في يونيو 1953، فازت «سيلفيا بلاث»، ذات العشرين عامًا وقتها، بمسابقة مجلة «مادموازيل» السنوية، وعُرِضَ عليها أن تكون محررة ضيفة، بجوار دراستها في جامعة نيويورك، وأن تتولى مهمة تحرير طبعة خاصة من المجلة.
كان هذا الصيف مخيبًا لآمال بلاث. فقد واجهت التوقعات التي غالبًا ما ترتبط بالتميُّز المهني في عالم النشر بنيويورك. ولكنها أيضًا تعاملت، لأول مرة، مع الأفكار المعقدة لأمريكا في خمسينيات القرن العشرين.
استطاعت بلاث، حينما كانت في نيويورك، أن تكبح ميلها الشديد لإظهار عواطفها بشكلٍ مستمر، وسط مدينة لا تعترف كثيرًا بهذه الأمور. ولكن بعد شهرين من هذا التغير، في أغسطس 1953، حاولت بلاث المُتعبة الانتحار، لأول مرة، بتناول حبوب منومة.
كانت هذه الأحداث هي التي شكَّلت قوام روايتها الوحيدة المنشورة: «الناقوس الزجاجي». يستكشف هذا المقال الذي نُشر على موقع «The Atlantic»، هذه المرحلة الحرجة من حياة بلاث، والمعرض الأدبي الذي يؤرخ لها.
اقرأ أيضًا: تجربة شخصية: أستطيع أن أفهم «فيرجينيا وولف»
بعد مرور 55 سنة من نشر الرواية، ما زالت رواية «الناقوس الزجاجي» تُستعاد مرة تلو الأخرى. آخرها فيلم في طور الإعداد، من إخراج «كريستن دانست»، وبطولة «داكوتا فاننغ». وهناك كتاب جديد يضم عددًا من الخطابات التي تتناول السنين التي عكفت فيها بلاث على كتابة الرواية، سيجري نشره في وقت لاحق.
لكن الأمر المثير للاهتمام فعلًا، كان عرض المسودات المبدئية للناقوس الزجاجي في معرض اللوحات القومي بواشنطن في إطار عرض بعنوان «حياة فريدة: سيلفيا بلاث».
قدمت بلاث أطروحتها حول «الشبيه/ دوبلغانغر» أن تجد انعكاسك في شخصٍ آخر، أن تُفاجأ برؤية من يشبهك في هذا العالم، لدرجة مربكة.
يضم العرض، بجانب صور بلاث وأغلفة رواية الناقوس الزجاجي، مسودات قصائدها الشعرية والنثرية، وخطابات كتبتها لعائلتها ومحرريها، ومجموعة من الصور الذاتية. ويقدم المعرض نظرة قريبة لبلاث في ظل تعقيدها الغني والمتناقض أحيانًا، وكذلك صور طفولتها، وخطابًا من طبيبها النفسي، كاشفًا عن بعض الأسرار التي لطالما اهتم بها قراؤها.
قد يكون من السهل، في خضم كل هذا، أن نضيع في حدة حياتها القصيرة، وأن نتأمل تحليلات سيرتها الذاتية «الناقوس الزجاجي» دون أن نعير انتباهًا للخيوط الأدبية التي حاكت بها بلاث عملها.
لحسن الحظ، كان من ضمن المعروضات مسودات لأطروحة بلاث الجامعية التي ترسم مخططًا موضحًا لهذه التأثيرات في روايتها، وتساعد في إلقاء الضوء على توظيف بلاث التوترات الثقافية المحيطة بالعِرق والجنس لنقل شعور بطلة روايتها بتمزق روحها.
قدمت بلاث أطروحتها حول «الشبيه/ دوبلغانغر» حينما كانت في عامها الأخير بجامعة سميث، عام 1955. يعني الـ«دوبلغانغر» أن تجد انعكاسك في شخصٍ آخر، أن تُفاجأ برؤية من يشبهك في هذا العالم، لدرجة مربكة.
يحمل هذا المفهوم دلالات شريرة ومثيرة للقلق عادة، وغالبًا ما تصب في دائرة فقدان الهوية والذات. تقول «آليسا ويلكنسون»، في مقالٍ كتبته حول الـ«دوبلغانغر»، عام 2014، لجريدة «ذي أتلانتيك»، إن «الإلتقاء بشبيهك يعد منذ زمن طويل نذيرًا بالموت».
تميل الروايات التي تتناول مفهوم الدوبلغانغر غالبًا إلى إظهار الصراع المميت بين البطل وشبيهه. مثل ما هو الحال في رواية «ماري شيلي» والمخلوق الذي يصبح تهديدًا لـ«فيكتور فرانكشتاين»، وكذلك في رواية «روبرت لويس ستيفنسون» والتقلبات بين الدكتور «جيكل» والسيد «هايد» العنيف.
