الأيام دُوَل: كيف فقد النوم سلطانه؟

الصورة: Getty/d3sign

دينا ظافر
نشر في 2018/10/11

حين نخلد إلى النوم، تنخفض درجة حرارة أجسامنا، وتدفأ أطرافنا، ثم تسري مادة «الميلاتونين» السحرية في الجسم ليخبر الدماغ بأنه قد حان وقت الراحة. ينخفض ضغط الدم وتتباطأ نبضات القلب. ينتظم النفس ويتسلل النوم. هذه التغيرات تساعد الجسم على ضبط ساعته الداخلية.

هل يأتينا النوم كل ليلة بهذه ببساطة؟ ليس دائمًا. يمكنك أن تسأل أي شخص من معارفك عن الطرق التي يستخدمها، في الأوقات التي لا يستطيع فيها النوم بسهولة. في الغالب ستجد إجابة ما، بغض النظر عن طبيعتها. لكن الناس بالفعل يملكون طرقًا تخصهم: مشاهدة فيلم أو مسلسل، تصفح فيسبوك أو تويتر، مشاهدة فيديوهات على يوتيوب لفترة.

ترى «ماريا كونيكوفا»، في مقال لها على موقع «The New Yorker»، أن النوم أصبح أكثر صعوبة بالفعل خلال السنوات الأخيرة. وهناك ظواهر يمكن تأملها في الطريقة التي ينام بها البشر في هذه الفترة. التقت كونيكوفا عددًا من خبراء النوم في أماكن كثيرة في العالم، واطلعت على أبحاثهم المستمرة في هذا السياق.

الكبار والصغار ينامون أقل

يقول «تشارلز سيزلر»، رئيس وحدة النوم واضطراباته في أحد المستشفيات الأمريكية، إنه خلال العقود الخمس الماضية، انخفض متوسط مدة النوم في ليالي أيام العمل بمقدار ساعة ونصف، نزولًا من ثماني ساعات ونصف إلى أقل من سبع ساعات. إضافة إلى عدد من الإحصائيات المقلقة. فنحو 31% من الأشخاص ينامون أقل من ست ساعات في الليلة، بينما يقول 69% من الأشخاص إنهم لا يحصلون على قسط كافٍ من النوم.

تضيف «ليزا ماتريسياني»، الباحثة في مجال النوم بجامعة جنوب أستراليا، أن الأبحاث التي أجرتها تشير إلى أنه بين عامي 1905 و 2008، أصبح الأطفال ينامون دقيقة أقل كل عام مقارنة بالعام السابق. فكأن الكبار والصغار أصبحوا ينامون فترات أقصر من ذي قبل. نحن ننام أقل من أي وقت مضى إذًا.

قد يعجبك أيضًا: الضوء أو لماذا يهرب الأطفال من النوم؟

عوامل عدة تَحرمك النوم

الصورة: Ivan Obolensky

تكمن المشكلة الأساسية في مواعيد ذهابنا إلى الفراش، والكيفية التي من خلالها ندخل في حالة النوم. تقول «إليزابيث كليرمان»، رئيسة وحدة التحليل في قسم النوم واضطراباته بمستشفى جامعة هارفارد، إن ثبات الموعد الذي نأوي فيه إلى الفراش، يؤثر كثيرًا في المدة التي نستطيع أن ننامها، بغض النظر عن مدى شعورنا بالتعب وقت الذهاب إلى النوم.

تتحكم مجموعة كبيرة من العوامل في سرعة نومنا حين نتخذ قرار النوم، حسب الكاتبة. فلكي تتمكن من الوقوف على الأهمية النسبية لكل عامل من تلك العوامل، وتصنِّفها «مؤثرة» أو «غير مؤثرة»، تسجل كليرمان أولًا عادات من يخضعون للبحث وتاريخهم، فتجمع بيانات حول الروتين المعتاد الذي يتبعونه قبل النوم، والمشكلات التي واجهوها في الماضي، والأدوية التي يستخدمونها، وما إن كان أي منها يستخدمها بهدف المساعدة على النوم. تراقب كليرمان نوم هؤلاء الأشخاص تحت ظروف معملية، وتحدد مدى تأثير كل عامل في القدرة على النوم. وترى، على عكس الشائع، أن أحد أهم هذه العوامل هو الوراثة.

تتشابه أنماط النوم عند ذبابة الفاكهة كثيرًا مع النمط البشري.

