تبحث على تويتر عن الأخبار الجديدة، يستوقفك شيء، تعثر عليه في محرك البحث العملاق غوغل، تريد أن تنشر فكرتك، ترفعها على حسابك في فيسبوك، تبتسم للإعجابات والتعليقات، تخبر صديقك على واتساب بحكايتك، الوقت تأخر، تطلب سيارة من «أوبر» أو «كريم».
أهلًا بك في عصر اقتصاد المعلومات، حيث الواقع من حولك لم يعد ماكينات وشوارع ومحلات بقالة، وإنما «إنفوسفير» أو غلاف معلوماتي. الآن أنت لم تعد الإنسان الذي يثبت وجوده بالتفكير كما يقول «رينيه ديكارت»، بل بالتفاعل الإنساني عبر هذا الغلاف المعلوماتي.
في هذا الواقع المعلوماتي تروج شركات التكنولوجيا لأفكار تدعم وتُشرعِن وجودها: بداياتها الملهمة مع شباب عصاميين وحالمين، ودور مواقع التواصل الاجتماعي في ربط العالم ببعضه بعضًا، وتمكين الناس من التعبير عن آرائهم وغضبهم ضد أنظمة تبدو عتيقة وتاريخية. وكذلك تُبشر تكنولوجيا المعلومات بعصر قادم يقدس حرية التعبير وتبادل المعلومات والمشاركة التفاعلية، عالم دون حدود، بعيدًا عن بيروقراطية الحكومات وخطوط الجغرافيا.
لكن كثيرين يحذرون من أن وسائط التواصل الاجتماعي غير محايدة، وأنها تتلاعب بنفسيات المستخدمين لتحقيق الأرباح، وأن الإنترنت شبكة قائمة على جذب الإعلانات فقط. ويحذر خبراء أيضًا من أن الحراك الاجتماعي والسياسي القائم على تلك الوسائط «مُخترَق» بطبيعته من الداخل، ومُتلاعَب به من الخارج، ولا بديل عن التقاء الناس، والتنظيمات الهرمية داخل الحركات الاجتماعية والسياسية.
موت الدولة البطيء وبروز «منظمات عالمية»
يتبنى «لوتشيانو فلوريدي»، أستاذ الفلسفة المتخصص في أخلاق الإعلام بجامعة أكسفورد، في كتاب «الثورة الرابعة: كيف يعيد الغلاف المعلوماتي تشكيل الواقع الإنساني»، الفكرة القائلة بأن تكنولوجيا المعلومات نقلت العالم في ثورة أشبه بثورة اختراع الماكينة البخارية إلى مرحلة سماها «التأريخ المفرط»، فلم يعد الإنسان يتعامل مع الطبيعة كالإنسان البدائي، أو مع الآلة التي تتعامل مع الطبيعة مثل العصر الصناعي، بل مع «كائنات وكيلة معلوماتية» متصلة بكائنات معلوماتية أخرى.
تحول الواقع إلى إنفوسفير يتألف من جميع الكيانات المعلوماتية وتبادلها، وفي هذه الحالة تحولت كينونة الإنسان من الكيان المفكر إلى الكائن المعلوماتي المتفاعل، وأضحى الإنسان يختبر العالم معلوماتيًّا، ويعيش بعيدًا عن ازدواجية الاتصال «أون لاين» أو الانفصال «أوف لاين» عبر الإنترنت إلى تجربة الحياة دائمة الاتصال «أون لايف»، وهو ما يميز الأجيال التي وُلدت في الألفية الجديدة.
على مستوى الدولة، تنبأ فلوريدي بموت تدريجي وبطيء لمؤسساتها، فهي بالنسبة إليه تعيش الآن وضع «الاستماتة». اشتق المصطلح من «موت الخلية المبرمج»، وهي حالة بيولوجية صحية من التدمير الذاتي للخلايا التي لم يعد لها دور تلعبه.
