في مكان هادئ ومنعزل مثل قرية عزبة إمام بمحافظة المنوفية، لا تسمع سوى زقزقة العصافير وهديل الحمام، ولا تشم إلا رائحة الدخان الخارج من الأفران البلدي و«راكيات» الشاي، يعيش سلامة، الذي يصفه الجميع بعبيط القرية أو الدرويش.
سلامة أشعث الشعر، كثيف اللحية، زائغ العينين، مستطيل الرأس، يسير حيث يريد، وينام حيث يشاء، يعرف أشياء لا يستطيع أحد معرفتها. يراه بعض الناس وليًّا من أولياء الله الصالحين، يتبركون به ويهابونه. أحيانًا يسألونه عن أمور شخصية في حياتهم، فإذا مرت به الفتيات يسألنه عن العرسان: متى سيأتون؟ فتجده يعاكسهن، ويطلب منهن الزواج، وإذا مر به الطلاب يسألونه: هل سينجحون في الدراسة؟ فيقول لأحدهم: نعم ستنجح، ويقول للآخر: لا، لن تنجح. فتجدهم يضحكون، ثم يفاجَؤون بكلامه يتحقق، فيخطبون وده، ويطلبون منه الدعاء.
هناك آخرون أيضًا يستغلونه في معرفة أخبار البيوت، فهو بمثابة وكالة أنباء متنقلة، يحفظ تفاصيل كل البيوت، ويعرف أسرارها، فهو سلطان كل القلوب الطيبة، ولا تخلو مجالسهم من وجوده، وموائدهم متاحة له في أي وقت.
الغريب أن متعته الوحيدة في الحياة هي السجائر، فإذا أعطاه أحدهم سيجارة وطلب منه أي مساعدة، ينفذها على الفور. تجده يترقب مجالس المدخنين حتى ينال مما في جعبتهم، وهم في المقابل يطلبون منه فعل أشياء مضحكة، مثل الرقص أو تقليد شخص ما.
في يوم ما اقترح عليه أحد أبناء القرية الطيبين أن يرسله إلى مصنع الطوب، فما وجد منه إلا الترحيب، إضافةً إلى أنه لم يسأل عن المقابل، فقد اعتاد أن يساعد الجميع، وإذا أعطيته جنيهين يكتفي بواحد ويرد الآخر.
سلامة وشخصية الزين من رواية «عُرس الزين» وجهان لعملة واحدة، ونموذج منتشر في القرى المصرية، فلا توجد قرية إلا وبها من يُطلَق عليه عبيط القرية أو الدرويش.
قرار سلامة بقبول العمل كان بمثابة انتصار على عوامل الضعف في شخصيته، وعلى التصنيف الجائر الذي حَدَّ من قدراته، وهذا ما يذكرنا بشخصية الزين في رواية الطيب صالح «عُرس الزين»، التي تحكي عن شاب كان يصفه أهل القرية بالعبيط الدميم، ويتخذونه مثالًا للهزل والسخرية، ويتعاملون معه بطريقه بلهاء، لكنهم يُغفلون المعنى الحقيقي لهذه الشخصية. فهو أكثر أهالي القرية عطاءً، ويحب الجميع، ويتعامل معهم بالفطرة، ويمتلك قدرة تعبيرية قوية، فكان دائمًا ما يردد أنه مقتول بحب «نعمة» ابنة عمه.
هذا الجمال الروحي جعل نعمة، أجمل بنات القرية التي رفضت كل من تقدم لخطبتها، تقبل بالزين زوجًا لها، وهو الخبر الذي كان بمثابة الصاعقة على أهل القرية ووجهائها من الأشرار، الذين رفضوا فكرة تزويجه وشككوا في قدراته العقلية والجسدية، لكن نعمة بمساندتها له منعت أن تتحول العاهة الجسدية التي تتمثل في قبح مظهره إلى عاهة نفسية، وتزوجته بالفعل، وهذا كان انتصارًا على التصنيف المجتمعي الجائر له.
سلامة والزين وجهان لعملة واحدة، ونموذج منتشر في كل القرى المصرية، فلا توجد قرية إلا وبها من يُطلَق عليه عبيط القرية أو الدرويش، لكن السؤال الذي يطرح نفسه: هل العبيط ضحية نزعة المجتمع الإنساني إلى وضع أفراده في أُطر نمطية سالبة، أم إنه نتاج انعدام العناية الصحية لهذه المجتمعات؟
يؤكد إسلام سامي، أستاذ علم الاجتماع، أن النظرة السطحية التي تمتلكها الشعوب العنصرية هي التي تضعهم في هذه الدائرة المغلقة، بينما الشعوب المتقدمة تنظر إلى هذه الشخصيات بشكل إيجابي، ولا تضعهم في هذه القولبة، بل تصنع منهم عباقرة، فـ«أرشميدس»، علي سبيل المثال، عندما خرج عاريًا من حوض الاستحمام صارخًا: «وجدتها وجدتها»، لم ينتهِ الأمر بضحك الناس وصياح الأطفال: «العبيط أهو، العبيط أهو»، بل استفادت منه البشرية كلها.
جدير بالذكر أن هناك قرية أمريكية بولاية إنديانا، تُدعى ستوري، تعطي جائزه سنويه لأكثر الأشخاص حماقة، وتمنحه لقب عبيط القرية في احتفالية كبيرة بهدف لفت الأنظار إلى هذه القرية المنعزلة التي ليس بها عمدة، ولا حكومة بالمعنى التقليدي، وأكثر لقب رسمي فيها هو «عبيط القرية».
