عندما كانت المثلية واجبًا اجتماعيًّا

رسم يوناني يعود إلى الفترة من عام 460 إلى 450 قبل الميلاد: شاب عارٍ يعزف المزمار لمضيفه

إسراء مقيدم
نشر في 2017/01/06

هذا الموضوع ضمن ملف «الهوية الجنسية»، لقراءة موضوعات أخرى في الملف اضغط هنا.


تنويه: يحتوي الموضوع على صور قد يجدها بعض القراء صادمة.

في كتابه «تاريخ المثلية»، يقول عالم الاجتماع الفرنسي «ميشيل فوكو» (Michel Foucault) إن أول تعارف للعالم على مصطلح Homosexual (مثلي الجنس) وقع أواخر القرن التاسع عشر ، عندما أرادت الملكة فيكتوريا حمل رجال الطبقة الأرستقراطية في المجتمع البريطاني آنذاك على التوقف عن ممارسة الجنس مع الذكور.

في ذلك الوقت، لم يكن العالم قد اصطلح على تعريف هذا النوع من العلاقات بعد. الملكة فيكتوريا، التي أزعجها الأمر، كلَّفت الأطباء بدراسة تلك الظاهرة لإيجاد علاج لها، فاخترعوا لها لفظًا معاكسًا لكلمة Heterosexual (مغاير الجنس) هو Homosexual (مثلي الجنس).

محاكمة أوسكار وايلد بتهمة المثلية
محاكمة أوسكار وايلد على غلاف جريدة «أخبار الشرطة» عام 1895 - الصورة: bizarrebritain

لم يمض وقتٌ طويلٌ قبل إعلان الأطباء المثليةَ داءً قابلًا للعلاج، ليلحق بهم القضاء بتجريمها قانونيًّا، في ظل عدم تسامح الملكة فيكتوريا معها ومع غيرها من الممارسات التي عدَّتها خروجًا على النمط السائد، استجابةً لما عُرِفَ بـ«حركة التطهير الاجتماعية»، حتى إن الكاتب «أوسكار وايلد» (Oscar Wilde) تعرَّض للحبس عامين لإدانته ظلمًا بالمثلية.

قد يهمك أيضًا: ما هي الهوموفوبيا ولماذا يخاف البعض من المثليين؟

بعكس الملكة فيكتوريا، وعكس ما هو سائد اليوم من إدانة مجتمعية للمثلية، يخبرنا التاريخ البشري بنماذج متعددة تسامح فيها المجتمع مع السلوك الجنسي لأفراده ، ولم يقف الأمر عند هذا الحد؛ فمن بين هذه النماذج، نموذجان اتخذا من المثلية اختيارًا جمعيًّا، وكان لهما أثر بالغ في تطورها كسلوك، لتتحوَّل من خيار مجتمعي لاختيار شخصي، ومن اختيار شخصي لهُويَّة.

المثلية الشعائرية في الجزر السوداء

المثلية الشعائرية في زامبيا
المثلية الشعائرية في زامبيا

المعايير الثقافية وظروف النشأة عوامل أساسية في تشكيل الهوية الجنسية للإنسان، وسلوكه بشكل عام. 

في واحد من أكثر النماذج إرباكًا، كانت المثلية لقاطني الجزر السوداء (Melanesia) التي تقع غرب المحيط الهادي طقسًا شعائريًّا؛ ممارسته تعتبر ضرورة واجبة على الذكور لإتمام عملية البلوغ. فبحسب الاعتقاد السائد، لا يبلغ الذكر إلا بعد حقنه بالسائل المنوي لذكر آخر، ومن ثَم، يُفصَل الأطفال الذكور عن أمهاتهم في السابعة، ويدخلون علاقات مثلية مع الذكور البالغين استجابةً للمعتقدات.

اللافت هنا، وبحسب دراسات عالم الأنثروبولوجيا «جيلبرت هيردت» (Gilbert Herdt)، أن المثلية بالنسبة لشعوب الجزر السوداء لم تكن أكثر من دور اجتماعي يشارك به الذكور في بناء مجتمعهم، بشكل مجرد تمامًا لا تشوبه أي ميول أو رغبات في الفعل نفسه.

الدليل على ذلك أنه مثلما كان يُلزَم الصِّبيَة باتباع ذلك السلوك، كانوا يُجبَرون أيضًا على الامتناع عنه فور الوصول للسن المناسبة للزواج، وفي موقف قد يُعدُّ الأكثر تطرفًا، كان كلُّ من يقرر الإبقاء على سلوكه المثلي يُقصَى ويُعامَل كحثالة مجتمعية ينبغي تجنبها.

ورغم أن تطرفًا مثل ذاك صعَّب تصنيف أفراد هذا المجتمع (فلا يمكن النظر إليهم لا كمثليين ولا كمغاييرين)، فإن النموذج ككل ساعد علماء السلوك على فهم المثلية بشكل عام، وبأكثر من زاوية.