كانت الدولة تعتمد في وجودها على السلطة والقوة، والأولى تعني احتكار حيازة المعلومات، والقوة المُتَمثلة في الجيش لحفظ الحدود والشرطة، لكن تعزيز وتطوير تكنولوجيا المعلومات، بحسب الكتاب، يتيح الفرصة لوجود وكلاء آخرين للمعلومات، لديهم سلطة أحيانًا أكبر من الدولة، ما يساعد في زحزحة التوازن ضد الحكومة المركزية لصالح وكلاء عالميين.
ستحارب الدول من أجل حفظ «حقها» في السلطة ذات الطابع المعلوماتي عبر وضع معايير للنشر، والتحكم في تدفق المعلومات، والنيل من شرعية المؤسسات الدولية ظاهريًّا أمام الشعب، لتظهر بمظهر الوكيل الوحيد الموثوق به معلوماتيًّا، لكن الدولة تجد نفسها مضطرة إلى أن تُحرك قوتها لتنفيذ معاييرها قسرًا، وهو مؤشر فشل.
هنا تفقد الدولة سلطتها، وتحوز شبكات التواصل الاجتماعي معلومات خاصة بالمواطنين المحليين كانت في السابق حِكرًا على الدولة، وتتيح للمستخدمين (الكيانات المعلوماتية) التفاعل والترابط.
اقتصاديًّا، وبفضل تكنولوجيا الاتصالات، بات لشركات بعينها إيرادات تفوق الدول. وبحسب إحصائية منظمة «العدالة العالمية» غير الحكومية، المعروفة سابقًا باسم حركة التنمية العالمية، ارتفع عدد الشركات بين أفضل مئة كيان اقتصادي في 2015 إلى 69، مقارنةً بـ63 شركة في العام السابق.
وجغرافيًّا، كسرت تكنولوجيا المعلومات عاملًا مهمًّا للدولة هو الحاجز الجغرافي، وميَّعت «التنظيم»، أي النقابات ومؤسسات الدول والأحزاب، لصالح تَجَمُّع شرائح الشعب «عند الطلب»، وهي العملية التي تثيرها الهاشتاغات على تويتر، إذ يحتشد الناس من أجل قضية، ثم يتفرقون ليجتمعوا من أجل حدث آخر.
يرسم الكتاب ملامح العالم الجديد الذي يختزَل إلى نزع هوية «القومية» التي تبنَّتها الدولة الحديثة، وإحلال هوية أخرى مؤقتة وتفاعلية، تربط بين أنظمة عالمية متعددة الوكالات، مثل «البنك الدولي» و«هيومان رايتس ووتش»، أو بين معاشر المغردين الذين تجمعهم قضية ما، ويتفاعلون بعد ترابطهم على «سوشيال ميديا» في الأرض.
يُنهي العالم الرقمي الجديد السياسة التي تتحدد بالتصويت في الانتخابات، فلا يوجد شعور بالانتماء القومي والجغرافي والدولة، وفرض الدولة أي قيود على تدفق المعلومات يُعد مشكلة بيئية، فبيئة المعلومات تميل إلى التخزين والانتشار.
ومع محو الفاصل بين معدات أجهزة الكمبيوتر والتطبيقات ستختفي الملكية المادية ويحل محلها حق الاستخدام المتعلق بالتطبيقات.
الربيع العربي: تَلاعُب بالغضب، أم ثورة على العالم القديم؟
مثَّلت أحداث ما أُطلِق عليه «الربيع العربي» وتَبِعاتها السياسية والاقتصادية نموذجًا لهذا الصراع بين شركات التكنولوجيا من ناحية، والدولة من ناحية أخرى، فاضطرت الأخيرة إلى إغلاق وسائل الاتصال عن الشعب في محاولة للتحكم في «التفاعل المعلوماتي» وتدفق البيانات، وصاحَب ذلك وعود وتفاؤل بالحرية والمساواة، لكن سرعان ما استحال الأمر إلى كابوس يترنح بين الاستبداد والحرب الأهلية.
