا.
فإلى أي حد تبدو الأفكار الآتية مثلًا مألوفة لديك، وتعتقد أنها قد تكون صحيحة؟
- تدعو الرأسمالية للإيمان بأن مراكمة النقود غاية نهائية في ذاتها، وهذا يعني أنه بصرف النظر عن حاجتنا للنقود لشراء شيء ما، فإن أي زيادة في رصيدنا البنكي تسبب لنا إحساسًا بالسعادة، وأي انخفاض في الرقم نفسه يسبب لنا إحباطًا، حتى لو كانت النقود قد أُنفقت في شيء نريده حقًّا.
- تؤمن الرأسمالية بأن قيمة النقود ثابتة دائمًا، لكنها في النهاية وسيلة لتبادل الطاقات الإنتاجية بين طرفين. وعليه، لا بد أن نتوقع تغير قيمتها باستمرار بحسب القيمة التي ننسبها لما يتم استبداله. يعني هذا أن ألفًا من الجنيهات ستكون لها قيمة مختلفة بين كل سياق وآخر، لكننا نميل رغم ذلك للاعتقاد في قيمة مستقلة عن كل سياق تبادلي لهذا المبلغ.
- واحدة من العقائد التي تنتشر في ظل الرأسمالية كذلك هي أن النقود «أصل كل الشرور»، وترتبط بها العقيدة القائلة بأنه لا يمكن للنقود شراء السعادة. والمشكلة واحدة في الاثنين فيما يرى فيشل، وهي أن النقود ببساطة وسيلة لتسهيل التبادل، والاعتقاد في كونها «أصل كل الشرور» لا معنى له. وهو يرى بدلًا عن ذلك أن الأصل الحقيقي للفساد هو الشعور العام بالخطر، المدفوع بالنزعة الفردية وبالاعتقاد في أن أحدًا لن يساعدك إذا تعثرت. ويتحمل هذا الشعور بالخطر المسؤولية الكاملة عن إحساسنا اليوم بالفقر التام، رغم أننا نمتلك من الترف ما يزيد على ما امتلكه 99.9% من البشر طول التاريخ الإنساني.
- نقود أكثر تساوي خيارات أكثر، وبالتالي سعادة أكبر. وهذه عقيدة أخرى مفادها أن النقود توفر مساحة واسعة لحرية الاختيار، وهذه الأخيرة أمر مُحبَّذ دائمًا ومطلقًا، إذ إن الدرجات الأعلى من الحرية تعني درجات أعلى من السعادة دون شروط. ويلفت فيشل نظرنا إلى قصور هذه الرؤية، بالإشارة إلى تطور قدرات الإنسان الذهنية للتعامل مع عدد محدود من الخيارات يقل كثيرًا عما هو متاح لنا اليوم في كل شيء تقريبًا، ما يؤدي أحيانًا إلى الظاهرة السيكولوجية المعروفة باسم «شلل التحليل»؛ أي عندما تكون الاختيارات معقدة بالدرجة التي تحول دون أخذ أي قرار في النهاية.
من هو إله الرأسمالية؟
يفترض اعتقادنا في الرأسمالية باعتبارها دينًا وجود نقاط تقاطع جوهرية بين النظام الرأسمالي والأديان التقليدية. فمثلًا، إذا كانت الرأسمالية دينًا بالفعل، ما الذي يقابل الإله فيها ويلعب دوره؟ إنه «الرأسمال» بالتأكيد، أو النقود.
الرأسمالية تشجع على اعتبار الدخل المادي مؤشرًا وحيدًا لا يوجد غيره لتقدير قيمة الإنسان.
وإذا كان الإله في الأديان التقليدية مبدأ ومنتهى وعلة كل شيء، يُفترض بالنقود أن تحتل الدور نفسه إذًا، وهو ما يمكن ملاحظته في عالمنا بالفعل، إذ أصبح كل شيء تقريبًا، من السياسة إلى الفن وحتى العلاقات الإنسانية والصحة، بل وحتى إحساسنا الخاص بالهوية، خاضعًا لنوع من الحساب الاقتصادي المبني على المكسب والخسارة.
يُقدِّم فيشل بعض الأمثلة على الطريقة التي استطاعت الرأسمالية بها التأثير في أكثر مناطق حياتنا حميمية كالتالي:
- أدت الرأسمالية والطبيعة التنافسية الشديدة للنظام الاقتصادي الحالي إلى توحش النزعة الفردية في الثقافة المعاصرة، وهو أمر يمكن متابعة آثاره في العلاقات الاجتماعية ذات الطابع النفعي الواضح، سواءً في البيت أو العمل أو أي مجتمع آخر.
- استطاعت الرأسمالية التسلل إلى إحساس الأفراد بهويتهم وتقديرهم لذاتهم. ولأنها تشجع على اعتبار الدخل المادي مؤشرًا وحيدًا لا يوجد غيره لتقدير قيمة الإنسان؛ يؤدي هذا إلى شعور قسم كبير من الناس بالفشل دائمًا، وهكذا لا يُنسب النجاح إلا لقدر ضئيل من الناس فقط؛ لاعتماد معيار الثراء لقياس قيمة البشر.
- أدَّى تقديس الناس النقود إلى اعتقادهم في نوع من السحر يرتبط بمراكمة المال. ونتيجة لذلك؛ تتجه الجماهير إلى «عبادة» نجوم السينما والمليونيرات، رغم أن الحظ يلعب عادة دورًا كبيرًا في الثراء الذي لا يمكن أن يعتمد على درجة نادرة من الموهبة فحسب.