أثبتت المثلية الشعائرية أن «السلوك» المثلي لا يعني بالضرورة «رغبة» مثلية.

بعكس الاعتقاد الراسخ أن التوجه الجنسي للإنسان يُحدَّد وفقًا لميوله ونزعاته، سواءً تجاه أفراد من نوعه نفسه أو من النوع المغاير، أثبتت المثلية الشعائرية أن التوجه الجنسي للفرد مسألة يحددها السياق المجتمعي المحيط به بالأساس ، وأن المعايير الثقافية وظروف النشأة عوامل أساسية في تشكيل الهوية الجنسية للإنسان، وسلوكه بشكل عام.

ليس هذا فقط، بل إن انتهاج نمط جنسي ذي صبغة طقوسية تخلو من النزعة الشهوانية ساعد علماء السلوك والأنثروبولوجيا على فصل سلوك الفرد الجنسي عن توجهه، ورغبته عن هُويته الجنسية، ليصبح لكل منهم تعريف مستقل، عوضًا عن الخلط بينهم وإدراجهم جميعًا تحت مسمى «الهُوية»، لشدة تماهيهم.

أو بمعنى آخر، فإن وجود نمط مثلي مغاير في طبيعته وذي أهمية وظيفية كالمثلية الشعائرية، أثبت أن «السلوك» المثلي لا يعني بالضرورة «رغبة» مثلية، وأن التوجه المثلي قد لا يدل على هُوية مثلية للفرد، فالهوية الجنسية حصيلة ميول الفرد وسلوكه مجتمعين ، وبالتالي فكل هُوية مثلية للإنسان تدل على سلوكه، وليس العكس.

بشكل عام، تُعدُّ المثلية الشعائرية ثقافة مُستحدَثة (قياسًا بعمر البشرية) عمرها عدة قرون فقط، ما جعل البعض لا يعتد بها كنموذج يستحق الدراسة، بسبب حداثتها من جهة ونشأتها وارتباطها بمجتمعات قبلية بالأساس من جهة أخرى، لذلك سعى علماء السلوك لدراسة نموذج أكثر تطورًا، رغم كونه أكثر قدمًا، يرجع لعام 2500 قبل الميلاد.

المثلية كعرف اجتماعي في المجتمعات اليونانية

المثلية في اليونان
نقش يوناني عن المثلية يعود لعام 450 قبل الميلاد

صحيح أن المثلية الشعائرية كان لها تأثير بالغ في شعوب جزر المحيط الهادي، لكن النموذج الأكثر تأثيرًَا وانتشارًا كان في المجتمعات اليونانية القديمة، أو ما عُرف بالمثلية العرفية، فـفي قمة ازدهار الثقافة اليونانية، كان يُنظَر للجنس كسلوك مكتسَب أكثر من كونه غريزة فطرية ، لذا كان شائعًا ظهور علاقات مثلية بين الصِبية والذكور الأكبر سنًّا، في إطار اجتماعي يتخذ فيه كل صبي منهم ما اصطُلح على تسميته بـ«المُعلِّم»، لتلقينه كل ما سيخوَّل إليه لاحقًا، فيعلمه كيف يتصرف بشجاعة، ويلقنه معنى الكرامة، وكذلك أصول ممارسة العلاقة الحميمية.

اقرأ أيضًا: هل يمكن اكتساب السلوك المثلي؟

وعلى عكس النموذج الشعائري، ففي اليونان كان يُسمح أن يختار كل مُعلِّم لتلميذه عروسًا مناسبة فور وصوله السن الملائمة للزواج.

من الممكن عدُّ أهمية النموذج اليوناني الحقيقية في تنوع أنماطه، إذ لم يقتصر على علاقة «التلميذ والمُعلِّم» بين الصبية والذكور البالغين، بل امتد ليسمح بوجود علاقات مثلية يكون طرفاها من البالغين.

هذه العلاقات كانت ترتبط فيها الهُوية الجنسية بالدور الاجتماعي بدلًا من النوع، فيتعرض الطرف الأدني اجتماعيًّا والأفقر اقتصاديًّا للتحقير، ويُوصم بالعار والتشبُّه بالنساء، في مقابل احتفاظ الطرف الأرقى اجتماعيًّا المنتمي للنخبة بطبعه باحترام المحيطين به، فلا ينتقص منه إلا تقصيره في واجباته تجاه أسرته.

والأهم من ذلك، أن الطرف الأرقى لا يُعدُّ مثليًّا، وإنما سويًّا ممارسًا للعلاقة مع جنسه نفسه، فيما الطرف الأدنى يُصنَّف مثليًّا حتى لو كانت له علاقات مع الجنس المغاير، ويُوصم بالعار لتشابه دوره مع دور الأنثى في العلاقة الحميمية.