«راميش سرينيفاسان»، المتخصص في العلاقة بين وسائل التواصل الاجتماعي والمجتمع والسياسة، راقَب مسار ثورة 25 يناير المصرية على امتداد سنوات، وخرج بملاحظات مهمة حول التفاعل عبر السوشيال ميديا، أبرزها أننا بالغنا في تقدير أثرها، وأهملنا مطالب من لا يملكون هواتف ذكية (وصلت نسبتهم إلى 90% من القوة الفاعلة على الأرض خلال حراك يناير)، وأبرز مطالبهم لم تكن حرية التعبير، بل التغيير الاقتصادي والأمان الوظيفي، وما حدث هو العكس، فقد طُرِد كثيرون من وظائفهم.
يرى سرينيفاسان أن التمرد ينبثق بالأساس دون الاعتماد على وسائل الإعلام الاجتماعي، مثل شبكات الصِّلات العائلية، والجيران، والتجمعات التعبدية في المساجد، والهياكل التنظيمية التاريخية للجماعات والأحزاب السياسية.
لكن ماذا سيحدث لتلك الروابط ولتأثير السوشيال ميديا بعد أن يمتلك الجميع هواتف ذكية في 2026، ويتحولون إلى «كيانات معلوماتية»؟
يتنبأ راميش بأن وسائل التواصل الاجتماعي ستكون «مركزية» أكثر في تواصل الناس، لكنه يرى أن للعوامل المؤسسية دورًا أكبر في خلق الثورات، لكن للسوشيال ميديا ميزة خاصة تعلمناها من يناير، هي «تكوين خيال جمعي» لمستقبل يمكن أن يحركهم نحوه.
لا يكشف غوغل وتويتر وفيسبوك طريقة تفضيل بعض المنشورات على بعض، أي أنهم يحسبون حساباتهم دون مراقبة أو شفافية.
تكشف لنا احتجاجات «وول ستريت» الأمريكية جانبًا آخر من وسائل التواصل الاجتماعي، إضافةً إلى المبالغة وتجاهل الروابط الاجتماعية والسياسية القديمة، هو إمكانية تلاعب المتحكمين بتلك الوسائط في التظاهرات والغضب الشعبي.
من المفترض أن استخدام الهاشتاغات «ظاهرة يخلقها المستخدم» لخلق ما يعرف باسم «الحشود الذكية» أو التجمعات التي تمتلك هواتف ذكية، لكن تلك الهاشتاغات المحرِّضة اختفت من «التريند»، وبخاصةً في حادثة «جسر بروكلين»، فلم يعثر كثير من مستخدمي تويتر على هاشتاغ «occupywallstreet#». وباللجوء إلى أدوات إحصائية مثل «Trendistic»، على سبيل المثال، التي تقدم الهاشتاغات الأكثر ذيوعًا، اندهشوا من أن الهاشتاغ كان ينافس على المرتبة الأولى في 1 أكتوبر 2011، أي وقت الحادثة، لكنه لم يظهر مطلقًا للمستخدمين.
ماذا لو أن واقعة بروكلين، التي اعتقلت فيها الشرطة الأمريكية 700 متظاهر، حدثت في ميدان التحرير أو في طهران؟ ربما كنا لنجدها الأكثر تداولًا على تويتر.
لا يكشف غوغل أو تويتر أو فيسبوك أو غيرها من المواقع طريقة اختيار المنشورات وتفضيل بعضها على بعض، وغير مُخَوَّل لنا الاطلاع على تلك الخوارزميات، أي أنهم يحسبون حساباتهم دون مراقبة أو شفافية، ويجعلنا هذا جميعًا عُرضة للتلاعب بالمعلومات والبيانات.
لولا الحكومة الأمريكية لما كانت غوغل، ولا الإنترنت
لا ننسى ونحن نتحدث عن التلاعب بالمعلومات في السوشيال ميديا أن الحكومة الأمريكية هي التي دَعَمَت مُحرك بحث غوغل، ضمن شركات أخرى عدة، عن طريق المؤسسة الوطنية للعلوم الحكومية الأمريكية.