في رحلة أجرتها كاتبة المقال في جامعة سميث، بين سجلات بلاث، استطاعت قراءة أطروحة بلاث التي تصف فيها بلاث الدوبلغانغر باعتباره ناتجًا عن المشاعر الشريرة أو المكبوتة لسيده. وبينما ينمو هذا الثنائي، فإنه يصبح تهديدًا لبطل الرواية.
ركَّزت بلاث، في أطروحتها، على عملين معينين لـ«فيودور دوستويفسكي»: «الشبيه، والأخوة كارامازوف». تستكشف بلاث في أطروحتها تصوير دوستويفسكي للحالات الداخلية لشخصيات رواياته، من خلال الموقع الجغرافي والطبيعي لأماكن إقامتهم، وهي الاستراتيجية ذاتها التي استخدمتها بلاث في روايتها.
تقتبس بلاث دوستويفسكي عند كتابتها عن «جوليادكين»، بطل رواية «الشبيه»، معللة ذلك بأن الانقسام النفسي الذي حدث لجوليادكين كان مُتنبَّأ به في أول مشهد في الرواية، حينما يفيق من نومه وهو غير قادر على الفصل بين أحلامه المشتتة وحياته الحقيقية. وتشير خلفية المشهد إلى اضطراب الشخصية الداخلي: إن غرفة جوليادكين قذرة، ملطخة بالدخان، ومغطاة بالغبار. ترى بلاث أن الإعداد الخارجي لحياة جوليادكين يشير إلى تشوهه الداخلي.
تلقي أطروحة بلاث هذه بظلالها على الصفحة الأولى من روايتها «الناقوس الزجاجي»: مقدمة منقحة لمقدمة دوستويفسكي. تُحيي «إستر غرينوود»، بطلة الرواية، ذكرى نيويورك صباحًا في عقلها. ففي التاسعة صباحًا يبدأ الندى في التبخر مثل نهاية حلم جميل، ثم تذكر الشوارع الرمادية التي تُراقصها أشعة الشمس.
تقول إستر إن الغبار الجاف الأشبه بالرماد، يخنق حواسها. وعلى غرار دوستويفسكي، تسترجع بلاث استراتيجية الحلم، وتوظيف خلفية حياة البطلة كما لو كانت محض هلوسات. يشترك المشهد الافتتاحي للناقوس الزجاجي لبلاث مع الشبيه لدوستويفسكي، في التشكيك في صدقه وحقيقته، ما يعكس الحالة المشتركة بين شخصية البطل، وما يحيط به من موجودات ومناظر. تتنبأ تفاصيل المؤلفين بسبب هذا بالانهيار النفسي الحادث لأبطالهم.
انتقلت بلاث بعد ذلك في أطروحتها إلى «الأخوة كارامازوف». تعلِّق بلاث أنه من النظرة الأولى لمظهرهم الجسدي، فإنه لا يوجد تشابه مميز بين «إيفان»، بطل الرواية، وشبيهه «سمردياكوف». لاحظت بلاث أنه بينما تنجذب النساء إلى إيفان، فإن سمردياكوف، كما يصفه دوستويفسكي، أصفر اللون، ويشبه النساء بشكل غريب.
على نفس النمط، تصف بلاث «إستر»، بطلة الناقوس الزجاجي، بأنها «مزدوجة الهوية الجنسية» (Gender-Fluid)، وذات بشرة صفراء اللون. وبينما يقول جوليادكين: «كان من المفترض أن أكون الآن مستمتعًا بحياتي»، تقول إستر: «كان من المفترض أن أكون مصدر غبطة كل فتيات الجامعات في أمريكا». ثم تأتي الفقرة التي تقترح أن سعادة إستر إنما هي قشرة خارجية للحماية، فقط مثل كسوة زخرفية.
رؤية بلاث هذه (للرجال الذين تصفهم كما لو كانوا مجرد أعداد إضافية في فيلم ما، ولزيِّ إستر ثلجي اللون) ترسم القناع السطحي المزيف للتكلف الأمريكي، قناعًا يضخِّم شعور الرواية العام بالدمار الوشيك. من الواضح أن إستر لا تشعر بالسعادة، ما يدل على أن واجهة شخصية إستر التي تُظهرها هي تمامًا مثل صِدارها، متداعية. وتَعِد «الناقوس الزجاجي» بأن تكشف ما وراء هذه الواجهة.
استخدام بلاث للصور النمطية حول المغايرين جنسيًّا والعرق لبناء شبيه لإستر أمر مُقلق، وتتفشَّى العنصرية بشكل علني في الناقوس الزجاجي.
بعد عدة فقرات من هذه الأطروحة، تسترجع بلاث حكمها على سمردياكوف وتُعيره إلى إستر. يبدو أن إستر، بسبب مظهرها المتغير، وشكلها غير المطابق لجنسها، ترى نفسها واحدة من شخصيات «الشبيه» لدوستويفسكي.
