كلما استحكمت حلقات الحياة، كنت كثيرًا ما أستمع إلى أغنية فرنسية حزينة جدًّا بعنوان «Puisque tu Pars»، يقول مغنيها «جان-جاك غولدمان» إنها «عن الرحيل والفراق وكل ما يعنيانه».
كنت أستسلم لها تمامًا وكأنها تحكي عني، وأستدعي معها أحزانًا عشتها وأحزانًا لم أعشها بحثًا عن حالة حزن مثالية في ما يبدو، وأعود لأشغِّلها مرات ومرات حتى أُفرغ مخزون الحزن عن آخره. كانت موسيقاها باكية، أرتامها خطى متثاقلة، صوت غولدمان مشبع بالدموع، وقفاته صمت قاسٍ، ورغم هذا، أو ربما بسبب هذا، أحببتها وما زلت، غير أنه لم تعد لي طاقة بجرعة الحزن الكبيرة التي تحملها.
اليوم أتساءل: ما الذي يجعلنا نحب الأغاني الحزينة رغم أننا نجتهد في البحث عن السعادة في حياتنا؟ ولماذا إذا أردنا أن نَطرب يكون الشجن اختيارنا الأول؟ هنا أحاول الإجابة.
كوكب تاني: ما الحلو في أغنية حزينة؟
تحمل الأغاني الحزينة عدة جوانب جميلة، منها ما اقترحه الفيلسوف أرسطو: فكرة «التنفيس»، فالموسيقى أو الدراما تغمرنا بعاطفة معينة، وهي إذ تغمرنا بها بطريقة ما، تخلصنا منها أيضًا. وهو رأي ربما يتفق معه بعض علماء النفس الذين يرون أن الأغاني الحزينة تعطينا فرصة لتصريف مشاعر الحزن بشكل لا يؤذينا.
نستمع أحيانًا إلى الأغاني الحزينة من باب الاستسلام لحالة حزن نعيشها، بل إن بعضنا قد يشعر بالذنب لو بحث عن السعادة بعد فقدان عزيز لديه مثلًا، وكأن استعادة زمام الحياة خيانة لذلك العزيز، فقد لا يتوفر الحافز لاستعادة السعادة.
في مثل هذه الظروف نبحث عمن يشاطرنا نفس الوجع، نفس الرفض، نفس الإحباط، نفس الفشل.
كثيرًا ما يعبِّر المغني المصري حمزة نمرة عن أحوال اجتماعية يعيشها الشباب، وفي أغنيته «داري يا قلبي» يغني: «إحساسك كل يوم يقل، وتخطِّي وخطوتك تِزِل، من كُتر ما أحبطوك تِمِل، فين تلقى دواك؟». هذه كلمات قد يستشعرها كثير من الشباب في المنطقة العربية اليوم، الذين يعيشون إحباطات كثيرة على المستوى السياسي والمجتمعي والشخصي.
نحب الأغاني الحزينة لأنها تعود بنا إلى الوراء فتمس أوتار الحنين، وهي أوتار نحب أن تُمَس، فكيف يكون الحنين حين يكون إلى الأم، أصل كل الأشياء؟
هذا ما تفعله أغنية مثل «أحنُّ إلى خبز أمي»، للمؤلف الموسيقي والمغني اللبناني مارسيل خليفة من أشعار محمود درويش: «أحن إلى خبز أمي، وقهوة أمي، ولمسة أمي». وهذا الحنين يعزز شعورنا بالترابط الاجتماعي والاستمرارية، ويعد وسيلة صحية للتعامل مع الضغط النفسي.
أو قد تأخذنا الأماكن التي نزورها إلى أشخاص لم يعودوا موجودين، ولو أن لهم في قلوبنا مكانة، وهذه النوستالجيا تعبِّر عنها أغنية «الأماكن» للمطرب السعودي محمد عبده.
قد يهمك أيضًا: لماذا كان أرسطو سيحب «تيتانيك»؟
يعزِّينا الاستماع إلى الأغاني الحزينة حين يذكِّرنا بأننا ربما نكون أفضل حالًا من غيرنا.