ففي أيام الإنترنت الأولى في بداية تسعينيات القرن العشرين، كان الناس بحاجة إلى واجهات أفضل لمجموعات البيانات المتزايدة. في ذلك الوقت تلقى «لاري بيج» و«سيرغي برين»، مؤسسا غوغل، تمويلًا من مؤسسة العلوم الوطنية الأمريكية في مشروع بمبادرة المكتبة الرقمية في جامعة ستانفورد، ومكَّنهما هذا التمويل من إنشاء بدايات الخوارزميات.
في الستينيات وجَّهت وكالة مشروعات الأبحاث المتقدمة (ARPA)، واسمها الآن «وكالة مشروعات الأبحاث التقدمية في الدفاع» (DARPA)، الأموال للبحث والتطوير على المدى الطويل لتقنيات اختراق يعتمد عليها عمالقة التكنولوجيا، ومَوَّل معهد ستانفورد للأبحاث، باعتباره مركز الابتكار والتنمية الاقتصادية، كثيرًا من ابتكارات التكنولوجيا، وإلى هذا المركز يرجع الفضل في اختراع أول جهاز رقمي مغناطيسي، والماوس، ونسخة مبكرة للغاية من الإنترنت.
بفضل الحكومة والجيش الأمريكي ابُتكِر كثير من الاختراعات الحديثة مثل نظام تحديد المواقع (GPS)، والاتصالات الخلوية، والإنترنت، والرقائق الإلكترونية، والشاشات التي تعمل باللمس.
في الجانب القانوني سَنَّت الحكومة الأمريكية قوانين ضد الاحتكار، فقد رُفِعَت دعوى قضائية لفصل أجهزة الكمبيوتر عن البرامج التطبيقية، ووافقَت شركة «IBM» التي كانت تَحتكر البرامج بالسماح لشركات أخرى بإنشاء برنامج يعمل على أجهزتها، وقد أفسح هذا المجال لشركة مايكروسوفت لابتكار نظام «Windows»، وبدورها واجهت مايكروسوفت قضية احتكار، لتفسح المجال لغوغل لتنفيذ تطبيقاتها مثل «كروم» على ويندوز.
يشيع رواد شركات الإنترنت العملاقة أن الفضاء الإلكتروني لا حدود له، ومنفصل عن العالم المادي، لذا لا يخضع لنفس القوانين، وذلك بحسب «إعلان استقلال الفضاء السبراني» الذي أصدرته مؤسسة الحدود الإلكترونية في عام 1996، وانتقد أي شكل من أشكال التدخل الحكومي بدعوى أن «عالمنا الرقمي» غير «عالمكم».
أوبر منصة احتكار، وكذلك الطائرات دون طيار والخدمات اللوجستية، وكلها تقتل سائقي سيارات الأجرة لصالح شركات مملوكة لأشخاص بُدناء.
والواقع أن نمو شركات التكنولوجيا كان بفضل سياسات الرئيس الأمريكي السابق بيل كلينتون للسوق الحرة، التي خَلَقَت منطقة تجارة حرة رقمية عبر تخفيض قوانين الضرائب الخاصة بشركات الإنترنت، وبهذه الطريقة وُلد شكل جديد من أشكال الرأسمالية الرقمية. مكنت سياسات كلينتون الرابحين من أخذ كل شيء، وجعلت شركات أمريكا الرقمية تهيمن على قارات بأكملها، مثل غوغل في البحث وفيسبوك في الشبكات الاجتماعية وأمازون في البيع بالتجزئة.
مكنتهم تلك السياسات من ربح مزيد من المال، والاستثمار في بنية تحتية أكثر احتكارية مثل مراكز البيانات، وجمع مزيد من بيانات العملاء، وصقل خوارزمياتهم، وشراء منافسين أو استنساخ تقنياتهم، ما منحهم مساحة أكبر وميزة تنافسية لم تعطِ أحدًا فرصة لمواكبتهم.