تتحكم العوامل الوراثية بشكل كبير في كثير من اضطرابات النوم، مثل الأرق و«اضطرابات النَّظم الليلي النهاري» (النَّظم الليلي النهاري ببساطة يعكس إيقاع الجسم في الأربع وعشرين ساعة، فالمواد الكيميائية والإنزيمات والهورمونات مبرمجة لأن تصل إلى أعلى معدل ارتفاع لها في وقت محدد من اليوم، وأن تنخفض في وقت معين. إنه مثل جدول زمني للبرامج المختلفة في الجسم لتؤدي وظائفها في الوقت الأنسب). فلأسباب وراثية، ربما لا يفرز الجسم ما يكفي من مادة «الميلاتونين» (هرمون النوم)، أو أن تكون مستقبلات الميلاتونين نفسها غير موجودة بنسب كافية.

رغم أنه ما زال أمامنا كثير من الأمور لنفهم بشكل دقيق كيف تتحكم الجينات في نومنا، فإن عددًا من أخصائيي النوم، يحاولون أن يدرسوا التحول من اليقظة إلى النوم، بداية من البشر، وحتى عند ذبابة الفاكهة، فربما نستطيع من خلال هذا أن نفهم كيف تسير الأمور.

كثير من جينات النوم موجودة بالفعل في الفصائل المختلفة من الحيوانات، وأنماط النوم عند ذبابة الفاكهة تشبه كثيرًا، للغرابة، النمط البشري.

أصبح معروفًا لدينا الآن، أن حدوث طفرة (تغيُّر في المعلومات الجينية) محددة في جينات الذباب قد تجعلها عاجزة عن النوم، لذا، فإن عزل هذا الجين وتَتبُّع أدائه في أجسام الذباب وأدمغتها، قد يقرِّبنا خطوة من فهم أوجه العجز المشابهة عند البشر.

البيئة تلعب دورًا

جودة النوم ترتبط ارتباطًا مباشرًا بثبات مواعيد الدخول إلى السرير، والبدء في ممارسة طقوسه المعتادة.

الطفرات ليست أمرًا يحدث في وقت قصير. لذلك لا يمكن للاستعداد الوراثي وحده أن يفسر، السبب الذي جعل كثيرين منا يجدون صعوبة في النوم، ولا يفسر كذلك التغير في أنماط نومنا، والطريقة التي نخلد بها إلى النوم. لهذا ترى ماريا كونيكوفا، أن الغالبية العظمى من الأسباب تتعلق بالبيئة.

يرى عدد من الباحثين أن «ممارسات النوم الصحية»، مهمة إلى درجة قد تجعلها تتغلب على وجود الاستعداد الوراثي للمعاناة من اضطرابات النوم. وعلى العكس، فإن ممارسات النوم غير الصحية ربما تعادل بعض أشد الاضطرابات الجينية إزعاجًا في تأثيرها.

بعض ممارسات النوم الصحية ليست إلا ممارسات صحية عامة. معروف أن كلًّا من النيكوتين والكافيين والكحول يؤثر سلبًا في النوم، ويزداد الوضع سوءًا عند استهلاك تلك المواد قبيل موعد النوم. يأتينا النوم أسرع لو كنا نؤدي التمارين الرياضية، ونتناول وجباتنا في مواعيد منتظمة. لو استهلكنا كميات كبيرة من الأكل أو تناولنا الطعام في أوقات متأخرة من الليل، يصبح النوم أكثر صعوبة.

لو حاولتَ أن تنام وأنت جائع، سيجافيك النوم أيضًا. أي تغيير في مواعيد النوم يقلل من قدرتك على النوم. وجدت «روزاليند بيكارد»، مديرة إحدى مبادرات تحسين الصحة تحت اسم «Advancing Wellbeing»، أن تثبيت مواعيد النوم أحد أهم محددات جودة النوم، أي إنه من الأفضل أن نحدد موعدًا ثابتًا للنوم، وألا نسهر لساعات طويلة في ليلة على أمل أن نعوض ما فاتنا من نوم في الليلة التالية. جودة النوم ترتبط ارتباطًا مباشرًا بثبات مواعيد الدخول إلى السرير، والبدء في ممارسة طقوسه المعتادة.

ترى الكاتبة أن هناك أمرًا متكررًا في ملاحظات كثير من الأشخاص الذين يعانون من الأرق، وهي أنه عندما حاول كثير منهم الدخول إلى أسرَّتهم في مواعيد ثابتة، حتى لو لم يستطيعوا النوم في البداية، فإنهم أظهروا بعد فترة قدرةً على النوم، وتحسنت بالفعل جودة النوم نفسها، وليس فقط عدد ساعاته.