جرب أن تستمع إلى المطربة أنغام في «أكتب لك تعهد»، التي تحكي عن امرأة مدمَّرة تود الخلاص من زوجها، ولو اقتضى منها ذلك أن تشتري حريتها بالمال، أو أن تكتب له تَعهدًا بأن تعيش وحدها بعده. مقارنة أوضاعنا بغيرنا تجعلنا نضع مشكلاتنا في مكانها الطبيعي، وتقلل من جلد الذات والشعور بالذنب وقلة القيمة والشفقة تجاه النفس. فلو كان هذا حالها، كيف نشكو نحن من خلافات تافهة؟
الاستماع إلى قصة قاسية كتلك التي تحكيها الأغنية تثير فينا كذلك مشاعر إنسانية راقية مثل التعاطف، وهي مشاعر تدفع الأَثَرة والسلوك الإيجابي تجاه الآخرين.
يحمل الشجن في الأغاني جمالًا من نوع خاص، فحتى لغته أكثر ثراءً، وإحساسه أكثر عمقًا وأبلغ أثرًا.
لا يمكنك أن تستمع إلى أغنية مثل «عدَّى النهار»، التي كتب كلماتها الشاعر الراحل عبد الرحمن الأبنودي بعد نكسة 1967 وغناها عبد الحليم حافظ، دون أن تستشعر رهبة كبيرة في قلبك، فهذا ما تفعله بعض الأغاني الحزينة بنا، وبخاصة لو كان موضوعها الوطن، فضياع هذا الحضن الكبير أكبر تهديد لوجودنا، فيغني عبد الحليم: «عدَّى النهار، والمغربية جايَّة تتخفى ورا ظهر الشجر، وعشان نتوه في السكة، شالت من ليالينا القمر».
بالمثل يهتز القلب لكلمات أغنية «وهران وهران» للمغني الجزائري الشاب خالد، التي يتناول فيها قضية هجرة الشباب الجزائري إلى فرنسا، في كلمات سهلة لكنها تنفذ إلى القلب:
«وهران وهران، رحتي خسارة
هجروا منك ناس شطارى
راحوا في الغربة حيارى
والغربة صعيبة وغدارة»
يُعتقد كذلك أن الأغاني الحزينة تتمتع بجماليات أعلى من غيرها، فتتميز بحلاوة اللحن أو الكلمة، أو كليهما. تأملوا هذا الحزن الغاضب الذي تبثه أبيات أنيقة من قصيدة «الأطلال» تغنيها أم كلثوم:
«لستُ أنساك وقد أغريتني، بفمٍ عذْب المناداة رقيق
ويدٍ تمتد نحوي كيدٍ، من خلال الموج مُدَّت لغريق
وبريقٍ يظمأ الساري له، أين في عينيك ذيَّاك البريق
أعطني حريتي أطلق يديَّا، إنني أعطيتُ ما استبقيتُ شيَّا
آهِ من قيدك أدمى مِعصمي، لِمَ أبقيه وما أبقى عليَّا
ما احتفاظي بعهودٍ لم تصنها، وإلامَ الأسرُ والدنيا لديَّا»
يحمل الشجن جمالًا من نوع خاص، فحتى لغته أكثر ثراءً، وإحساسه أكثر عمقًا وأبلغ أثرًا، فلا يمكنك إلا أن تتوقف طويلًا أمام قصيدة «أنا وليلى» للمغني والملحن العراقي كاظم الساهر، وهذا مقطع صغير منها:
«فراشةٌ جئت ألقي كحل أجنحتي
لديكِ فاحترقَت ظلمًا جناحاتي
أصيحُ والسيف مزروعٌ بخاصرتي
والغدرُ حطَّم آمالي العريضاتِ
وأنتِ أيضًا، ألا تبَّت يداكِ
إذا آثرتِ قتلي واستعذبتِ أنَّاتي»
وبلهجة عامية وكلمات حمَّالة أوجه، ولعل هذا مكمن جمالها، يشدو المغني المصري محمد منير بأغنية «إيديا في جيوبي»، فيقول:
«إيديَّا في جيوبي وقلبي طِرِب
سارح في غُربة بس مش مغترب
وحدي لكن ونسان وماشي كدا
بابتعد، معرفش أو باقترب»
نميل إلى الأغاني الحزينة أيضًا لأنها كثيرًا ما تحمل رسالة، فالحزن قد يحمل درسًا أو معنى، ومن منا لا تروقه أغنية تتر بداية مسلسل «المال والبنون»، التي كتب كلماتها الشاعر سيد حجاب وشدا بها المغني المصري علي الحجار؟
«المال تِجيبه الريح وتاخده الهوايل، أما البنون يوم الحساب بيفوتونا
مال إيه ده لو كان مال قارون كله زايل، ولا غير عمايل الخير يا هُو ينجدونا
قالوا زمان دنيا دنية غرورة، وقلنا واللي تغرّه يخسر مصيره
قالوا الشيطان قادر وله ألف صورة، قلنا ما يقدر عَ اللي خيره لغيره»
مشروخ يا ناي: ماذا يكشف حبنا للموسيقى الحزينة؟
عندما نستمع إلى أغنية حزينة نقول إن «مشاعرنا تحركت»، وهو شعور يصعب وصفه بالكلمات، لكن هذا لا ينفي أنه شعور ممتع وغامر، غير أنه ليس شعورًا يراود الجميع.