شركات التكنولوجيا: سعيٌ للربح، وتزييفٌ للوعي، ومسخٌ للوظائف
بعد أن فتح المُشرِّع الأمريكي المجال لبروز شركات التكنولوجيا ساعد النظام الاقتصادي العالمي، القائم على زيادة الأرباح والتنافس الشرس في الأسواق وتحويل قيمة العمل إلى مجرد أسهم، على تعزيز الجانب الربحي لتلك الشركات، والذي جاء، بحسب «دوغلاس روشكوف» المعلق الإعلامي البارز، على حساب تزييف الوعي ونهب الاقتصادات المحلية.
يشرح روشكوف الخلفية الاقتصادية التي تعمل فيها شركات التكنولوجيا، فيؤكد أن الشركات النامية تستهدف أخذ الأموال خارج النظام، وهناك افتراض عالمي مفاده أنه يتعين علينا تحويل «عُملة العمل» إلى سعر السهم.
يصف ذلك بـ«مصيدة النمو»، وهو افتراض أن الصحة، التي هي قطاع ذو طبيعة خدمية، والتجارة التي يدفعها التنافس والربح، ينموان بذات الطريقة، وذلك راجع إلى أن النظام النقدي قائم على الدَّين، فيتعين عليك تسديد مبالغ للبنوك المركزية أكثر مما اقترضت، وهذا يتطلب النمو. إذا كانت لديك عُملة تتطلب النمو، فيجب أن تأخذ كل الاستثمارات وتجعلها منحازة نحو النمو أكثر من أي شيء آخر، ويمكن أن يكون على حساب كل شيء آخر، وهذا ما حدث مع شركات التكنولوجيا.
ينفي روشكوف علاقة شركة «أوبر» بمساعدة الناس على ركوب السيارات: «أوبر خطة استثمارية، منصة احتكار. ليست هي فقط، فالطائرات التي تعمل دون طيار، والخدمات اللوجستية، كل ذلك يُنهي أرباح الناس الذين يقودون سيارات أجرة، لصالح شركات مملوكة لأشخاص بُدناء، تمتص أموالًا من اقتصادنا وتُخزنها في شحوم سعر السهم».
يسخر الرجل من مزاعم رواد الأعمال التكنولوجية، من أنهم يشجعون الناس على مبادلة ممتلكاتهم. نعم، أريد أن أشتري منك وتبيع لي، لكن دون مشاركة شركة كبيرة. المشكلة الحقيقية أنهم يأخذون كثيرًا من رأس المال الاستثماري، ويصل الأمر بالمستثمرين الصغار حتى يربحوا إلى أن يضطروا لعقد صفقات كبيرة، ولا بد أن تسمح تلك الشركات الكبيرة بذلك حتى يتحول بيعك وشراؤك إلى «حدث قابل للبيع»، ولا بد من أن يحصل المستثمرون الأصليون على عائدات استثماراتهم الأولى مئة مرة، وأي شيء أقل من ذلك يعتبر خسارة.
أنت، يا من تقرأ الآن، لن تكونَ سوى مُبرمِجًا أو مُبرمَجًا. إن لم تكن تعرف ماذا يعني «سوفت وير»، فهذا يعني أن البرنامج يستخدمك.
يحذرنا روشكوف من «المجانية»: «بشكل مهني، علينا أن نبتعد عن السوشيال ميديا تمامًا، فالمجانية لا تؤدي إلى حرية أكثر، بل إلى عمل دون مقابل. ماذا عليَّ أن أفعل؟ أنضم إلى يوتيوب وأحصل على ثلاثة سنتات لكل مئة ألف مشاهدة؟ إنه هراء وجنون».
ويشرح سلبيات نشر أفكاره على وسائل التواصل الاجتماعي قائلًا: «أفكر في كل مرة أنشر فيها مقالًا يلخص ما يدور حوله كتابي، فأنا أضر بالمبيعات، وينتهي بي المطاف إلى تسليم أفكاري بطريقة مُجتزَأَة دون سياق، وينتهي الأمر إلى التواصل مع الناس بدرجة أقل، فشركات التكنولوجيا تُسهِّل تلك الأفكار على تطبيقاتها بطريقة شريرة».