قد يهمك أيضًا: هل يجعلنا السُّبات نتخلص من ذكرياتنا؟

للضوء أهمية خاصة

الصورة: Lisa Fotios

ربما كان التحكم في الضوء أهم ممارسات النوم الصحية. تطور البشر، فأصبحوا أكثر حساسية لأقل تغيير في نسبة الضوء المحيط. بل إنه توجد مستقبِلات ضوئية محددة في العين تستجيب فقط لتغيرات الضوء والعتمة، واستخدامها الوحيد والحصري يكاد ينحسر في ضبط النَظم الليلي النهاري. هذه المستقبِلات تتصل بشكل مباشر، بالجزء المسؤول عن تنظيم ساعاتنا الجسمانية الداخلية في الدماغ.

هذه المستقبلات تعمل حتى لدى الأشخاص المكفوفين. رغم أنهم لا يرون شيئًا، فإن أجسامهم قادرة على ضبط ساعاتها الداخلية. يساعد الضوء أجسامنا على التنبؤ بالمستقبل، فهو يعطي إشارة على الكيفية التي ستتغير بها البيئة من حولنا خلال الساعات المقبلة، ما يساعد الجسم على الاستعداد بالشكل المناسب. يقول «ستيفين لوكلي»، عالم الأعصاب بجامعة هارفارد إن «ساعاتنا قد تطورت بطريقة تسمح لها بالتنبؤ بالغد».

يحرك الضوء الصناعي عقارب ساعاتنا الداخلية، بمقدار من أربع إلى ست مناطق زمنية. حسب توقيت تعرضنا لذلك الضوء.

تكمن المشكلة في أن هذا النظام الطبيعي للتنبؤ بالزمن يتعرض لارتباك، فقد أصبحنا أكثر تعرضًا للضوء ذي الموجة القصيرة، أو الضوء الأزرق، وهو ضوء تقرؤه ساعاتنا الداخلية باعتباره ضوء نهار. ينبعث الضوء الأزرق من أجهزة الكمبيوتر والتلفزيون والهاتف المحمول وقارئ الكتاب الإلكتروني.

فحين نستخدم أيًّا من هذه الأجهزة، فكأنما نؤجل صدور إشارة إلى الدماغ تحثه على الاستسلام للنوم. حين «يتأجل» موعد الغروب بسبب هذه الإشارات الكاذبة المنبعثة من أجهزتنا، فإن طاقة الجسم تزداد بدلًا من أن يُفرز «الميلاتونين» الذي يساعدنا على النوم.

وجد سيزلر أن الضوء الصناعي يمكنه أن يحرك عقارب ساعاتنا الداخلية، بمقدار من أربع إلى ست مناطق زمنية. يعتمد هذا على توقيت تعرضنا لذلك الضوء. في إحدى الدراسات، طلب سيزلر من المشاركين أن يقرأوا كتابًا ورقيًّا أو كتابًا إلكترونيًّا ينبعث منه ضوء، قبل دخولهم الفراش بأربع ساعات لمدة خمس ليالٍ متتالية.

كانت النتائج مذهلة، فقد أفرزت أجسام من قرأوا الكتب الإلكترونية نسبة أقل من الميلاتونين، وكانوا أقل شعورًا بالنعاس، مقارنة بمن قرأوا كتبًا ورقية. وتأجل إفراز الميلاتونين لديهم بأكثر من ساعة ونصف الساعة، وتأثرت ساعاتهم الداخلية.

احتاج قارئوا الكتاب الإلكتروني وقتًا أطول للدخول في النوم، وكانوا أقل يقظة في صباح اليوم التالي. هذه التأثيرات قد تحدث نتيجة لتعرُّض واحد فقط، فليس بالضرورة أن تحدث نتيجة للقراءة لفترات طويلة، فقد وجد لوكلي في «معمل النوم» الذي يُجري فيه أبحاثه، أن تعرُّض المشاركين في تجاربه للضوء ذي الموجة القصيرة، لمدة تقل عن 12 دقيقة، كفيل بأن يجلب الآثار نفسها التي تنتج عن فترات أطول.

الأدوية المنومة ليست حلًّا

تتسبب بعض المنومات في «الخَطَل النومي» الذي يتضمن سلوكيات مثل الأكل والمشي في أثناء النوم.

