«الأمومة غرفة حمراء ملساء
بجدران مرتفعة وبلا شبابيك
فقط باب واحد لا يسمح إلا بالدخول»
هكذا تبدأ الشاعرة سارة عابدين قصيدتها «غرفة الفئران» في ديوان «وبيننا حديقة»، وهي تتحدث عن الأمومة كتجربة كونية محاطة بالأسئلة والقلق والحيرة، وربما كورطة أحيانًا.
لا شك أن عملية الانفصال التي تحدث ابتداءً بين الأم والجنين ليست مجرد حالة بيولوجية، بل بداية صراعنا مع وجودنا كائنين منفصلين بعد أن كنا متمازجين في جسد.
معضلة الأمومة
اختصرت الشاعرة إيمان مرسال معضلة الأمهات جميعا حين كتبت: «إذا كان هناك صراع بين ذات الأم وذات طفلها، فلن ينتصر أحدهما، سينتصر الديناصور طبعًا، إنه الذنب».
يبدو الشعور بالذنب وكأنه الشعور الذي يوحد الأمهات على اختلافهن، إنه يكمن في المسافة الواقعة بين الحلم والواقع، هذا الصراع الذي يحدث بين هوية الأم ككائن مستقل تمامًا له شغفه وأحلامه، وبين سياق الأمومة الذي يحدَّد لنا في إطار الرعاية والتضحية، خصوصًا إذا اعتبرنا أن الموازنة بينهما في أحيان كثيرة تكون أقرب للمثالية منها إلى الواقع.
الآباء في الغالب ظلت أدوارهم محدودة في ما يتعلق بداخل المنزل.
كنت في كل مرة أسعى فيها وراء شغفي أعود بوخزات في ضميري، وفي المقابل كل مرة أتجاهل حاجتي إلى الكتابة لأقضي وقتًا أكبر مع أطفالي أشعر بالغضب الداخلي والرغبة في الهروب. هذا التزعزع والشعور بالتوتر وعدم الرضا لا يكون دوما مقتصرًا على الخطأ أو التقصير، بل أيضًا بصورة مقدسة مرسومة في أذهاننا عن الأمومة.
منذ بلوغنا ونحن نتربى على نموذج للمرأة الصالحة، ويتخلق في تشكيلنا الذهني صورة مثالية للأم الناجحة، تنحصر في العطاء والتضحية، الاحتراق من أجل الآخرين، الحب غير المشروط، الرعاية غير المحدودة، التفاني للأبناء، وعلى ملامحها تظهر ابتسامة طمأنينة كاملة، دون مشاعر سلبية أو حتى حاجة بوجود نقص ما.
لا أحد يخبرها أنها ستشعر بالضجر أحيانًا من العطاء، وأنها ستصاب بالغثيان وهي تعجز عن لملمة الفوضى، أنها ستهرب إلى دورة المياه وتبكي، وبالطبع لن يسألها أحد من هي وماذا تحلم أن تكون. لن يمنحها أحد الحق في استراحة تلتقط فيها روحها، أو يربت على كتفها ويقول لها إن من حقها أن تحلم وتركض وراء أحلامها. الجميع سيُملي عليها أن تتراجع وتتخلى عن شغفها لأن هذا ثمن الأمومة، وكأن الإنجاب مقبرة للطموح.
الانغماس في الأمومة والتخلي عن الهوية
رغم أن غالب أمهات جيلنا قد خرجن من دائرة ربات البيوت وأصبحن عاملات لا يقتصر دورهن على المنزل، فإن أغلب الآباء ظلت أدوارهم محدودة في ما يتعلق بداخل المنزل، لذا من السهل جدًّا أن نجد أن الطرف الملام دائمًا في أي خطأ أو مشكلة تحدث في البيت أو لأحد الأبناء هي الأم.
لا أحد يلوم الأب حين يسعى خلف أحلامه، حتى وإن أدى ذلك إلى تقصيره في حق أبنائه، بل تطالَب المرأة بمساندته حتى على حساب نفسها. ولكن في المقابل نجد أن المرأة دائما متهمة بالتقصير، وإن لم تفعل، لمجرد رؤيتها تنجح في شغف ما، وكأن نجاحها في أحد الميادين العامة تهديد لسعادة عائلتها.