للتأكد من هذا، أجرت مجموعة من الباحثين تجربة على 102 شخصًا، طلبوا منهم الاستماع إلى مقطوعة موسيقية اختيرت بعناية، فلم تكن شهيرة، ولم تكن مُغنَّاة، وذلك لاستبعاد أي مؤثرات عاطفية قد تثار لدى أحدهم، كارتباط اللحن بذكرى قديمة أو تأثره بالكلمات. بهذا الشكل يكون مصدر التأثر الوحيد هو الموسيقى نفسها.
طُلِب من المستمعين أن يعطوا الباحثين بعض المعلومات المهمة في استقراء النتائج. فمثلًا، سأل الباحثون عن مدى استغراق المشاركين في مشاعر النوستالجيا بصفة عامة، وحالتهم المزاجية والصحية ومستوى جودة حياتهم. وسألهم الباحثون كذلك عن تفضيلاتهم الموسيقية، واستخدموا مقياسًا لتقييم «قَدر التعاطف» الذي يتمتع به كلٌّ منهم.
ما الذي شعر به المستمعون بعد تشغيل الموسيقى؟
وصفوا مشاعر مختلفة تراوحت بين الشعور بالارتياح و«تحرك المشاعر» والتوتر. المشاركون الذي تحركت مشاعرهم قالوا إن الإحساس الذي غمرهم كان حادًّا، ممتعًا، وإن كان حزينًا. وجد الباحثون أن هؤلاء الذين تحركت مشاعرهم كانوا أيضًا أصحاب درجات تعاطف أعلى من غيرهم. وعلى العكس، لم تتحرك مشاعر أصحاب درجات التعاطف الأقل تجاه اللحن.
أظهرت النتائج أن سر الاستمتاع لا يكمن فقط في التعاطف مع المشاعر الحزينة التي تعبر عنها الموسيقى، بل أيضًا في قدرتنا على إظهار مشاعر «التعاطف المسؤول/المتعقِّل». فإذا كان التعاطف يعني الاستجابة لمشاعر طرف آخر عن طريق مشاطرته ذات مشاعر الحزن، فإن التعاطف المسؤول يعني أن تعطف على الشخص وتهتم به اهتمامًا غير عابر، إلى جانب مشاطرتك إياه نفس المشاعر.
قد يعجبك أيضًا: أغنيات بوب ديلان عن الانفصال
إذا كنت حساسًا ممن يتعاطفون مع الآخرين، ولو في صورة أغنية حزينة، فإن جسمك يكافئك.
كلنا نشعر براحة كبيرة وهدوء نفسي بعد البكاء، وبخاصة لو اجتهدنا فيه، فالبكاء يطلق مجموعة من الكيماويات في الجسم تعمل على تخفيف الألم النفسي. حتى حالة الحزن العابرة التي تعيشها في أثناء الاستماع إلى أغنية لا يزيد زمنها عن بضعة دقائق، تكون قادرة على أن تضلل جسمك ليطلق نفس الهرمونات المقترنة بالتعاطف مع بشر حقيقيين، فتشعر بالراحة والدفء والمتعة، وفق نظرية حديثة.
إذا كنت تسمح لنفسك بالانغماس في الموسيقى الحزينة، فأنت أيضا تدرِّب نفسك على تجربة مخزون مشاعرك الكامل، إضافةً إلى أن تفهُّم مشاعر الآخرين له أهميته في خوض الحياة الاجتماعية، وهو ذو قيمة تطورية.