كثير من الأشخاص الذين يجدون صعوبة في النوم يلجأون إلى المنومات. لكن العقاقير الموجودة بالفعل ربما لا تكون قادرة على معادلة تأثير التنبيه المفرط الذي تتسبب فيه البيئة المحيطة. النوم الذي نحصل عليه نتيجة تعاطي العقاقير يختلف عن النوم العادي، وربما لا يكون بنفس الفعالية.

يكشف لنا «مات بيانكي»، رئيس وحدة عقاقير النوم بمستشفى ماساتشوستس العام، عن أن الأشخاص الذين يستخدمون المنومات ينامون فقط من 30 إلى 40 دقيقة في المتوسط، أكثر من الأشخاص الذين لا يستخدمونها. فهذه الأدوية ليست بهذا التأثير الذي يتحدث عنه بعضهم، ولا توفر جودة النوم الطبيعية.

لا توجد منومات تحاكي تمامًا التطور الطبيعي لمراحل النوم. كثير منها يعيق النوم ذي حركة العين السريعة (مرحلة تتحرك فيها العين بسرعة في اتجاهات مختلفة، ونرى خلالها الأحلام)، ولهذا فإنه ربما «أفسد القيمة الترميمية للنوم»، وفق ما كتبه بيانكي.

إضافة إلى ذلك، فإن بعض المنومات قد تتسبب في «الخَطَل النومي» (Parasomnia)، الذي يتضمن سلوكيات مثل الأكل والمشي في أثناء النوم، وهي أحداث تسقط كلية من ذاكرة الشخص في ما بعد. ولهذا السبب لا يُنصح بتعاطي تلك العقاقير لأكثر من أسبوع في النوبة الواحدة.

ليست المسألة أن يتوقف من يحتاج إلى تناول الحبوب المنومة عن هذا، وبخاصة لو كانت توصية طبيب. لكن الأمر يعني أن علينا أن نتعامل مع هذه المواد بقدر كبير من الحذر، وألا نستهلكها دون داعٍ، وخصوصًا أن بعضها يتسبب بالفعل في اضطراب النوم على المدى البعيد، وعدم قدرة متعاطيها على النوم بطريقة طبيعية.

اقرأ أيضًا: 5 نظريات وضعها البشر لتفسير ما نراه خلال النوم

أساليب مختلفة للمساعدة على النوم

الصورة: Prasanth Inturi

تقول كاتبة المقال إن هناك أساليب أخرى لتسهيل النوم غير المنومات. فمثلا، طوَّر لوكلي وسيزلر نظام إضاءة لتستخدمه «ناسا»، يساعد الأشخاص على الخلود إلى النوم في الوقت المناسب. يستخدم النظام الموجات التي تمنعنا من النوم لتحقيق قدر أكبر من اليقظة في أوقات مبكرة من اليوم، ثم يتحول إلى موجات أطول وأكثر «دفئًا» لتحضير الجسم للنوم.

بعض الأساليب الأخرى المتَّبَعة للمساعدة على النوم، تكون ذات طبيعة سلوكية. تنصح «سوزان ريدلاين»، باحثة في مجال النوم بكلية الطب بجامعة هارفارد، بالعلاج المعرفي-السلوكي. فهي ترى أنها مثلها مثل اليوغا والتأمل، ربما تساعد على النوم. وهي عاكفة حاليًّا على تطوير وسيلة تعتمد على اليوغا لمساعدة من يعانون من مشكلات النوم. يبنى عملها على دراسات سابقة، تقترح أن الأشخاص يحصلون على نوم أفضل عقب ممارسة اليوغا، والممارسات التأملية بشكل عام.

البحث عن حلول لمشكلة النوم أمر مهم، فقد أصبحنا أقل قدرة على الاستسلام للنوم، وما زلنا لا نفعل ما يكفي لحل المشكلة. كلما عرف الباحثون أكثر عما يحدث خلال فترات النوم، ازداد إدراكهم لأهميته ومحوريته في الحياة الإنسانية، وازدادت الآمال في إيجاد حلول لمشكلات النوم.

تطورت نظرتنا للنوم كثيرًا خلال الفترة الماضية، وبدلًا من التعامل معه كحالة سلبية لليقظة، أصبحنا الآن نراه كطريقة يمارس بها المخ نشاطًا من نوع مختلف. ربما لا نعيه كثيرًا، لكننا في الطريق على الأقل.

مواضيع مشابهة