ما يحبطه أكثر تعامل الناس حيال المشكلة وإيجاد حلول لها، فكم هو سهل تطوير عملات محلية، واستخدام مواقع بديلة، وتنمية استثمارات بسيطة في مجتمعاتهم المحلية. الصعوبة في حل المشكلات الاقتصادية تعود إلى أن العالم الحقيقي تقزَّم مقارنةً بهذه المحاكاة الرقمية التي تبدو أكثر أهميةً من واقعنا، لكنها ليست كذلك، بل يجب أن تكون في خدمة واقعنا.
بحسب فلسفة روشكوف، أنت، يا من تقرأ الآن، لن تكونَ سوى مُبرمِجًا أو مُبرمَجًا. إن لم تكن تعرف ماذا يعني «سوفت وير»، فهذا يعني أن البرنامج يستخدمك.
هذا أيضًا ما ينصحنا به «جاستن روزنشتاين»، مخترع زر الإعجاب على فيسبوك، فقد قيَّد استخدامه لموقع «ريديت»، وحظر نفسه من «سنابشات»، وقارنه بالهيروين، وفرض قيودًا على استخدام فيسبوك، واتخذ خطوات أكثر راديكاليةً لتقييد استخدامه لوسائل التواصل الاجتماعي.
يُعرِّف الخبراء طريقة تدوير التجارة والمشروعات على وسائل التواصل الاجتماعي بـ«اقتصاد الانتباه»، وتعني تلك الأرباح القائمة على جذب انتباهك طول الوقت. يقول روزنشتاين إن التكنولوجيا تُسهم في ما يسمى بـ«الاهتمام الجزئي المستمر»، الذي يحد بشدة من قدرنا على التركيز، ويخفض معدلات الذكاء، وفي النهاية يكون الجميع مشتتين طوال الوقت.
ينعكس ذلك اجتماعيًّا في «التفاعل المعلوماتي» عبر واقع الإنسفوفير، بزيادة الاستقطاب والقدرة الأكثر لشركات التكنولوجيا على التحكم.
هذا ما لاحظه الباحث الحقوفي «كارن روس» في كتاب «الثورة بلا قيادات»، فالجماعات التي تَحشد لمناقشة موضوع معين غالبًا ما تغدو أكثر استقطابًا من ما كانت عليه في البداية.
يشرح كارن في كتابه سلوكيات «الكيانات المعلوماتية» المختبئة خلف الشاشات في أثناء تفاعلها في شؤون اجتماعية وسياسية، ويرى أنه عندما لا توجد مجازفة، ولا يكون أحد صاحب مسؤولية، من المتوقع أن يكون الخلاف المحموم هو النتيجة.
عدائية الحوار السياسي على الإنترنت ملحوظة أيضًا، بحسب الكتاب، فكلما تباعد الناس باتوا أكثر قدرةً على الانغلاق والتحصن من عواقب آرائهم، وغدا احتمال تحولهم إلى العنف والشراسة وانعدام المسؤولية أكبر.
يحذر «إيلي باريزر» من آليات الفلترة على غوغل وفيسبوك التي تنشئ «فقاعة»، فتلك الحسابات تُشَخصِن تجربتنا الشبكية، وتتعمد جعل جزء من الشبكة غير قابل للرؤية، وهكذا فعلت شبكة الإنترنت في الصين.
الحل البسيط في رأي كارن، والبعيد عن امتلاك أجهزة ذكية، هو الالتقاء بالناس، وهو اسم أطلقه على «الديمقراطية التداولية».
لا بديل عن التنظيمات التقليدية لتغيير الواقع
لا بديل عن الالتقاء بالناس في الواقع غير المعلوماتي، لا بديل عن التنظيمات ذات الشكل الهرمي القديمة، بسلطة مركزية ومسؤولية ومهمات موزعة، وهذا الشكل «الشبكي» الفضفاض الذي يعتمد على أشخاص لم يروا بعضهم بعضًا غير مجدٍ في تغيير النظم السياسية.
هذا ما يراه المحرر الصحفي «مالكولم جلادويل» في مقاله المطول على موقع «النيويوركر»، فوسائل التواصل الاجتماعي تخلق شبكات اجتماعية مرنة وقابلة للتكيف بشكل كبير في المواقف منخفضة المخاطر فقط.