يقول إسلام سامي: إن شخصية عبيط القرية ملهمة ومتميزة رغم النقص التركيبي أو الجسماني باختلاف مسبباته، وأكبر دليل علي ذلك خلود هذه الشخصية في ذاكرة القرية، إضافة إلى ذلك، فإن هذه الشخصية أثْرَتِ مخيلة بعض أدباء العرب والعالم، ابتداءً من جان بول سارتر حتي الطيب الصالح، إذ يرى سارتر عبيط القرية رجلًا مفعمًا بالروحانية من خلال حراكه الموجب، وحبه للجميع. بينما يراه الطيب صالح رمزًا لجمال الحياة، ذلك الجمال الروحي الذي جمع أجمل فتاة مع أقبح شاب بعيدًا عن أي زيف أو قبح في النفوس والقلوب.
يُنظر للعبيط في التراث على أنه غريب الأطوار، لكنه يحمل أشياء تجعله مصدر قداسة، ويراه بعض أصحاب الطرق الصوفية رمزًا للزهد.
أثَّرت الدراما المصرية في المستوى السينمائي والتلفزيوني، واستطاع بعض الفنانين أن يشقوا لهم طريقًا في مشوار النجومية عن طريق هذه الشخصية، مثل الفنان محمد توفيق، العبيط الأشهر في فيلم «حسن ونعيمة»، الذي جسَّد شخصية «ابن صبيحة». وكذلك صلاح السعدني، الذي جسد شخصية «علواني» عبيط القرية بشكل مقارب للاتزان بعض الشيء في فيلم «الأرض»، وقدم عادل إمام في فيلم «المتسول» شخصية «عرفة»، الذي يسيطر عليه عشقه للنساء.
تؤكد علا الزيات، أستاذة علم الاجتماع، أن عبيط القرية ضحية مجتمع يعجز عن استيعاب مرضاه من لحظة ميلادهم حتى وفاتهم، وإطلاق اسم «العبيط» عليه نوع من الوصم الاجتماعي. وتشير إلى أن هذه الشخصيات يمكن إدماجها في المجتمع بشكل طبيعي، لكن عند مستوى ذكاء معين، كي يستطيع أن يتعلم ويتزوج ويعمل مثله مثل أي شخص عادي، لكن الأزمة تتمثل في البيئة، أو في المجتمع الذي يعرِّضه لأسوأ أنواع الاستغلال البدني والنفسي، خصوصًا عند وفاة الأب والأم.
سعيد المصري، أستاذ علم الاجتماع، يوضح لـ«منشور» أن عبيط القرية ظاهرة انتشرت بشكل كبير في أوائل القرن العشرين، ليس في القرية فقط، بل كان موجودًا في كل حي، نتيجة الفقر والمرض والشكل المنبوذ.
يقول المصري: «في التراث والمعتقدات القديمة يُنظر إلى الشخص العبيط، أو من يسمونه أحيانًا المجذوب، على أنه غريب الأطوار، لكنه يحمل أشياء تجعله مصدر قداسة، أو ولاية، وبعض الصوفيين يرون مظهره السيئ رمزًا للزهد والقداسة، فتجدهم ينسجون حوله الأساطير، فإذا اختفى فجأة يومًا أو يومين يقولون إنه من أهل الخطوة، أي الذين يتجاوزون حدود الزمان والمكان، ويؤكدون أنه كان يصلي في الكعبة، وإذا مات ينصبون له المقامات، ويزورونها من حين إلى آخر، ويقيمون حولها الموالد».
يوضح أستاذ علم الاجتماع أن هذه المعتقدات ترسخت قديمًا نتيجة الظلام والعزلة الاجتماعية وانعدام وسائل التواصل الاجتماعي، والآن تنتشر خصوصًا في الصعيد والمناطق النائية، لكنه يلفت إلى أن هناك مفارقة ظالمة لهذه الشخصية، التي أنصفها التراث الشعبي والأدب الروائي بينما همَّشها المجتمع المصري وأهملها، وجعل منها مصدرًا للسخرية والنفور، بل ووضعها ضمن التصنيف المجتمعي الجائر، شأنها شأن كل القضايا الاجتماعية والإنسانية.
قد يهمك أيضًا: هل أنت مغفل؟ هل أنت متأكد؟
هناك بعض الشخصيات تَدَّعي العبط والدروشة غطاءً لأشياء خطيرة يخططون لها، أو لجرائم ينوون ارتكابها أو ارتكبوها بالفعل، فيندسون وسط مجتمع لا يعرفهم، ويمارسون أمور الدروشة بملامح ساذجة ووجوه بريئة، ثم في النهاية نكتشف أنهم إما مجرمون، وإما نصابون، وفقًا لإبراهيم مجدي حسين، أستاذ علم النفس الاجتماعي.
وأحيانًا تستخدمهم جهة معينة أو أشخاص بعينهم، ليبعثوا رسائل سياسية أو اجتماعية عن الظلم والقهر والاستيلاء على حقوق الناس، وهذا ما جسدته الدراما المصرية في مسلسل «عصفور النار» عن طريق الفنان محمد متولي، الذي كان يحمل رسائل من المقهورين والمظلومين ويجول القرية لينشرها مدعيًا السذاجة والعبط، وفي النهاية نكتشف أنه شخص طبيعي.