فعلى النقيض من التل الذي يشبه السحابة، وصدارها الأنثوي في المشهد السابق، فإن إستر ترتدي الآن «فستانًا أسود ضيقًا من الشانتون»، مُصمَّم بشكل غريب يجعلها لا تستطيع إرتداء حمالة صدر تحته. ولكن هذا لا يهُم لأنها نحيلة كالصبي. ثم تلمِّح بلاث إلى الجذور الصينية لقماش الشانتون المصنوع منه فستان إستر. فتتذكر إستر: «لقد أذهبت المدينة سُمرتي، وأصبحت أبدو صفراء اللون كما لو كنت رجلًا صينيًّا».
إن استخدام بلاث للصور النمطية حول المغايرين جنسيًّا والعرق لبناء شبيه لإستر أمر مُقلق، وتتفشَّى العنصرية بشكل علني في الناقوس الزجاجي.
فالوصف الصبياني واللون الأصفر الباهت لشبيه إستر يعمل على إبراز أنوثة إستر وبشرتها البيضاء. وقبل هذا، في كتابي «ستيفنسون» و«شيللي»، شدد الاثنان على بشرة أبطالهما البيضاء من خلال استخدام شبيه لا يمتلك بشرة بيضاء.
فالسيد «هايد»، في كتاب ستيفنسون، ذو بشرة داكنة وشعر داكن. في حين أن مخلوق شيللي، والذي لا اسم له، يمتلك بشرة صفراء وشعرًا أسود وشفتين سوداوين. وبنفس الطريقة تستخدم بلاث الشبيه لإبراز عِرق إستر بوضوح شديد. بالطبع، من يستخدمون الدوبلغانغر من المؤلفين يجعلون له صفات غير مرغوب فيها ثقافيًّا، أو تُهدد الوضع الراهن.
للسبب نفسه، فإن الرسوم التوضيحية للشبيه، مثل وصف بشرة إستر وجسدها، توضح لنا ما تراه بلاث صفاتٍ غير مقبولة، ومن الضروري إخفاؤها عن أمريكا في منتصف القرن العشرين. وشعور إستر بأنها تمتلك هذه الصفات يعد اعترافًا مهمًّا، ويشير إلى اتصال بينها وبين شبيهها الذي يجب أن لا يصبح أكبر من ذلك.
تعد الأقنعة التي يتم ارتدائها للمشاركة في الصورة الخادعة العامة في أمريكا، وإدانة من تسقط أقنعتهم، سببًا مهمًّا في انتشار الكتاب.
في نفس الليلة تصبح إستر لعوبًا، فتشرب وتغازل وتكذب، وعودتها للمنزل مليئة بتلميحات عن الجحيم: الهاتف «يقبع، كما لو كان رأس الموت»، وحين رأت دخانًا في غرفتها فكرت في أنه «تجسيد لنوع من العقاب». السلوك الشيطاني الذي منحته بلاث لشبيه إستر (شبيهها ذي اللون الأصفر، والجسد الصبياني) يوضح بشكل كافٍ سلوك الناقوس الزجاجي وأمريكا في منتصف القرن العشرين بشكل عام، تجاه الجنس والعرق.
مع استمرار الرواية، تتضح الصورة المثالية المرغوبة للمرأة، والمرتبطة بثقافة الخمسينيات. إن قدرة إستر على الابتسام دومًا تتداعى، وكذا إخفاؤها لغضبها وارتباكها ورغبتها.
تعد هذه القضايا بالتحديد (الأقنعة التي نرتديها لنشارك في الصورة الخادعة العامة في أمريكا، وشعور مرتدي هذه الأقنعة بخيانة ذواتهم، والإدانة التي تطارد من تسقط أقنعتهم) سببًا مهمًّا في انتشار الكتاب، وجذبه اهتمام النقاد والعامة.
وبالرغم من أن معرض «حياة فريدة: سيلفيا بلاث» قد ساعد في إبراز ذلك، فإن هيام بلاث بفكرة الشبيه تظهر في روايتها. واستمدت روايتها هذه السمة من تقاليد فنية اعتمدت تاريخيًّا على استخدام لغة مشحونة ضد الجنس والعرق.
لكن بلاث استطاعت التحليق بعيدًا عن أسطورة الدوبلغانغر بطريقة واحدة تقريبًا ذات معنى: رفضت أن تعطي الشبيه في روايتها اسمًا مختلفًا، أو جسمًا مختلفًا. إنه قرار لا يُقبَل فقط، بل يحتفي كذلك بعمق إستر ومشاعرها الحزينة والمقلقة.
في نهاية الرواية تدرك إستر أن تلك المشاعر، الحزين منها والسعيد، ستظل دومًا بداخلها: «لقد كانوا جزءًا مني»، تشرح إستر، «لقد كانوا ما يكوِّن مشهدي الخاص».