فمثلًا، شركات السيارات تعمل بشكل شبكي لتنظيم مئات الموردين، لكنها في اختيار تصميمات السيارات تفضل «نظامًا طبقيًّا»، فالتنظيم الشبكي مترامي الأطراف لا يضمن خطوطًا واضحة للسلطة والمسؤوليات. وتواجه الشركات صعوبة في الوصول إلى توافق الآراء وتحديد الأهداف، ولا يستطيع الأفراد في التنظيمات الشبكية التفكير بشكل استراتيجي، وهم عرضة طوال الوقت للنزاع والخطأ. كيف تنفذ اختيارات صعبة حول التكتيكات أو الاستراتيجية أو التوجه الفلسفي عندما يكون لكل شخص نفس الصلاحيات؟
يضرب المقال مثلًا بمنظمة التحرير الفلسطينية التي نشأت بشكل شبكي، وقد جادل أستاذا العلاقات الدولية «ميتي إيلستروب سانجيوفاني» و«كالفيرت جونز» في مقال لهما بأن المنظمة واجهت مشكلات في نموها بسبب «السمات الهيكلية النموذجية للشبكات»، من عدم وجود سلطة مركزية، واستقلالية الجماعات المتنافسة، وعدم القدرة على التحكيم في الخلافات عبر الآليات الرسمية. والنتيجة أن منظمة التحرير الفلسطينية صارت عُرضة بشكل مفرط للتلاعب الخارجي والاضطرابات الداخلية.
ألمانيا مثال آخر، ففي السبعينيات كان الإرهابيون اليساريون متوحدين وأكثر نجاحًا بسبب ميلهم إلى التنظيم على شكل التسلسل الهرمي، ووجود إدارة مهنية تقتضي تقسيمًا واضحًا للعمل. تمركزوا في الجامعات، وتمكنوا من تأسيس قيادة مركزية وثيقة وصداقة حميمية عبر لقاءات منتظمة وجهًا لوجه، ولم يخونوا زملاءهم عندما استجوبتهم الشرطة. أما نظراؤهم اليمينيون فكانوا شبكات غير مركزية، ولم يكونوا منضبطين، وتسللت إليهم جماعات اليسار بانتظام، وبمجرد القبض عليهم كانوا يتخلون بسهولة عن رفاقهم.
ويُطبَّق هذا المثال على تنظيم القاعدة، الذي كان أكثر خطورةً حين امتلك تراتبية موحدة، وبعدما تبدد في شبكة ثبت أنه أقل فاعليةً بكثير.
لا تُدرَك عيوب تلك الشبكات إذا أرادت أن تخيف أو تهين، أو تصطدم، ولم تكن بحاجة إلى التفكير الاستراتيجي أو التغيير النظامي.
المقاطعات والاعتصامات والمواجهات اللاعنفية أسلحة حركة الحقوق المدنية الأمريكية، لكنها استراتيجيات عالية المخاطر، ولا مجال هنا للصراع والخطأ. لو خرج متظاهر واحد فقط عن النص واستجاب للاستفزار، فإن الشرعية الأخلاقية للاحتجاج تتعرض للخطر.
يَخلُص المقال إلى أن شبكات التواصل الاجتماعي شكل من أشكال التنظيم يُفضِّل الروابط الضعيفة التي تتيح لنا الوصول إلى معلومات، مقارنةً بالروابط القوية التي تساعدنا على المثابرة في مواجهة الخطر. السوشيال ميديا تحول طاقاتنا من المنظمات التي تروج للنشاط الاستراتيجي والانضباط إلى تلك التي تعزز المرونة والقدرة على التكيف. سيكون أسهل على الناشطين التعبير عن أنفسهم، لكن سيصعب على هذا التعبير أن يكون له أي تأثير. ولهذا، فشبكات التواصل أدوات مناسبة تمامًا لجعل النظام الاجتماعي الحالي أكثر كفاءة، وليست عدوة للوضع الراهن.