- تميل الرأسمالية كذلك نحو نزع القيمة عن الفن والإبداع، فيصبح تعريف النجاح الفني متطابقًا مع أرقام مبيعاته ومدى انتشاره في السوق. وهكذا، يصبح ثمن لوحة زيتية مؤشرًا وحيدًا لتقييم هذا النوع من الأعمال، ما يؤدي إلى القضاء على الأصالة، وتشجيع المطاردة الدائمة للموضات الجديدة والغريبة.
- أدت الرأسمالية كذلك إلى إعادة تقييم البيئة، وهذا دليل مؤكد على الكيفية التي تعمل بها على توجيه قيمنا وتحديد أولوياتنا. فـبينما كانت الأديان القديمة تقدس الأرض وتنسب الألوهة للعالم الطبيعي، ترى الثقافة الرأسمالية أن الاستهلاك وتدوير رأس المال أكثر قيمة من البيئة. وعندما يتحدث فيشل عن عداء الرأسمالية للبيئة، لا يعني أن مدير إحدى شركات الأخشاب مثلًا يكره الطبيعة، وإنما يعني ببساطة أنها في مرتبة تالية للمكسب المالي ضمن قائمة أولوياته.
قد يعجبك أيضًا: حتى الأطفال يصبحون أقل نفعًا لغيرهم بعد لمس النقود
لكن، أليست الرأسمالية «طبيعية»؟
واحدة من الحجج التي نسمعها كثيرًا لصالح الرأسمالية هي أن الإنسان أناني بشكل جوهري. وبينما يحتدم الخلاف اليوم بين أنصار «الطبيعة البشرية» ومناوئوها، بمشاركة أطراف عديدة من خلفيات مختلفة، يأخذ فيشل جانب هؤلاء الذين يقولون بمرونة واتساع مفهوم الطبيعة البشرية.
فنحن إن حاولنا الاستدلال على تلك الطبيعة من الطريقة التي نعيش بها اليوم؛ سنجد أننا أشبه بأسد يركب دراجة بخارية في السيرك؛ فبيئتنا الحالية مصنعة بشكل واسع، ومعظم سلوكياتنا تبدو عديمة الجدوى تمامًا من منظور تطوري.
ويلفت الكاتب انتباهنا إلى أن المجتمعات المختلفة تصرفت بطرق مختلفة عبر التاريخ؛ فقد وُجِدَت مجتمعات مبنية على الهيمنة وأخرى مبنية على التشارك، وكان هناك مجتمعات مبنية على الفردية وغيرها مبنية على التعاون، لكننا نميل رغم ذلك إلى اختزال التاريخ بصورة ساذجة، فنعتقد أن الناس كانوا، وسيظلون دائمًا، ما هم عليه؛ أي طماعين وأنانيين. لا نقرأ في التاريخ إلا عن الغزاة، بينما تغيب عنا أفكار المليارات من الناس الذين عاشوا في هدوء وأناة.
يدعو الكاتب إلى رفض هذا الدين، ومساءلة الوضع القائم وإعادة تقدير القيم الإنسانية طول الوقت. ويلفت فيشل انتباهنا كذلك إلى أن الحوار الحالي بشأن الطبيعة البشرية اليوم ليس جديدًا، وكذلك دخول العلم في هذا الخلاف، فيزعم أن نسخة داروين للتطور تلقت دعمًا ماليًّا من أجل أسباب استراتيجية لم تتوافر لنسخة ألفرد راسل والاس (Alfred Russel Wallace) الأقل شهرة، لأن والاس شدد على دور التعاون والتكيف السلمي في الحياة الطبيعية، واحتفى بالتنافس بدرجة أقل، وهو الذي جعل تشديد داروين على التنافسية أقرب للمعتقدات التي احتاجها النظام الإمبريالي البريطاني للاستمرار في توسعه.
قد يهمك أيضًا: التطور والواقع: هل نرى ما نرى فعلًا؟
وبالإضافة للمغالطة الطبيعية التي ترى أن النظام الرأسمالي «طبيعي»، وأن قِيَمَهُ ليست شأنًا ثقافيًّا وإنما جزءًا من طبيعة الإنسان؛ يستند البعض لتبرير الرأسمالية إلى «مغالطة العالم العادل»، التي تُقر بأن الفقير فقير لأنه يستحق هذا الفقر في عالم عادل، ويتجاهل هؤلاء بالتالي دور العرق والمكانة الاجتماعية وكل المتغيرات الأخرى في مقدرة الإنسان على النجاح أو الترقي في النظام الرأسمالي.
أما مناهضو الرأسمالية فربما يزيدون الأمر سوءًا بطرحهم بدائل ذات طبيعة محلية؛ مثل مجتمعات صغيرة مستقلة ذاتيًا، كـالكوميونات (مدن تتمتع بحكم ذاتي محلي) على سبيل المثال، وهي بدائل تبدو لفيشل غير واقعية في عالم يزداد تشابكه باستمرار. وتغفل هذه الرؤى كذلك الحقيقة القائلة بأن الرأسمالية رغم كل نواقصها تُعدُّ مع ذلك واحدة من أعظم النظم التي أبدعها الإنسان، وليست شرًّا مطلقًا.
لكن الكاتب يدعو في الوقت نفسه إلى رفض هذا الدين على المستوى الفردي، والبحث عن اختيارات تعارض ذلك النظام بشكل مستمر، من خلال المساءلة الدائمة للوضع القائم، وإعادة تقدير القيم الإنسانية طول الوقت.