سنكون جميلات مرة أخرى، نكتب شعرًا جديدًا، بريئًا من الذكريات والأمومة المثقلة بالخوف والتساؤل.
كل هذا الضغط الاجتماعي الذي تنشأ عليه المرأة في مجتمعاتنا ويمارَس عليها، والقداسة التي تُفرض عليها منذ أن تصير أمًّا، تزيحها إلى تهميش ذاتها مقابل إرضاء صورتها المثالية كأم ناجحة، وهذا ما يدفع كثيرًا من النساء إلى الانغماس في الأمومة والتخلي عن هوياتهنّ الخاصة، والتراجع عن أهدافهن التي حلمن بها، والاكتفاء بما هو متعلق بالبيت والأبناء.
تقول «بيتي فريدان» في كتابها «اللغز الأنثوي»: «عندما ترفع ثقافة ما العوائق القانونية والسياسية والاجتماعية والاقتصادية أمام قبول النساء النضج، فحتى بعد تحطيم تلك العوائق يبقى من الأسهل على المرأة أن تجد الملاذ في البيت. الأسهل أن تعيش عبر زوجها وأولادها بدلًا من أن تشق طريقها الخاص (...)، لأنها ابنة الأم ذاتها التي جعلت من الصعب جدًّا على الفتاة أن تكبر. الحرية شيء مخيف. من المخيف أن تكبر أخيرًا وتصبح متحررة من التبعية السلبية. لماذا يجب على امرأة أن تزعج نفسها بأن تكون أكثر من زوجة وأم إذا كانت جميع قوى ثقافتها تخبرها أنها غير مضطرة لأن تفعل؟».
لكن، وإن كان هذا الخيار يبدو سهلًا في الظاهر، ألا نلتمس تأثيره واضحًا في انعكاس عقدة الذنب على الأبناء؟ الأم التي تتماهى هويتها مع أبنائها تريدهم دومًا تحت جناحيها، تطالبهم ببرِّها بالطريقة التي ترضيها فقط، تلومهم على كونهم عائقًا لتعيش حياتها كما تريد، رغم أن ذلك مسؤوليتها نتيجة اختيارها، ثم تطالبهم برد الجميل وكأن تضحياتها التي بذلتها لهم كانت دَينًا يتوجب عليهم الوفاء به.
«سنكون سعداءً وأحرارًا»
في ديوان «وبيننا حديقة» الذي اشتركت فيه مع سارة عابدين، تصف الشاعرة مروة أبو ضيف مشهدًا حساسًا في حقيقة انفصالنا عن أبنائنا، تقول فيه:
«هناك قطار من أجل الأمهات
سيظن الجميع أنه يأخذنا إلى الفردوس
لكنه سيذهب بنا إلى بحيرة بيضاء
نغتسل فيها من العاطفة ولعنة الحنين
ننظر إلى أبنائنا فقط كبشرٍ مثلنا
ندُّ لندٍّ
ننزع بصمات أصابعهم عن أثدائنا وعظامنا المجهدة
السهر الذي خطف بريق العيون
والشفاه التي ذابت من الغناء والدعاء
سيكون قطارًا سريعًا
وسنكون سعداء وأحرارًا
تلوحين لابنتك ورجلها المجهول
أتجاهل أبنائي وحبيباتهم التافهات
سنكون جميلات مرة أخرى
نكتب شِعرًا جديدًا
بريئًا من الذكريات والأمومة المثقلة بالخوف والتساؤل»
طوال حياتي كنت أسمع كلمة «تنجبين وتعرفين». نعم، أنجبت وأصبحت أمًّا، وأعرف تمامًا مدى الألم الذي تخلقه الأمومة، أعرف كيف يزهر الجرح في قلبك، كيف تتقطع أوراقك إلى حبيبات صغيرة، كيف تتوزع روحك على أجساد أخرى، كيف ترحل وقلبك يدق في مكان آخر، كيف تتسمَّر أمام عجزك كشجرة، رغم أن أغصانك تواصل اهتزازها.
لكن هذا كله لا يغير حقيقة أن أبناءنا كائنات منفصلة عنا، كائنات أخرى سوانا، ليست ملكًا ولا امتدادًا، ليست مشاريع هندسية، ولا مصابيح تحقق لنا أحلامنا الموؤودة.