هذا النمط يُعدُّ ضمن العادات الاجتماعية المسؤولة عن الربط بين السلوك الجنسي للأفراد وتصنيفهم اجتماعيًّا، فيقع المغايرون في مكانة أعلى والمثليون في المكانة الأقل شأنًا، ليُحتقَروا بكيفية مهينة في الوقت الحالي، ما أدَّى لتطويرهم آليات دفاع خاصة، فيُصنِّف بعضهم أنفسهم بما يسمى MSM (رجال يعاشرون رجالًا)، ويقدِّمون أنفسهم كأسوياء يمارسون الجنس مع الرجال، هربًا من الوصمة الاجتماعية المقترنة بكلمة «مثليّ».

لوحة من القرن الـ17 لاثنين من محاربي الساموراي في وضع مثلي

ورغم التشابه الكبير بين النموذجين (المثلية الشعائرية والمثلية العرفية)، فإن النموذج اليوناني كان الأكثر انتشارًا، بسبب نشأته في مجتمع حضاري مؤثر مثل اليونان وتصديره مع حراكه الثقافي على مدى واسع وبتنويعات مختلفة، فانتشر في مجتمعات عدة؛ مثل محاربي الساموراي في اليابان، والمماليك في مصر القديمة، وفي السودان وليبيا وبلاد فارس على فترات متباعدة.

قد يعجبك أيضًا: المأساة الجنسية في العالم العربي

كل هذا يعكس أهمية ظروف نشأة أي ثقافة، بوصفها العنصر الأكثر تأثيرًا في ذيوع الأفكار عمومًا، ومدى انفتاح المجتمعات لاستقبالها إذا ما قورنت بنماذج مشابهة رُفضت لارتباطها بحضارات أكثر بدائية.

في عالم اتخذت فيه حضارات بأكملها من المثلية سلوكًا مجتمعيًا، يصبح احتفاظ العالم بنظرة ضيقة إلى المثلية أمرًا مثيرًا للاستغراب.

على الجانب الآخر، تجارب مثل هذه تروي لنا كيف أن هُوية الإنسان واختياراته الشخصية ليست إلا حصيلة مجموعة اختيارات جماعية ، فرغم أن المجتمعات المذكورة لا تُصنَّف كمجتمعات مثلية، لأن انتهاج السلوك لا يعني بالضرورة التوجه، فإن دورها كان أساسيًّا في انتشار المثلية في العالم، طبقًا لعلماء الأنثروبولوجيا.

ورغم أن أفراد تلك المجتمعات كانوا مجبرين على السلوك المثلي، فإن شجاعة وأريحية ممارسته أكسبت المثلية هُوية وأصالة، تدفع العديد من البشر لانتهاجها اليوم كاختيار شخصي حر.

الهُويَّة الجنسية: هذا ما جنته المجتمعات

مظاهرة للمثليين في أمريكا
مظاهرة للمطالبة بحقوق المثليين في نيويورك (1976)

بالنظر لتعريف الشذوذ كخروج على النمط السائد والمألوف، وفي عالم اتخذت فيه حضارات بأكملها من المثلية سلوكًا مجتمعيًا (قبائل بابوا غينيا الجديدة لا تزال تحتفظ بتقليد المثلية الشعائرية، على سبيل المثال)، يصبح احتفاظ العالم بنظرة ضيقة إلى المثلية أمرًا مثيرًا للاستغراب.

علينا أن نعيد النظر، ليس للمثلية وحدها، ولكن لسلوكيات البشر الجنسية بأنماطها جميعًا.

فـماذا سيكون معنى «الشذوذ» بالنسبة لمجتمعات سادت فيها المثلية؟ ، وما تعريف غير العادي؟ صحيح أننا أتينا إلى هذا العالم عن طريق علاقات مغايرة، لكن هذا لا يمكنه إثبات أو نفي السلوك المثلي عن أسلافنا. وبالقدر نفسه تقريبًا، فسلوكهم المثلي، إن ثبت، لا يمكنه إخبارنا بأي شيء عن هُوياتهم الجنسية.

ما يهم الآن هو إفساح المجال لتناولات أكثر اتساعًا للمثلية وكونها نتاجًا مجتمعيًّا، ولو بصفة جزئية، بدلًا من الانخراط في جدليات بشأن كونها شذوذًا أم مجرد طبيعة مختلفة.

ففي عالم يغيِّر من توجهاته بشكل مستمر، لا بدَّ أن وصولنا لهذه المرحلة يحتِّم علينا إعادة النظر، ليس للمثلية وحدها، ولكن لسلوكيات البشر الجنسية بأنماطها جميعًا، من حيث كونها مَرايا مصقولة تعكس ملامح تجربة الإنسان في هذا العالم، ومحاولاته المستمرة استكشاف نفسه ورغباته وسلوكياته.

وكأجيال تطورت جينيًّا وسلوكيًّا عن سابقتها، ربما ما نحتاجه هو تبنِّي أفق أكثر فهمًا وأقل محدودية للمثلية بصفة خاصة، وتتبع مراحلها ومحاولة فهمها ، كمسارٍ موازٍ، احتاج الإنسان لاختلاقه ذات يوم والعبور من خلاله، بل والاستقرار عليه في بعض الأحيان.

مواضيع مشابهة