أنا دنيا من التعب: الأغاني الحزينة ليست للمكتئبين
يُحكى أن أغنية مجرية تحمل اسم «Gloomy Sunday» (الأحد الكئيب)، تتحدث عن محب يائس، كانت سببًا في إقدام بعض الأشخاص على الانتحار. تقول كلمات الأغنية: «أصبحَتْ أيام الأحد حزينة إلى الأبد، والدموع مشروبي الوحيد. هذا الأحد. زهور وكفن تحت الأشجار المزهرة، ستكون هذه رحلتي الأخيرة». وبسبب الوصمة التي لاحقتها وجعلت منها «أغنية الانتحار»، توقف كثير من الإذاعات عن بثها.
في عام 1936 نشرت «النيويورك تايمز» تقريرًا ذكرت فيه أن طفلًا في الثالثة عشرة قد انتحر وفي جيبه ورقة مكتوب عليها كلمات الأغنية. ونشرت الصحيفة نفسها تقريرًا آخر عن طالب جامعي انتحر بعد أن أخبر زملاءه بأنه سيحفظ كلمات نفس الأغنية، ثم ينتحر في يوم «أحد كئيب».
الأكثر من ذلك أن ملحن الأغنية نفسه انتحر، ويُعتقد أن السبب يرجع إلى شعوره بأنه لن يحقق نجاحًا كالذي حققته الأغنية نفسها.
على المكتئبين الحذر من الأغاني الحزينة، فالمكتئب قد يدخل في حلقة مفرغة من الحزن إذا لم يكن لديه دائرة اجتماعية تأخذ بيده.
في عام 2008 انتحر مزارع بريطاني وترك وراءه إشارات إلى كلمات أغنية «Epiphany» لفريق «Staind» الأمريكي، وهي بالطبع أغنية حزينة. وفي 2000 وجد أب ابنه ذا الأعوام السبعة عشر مشنوقا في الجراج، بعد أيام من الذكرى السنوية الأولى لمذبحة مدرسة كولومباين الثانوية. وجد أهله ضمن أشيائه اسطوانة (CD) عليها أغنية «Adam's Song» لفريق «182-Blink»، التي تقول كلماتها: «لم أفكر قط أني سأموت وحيدًا، كنت صاحب أعلى ضحكة، من كان يظن أن هذه نهايتي؟». كان الصبي لاعب كرة سلة ناجحًا، لكنه فقد مدربه وصديقه في المذبحة، بينما نجا هو.
هذه ليست كل حالات الانتحار التي ارتبطت بالموسيقى، بل فقط بضع حوادث وجدت طريقها إلى الأخبار. الحوادث الفردية، وإن تعددت، قد لا تمثل دليلًا على وجود علاقة أكيدة بين الموسيقى والاكتئاب أو الحزن الشديد الذي يؤدي إلى الانتحار، غير أنه يُعتقد أن ثَمَّة علاقة بينهما، لكنها ستظل علاقة يصعب اختبارها، وإن كان ينبغي الحذر منها.
اقرأ أيضًا: الانتحار بوصفه هجومًا لا استسلامًا
على كل حال، يحذر علماء النفس المكتئبين والميالين إلى الاكتئاب من الأغاني الحزينة، فالمكتئب الذي يستمع إلى موسيقى حزينة قد يصبح أكثر حزنًا، ويدخل في حلقة مفرغة من الحزن تبقيه على حاله، خصوصًا إذا لم تكن لديه دائرة اجتماعية تأخذ بيده.
يصبح هذا النمط مشكلة لدى مَن يعانون «الاجترار»، وهي حالة تصاحب الاكتئاب عادة، وتجعل صاحبها يتذكر أفكاره القديمة ويعيد تقييم أفعاله في مواقف محرجة أو محبطة. تقول الأبحاث إن هؤلاء أكثر حساسية للحزن الذي تثيره الموسيقى الحزينة.
يؤيد هذا الرأي بحث وجد أن الأشخاص الميالين إلى الاكتئاب يستجيبون للأغاني بشكل مختلف فعلًا، فقد أشار إلى أن الأشخاص الذين يعانون من «الاجترار» يسوء حالهم أكثر بعد الاستماع إلى الأغاني الحزينة.
والآن أترككم مع فيروز تغني «أديش كان في ناس»، وشكل آخر من أشكال الحزن.