إذا كنت تفكر في اﻻنتحار، توجَّه إلى شخص مُقرَّب واطلب منه المساعدة، أو يمكنك زيارة هذا الموقع.
الانتحار هو سبب الوفاة الأول للفئة العمرية من 15 إلى 39 سنة في اليابان.
أن يقدِم الكثيرون على الإلقاء بأنفسهم أمام القطارات بصورة يومية أمر طبيعي جدًا في اليابان، بينما ينتحر بعض الناس بطرق أكثر تقليدية؛ مثل الشنق أو القفز من علوٍّ شاهق أو القيادة بسرعة عالية. أما أكثر الطرق غرابة على الإطلاق فهي الانتحار الجماعي عن طريق النوادي الإلكترونية، حيث يلتقي اثنان أو مجموعة من الغرباء في غرف المحادثة لترتيب مواعيد الانتحار، ثم يتم الاتفاق على المكان وطريقة الانتحار ليقضوا ساعاتهم الأخيرة معًا. فما الذي يجعل اليابانيين يقدمون على الانتحار بهذه الأعداد الكبيرة، في دولة تلعب دورًا محوريًا في الاقتصاد العالمي، وتمتلك إرثًا تاريخيًا قائمًا على مواجهة المِحَن بروح الفريق الواحد؟
قد يعجبك أيضًا: سبع حوادث اختار فيها البشر الانتحار جماعيًّا
قرار جماعي بإنهاء الحياة
يتكرر السيناريو نفسه مع اختلاف طريقة ومكان الموت في كل مرة؛ يلتقي الضحايا الذين تعارفوا حديثًا بأسماء مجهولة في مكان مغلق (غالبًا يكون سيارة مقفلة النوافذ والأبواب)، يبتلعون حبوبًا منومة، يستخدمون الفحم الحجري المحروق لاستنشاق غاز أول أكسيد الكربون المنبعث منه، ويتشبع الجسم بالغاز السام الذي يمنع وصول الأكسجين لأعضاء الجسم الحيوية، فتحدث الوفاة سريعًا.
يلقى الانتحار الجماعي رواجًا أكبر؛ لأن الجمع يشجع على القيام بالأمر بكل سهولة.
وعن سبب انتشار هذه الظاهرة بين اليابانيين تقول «يوكيو سايتو»، إحدى المسؤولات عن خط الانتحار الساخن: «الموت وحيدًا أمر تعيس للغاية ويتطلب شجاعة قصوى من المنتحر، بينما يلقى الانتحار الجماعي رواجًا أكبر؛ لأن الجمع يشجع على القيام بالأمر بكل سهولة».
وتشهد اليابان أحد أعلى معدلات الانتحار بين دول العالم المتحضر حسب منظمة الصحة العالمية، ففي عام 2014، انتحر أكثر من 25,000 مواطن، أي بمعدل 70 شخصًا في اليوم الواحد. إلى جانب ذلك، فإن الانتحار هو سبب الوفاة الأول للفئة العمرية من 15 إلى 39 سنة في اليابان، الأمر الذي شكَّل تحديًا كبيرًا للحكومة اليابانية في مواجهة أعلى أرقام مسجلة لها منذ العام 1972، وتسعى الآن جاهدة لوضع المخططات المستقبلية للتقليل من معدﻻت الانتحار بنسبة 20% بحلول العام 2025.
كيف تقتل نفسك للمبتدئين
على عكس الثقافتين الغربية والعربية اللتين تنهيان عن الانتحار وتريان فيه فعلًا منافيًا للأخلاق والدين، فإن الثقافة الشعبية اليابانية تحث على الانتحار بطريقة بالغة الغرابة.
لا يوجد أمر سيء بشأن الانتحار. نحن في اليابان لا نملك دينًا ولا قوانين تنهى عن الإتيان بفعل الانتحار.
في عام 1993، نشر أحد خريجي جامعة طوكيو ويدعى «واتارو تسورومي»، كتابًا لاقى قبولًا واسعًا بين المراهقين، أسماه «دليل الانتحار المثالي». يسرد «تسورومي» في هذا الكتاب 10 طرائق مختلفة لإنهاء الحياة بسهولة وأقل قدر من الألم؛ منها الانتحار بواسطة الشنق، والكهرباء، وجرعة مخدر زائدة، والاختناق، وحرق النفس، كما يحتوي الدليل على إرشادات حول الأماكن المثلى للانتحار، وتجارب مختلفة لأشهر المنتحرين في العالم، بالإضافة إلى صفحات تحوي رسومًا كرتونية، كي توحي بسهولة الانتحار وخلوه من الألم.
ويقول «تسورومي» حول كتابه المثير للجدل: «لا يوجد أمر سيء بشأن الانتحار. نحن في اليابان لا نملك دينًا ولا قوانين تنهى عن الإتيان بفعل الانتحار. أما بخصوص الانتحار الجماعي، فقبل الإنترنت كان الناس يكتبون رسائل أو يجرون اتصالات ليجدوا أشخاصًا يساندون قرارهم، أما الآن فقد سهلت التكنولوجيا طرق التواصل، وبات من السهل إيجاد شركاء للانتحار».
الانتحار بشرف
يذهب الانتحار إلى نواحٍ أعمق من مجرد كونه رواجًا شعبيًا بين مراهقي اليابان؛ فهو جزء من الموروث التاريخي الياباني. ولقرون عدة، ظل طقس الانتحار بواسطة الخنجر، ويعرف باسم الـ«هاراكيري»، شرفًا كبيرًا بين محاربي الساموراي القدامى؛ إذ يلجأ المحارب لها كحل أخير عندما يكون مهددًا بالوقوع في يد العدو. وبين مواجهة احتمالات خطيرة مثل الأسر والعقاب أو الموت بشرف، فإن المقاتل حتمًا كان سيختار قتل نفسه بشهامة المحارب القديم كي يحفظ كرامته.
اقرأ أيضًا: رواه بوذا: كيف تجتمع المبالاة مع اللامبالاة عند «زن»؟
في اليابان ينبغي أن تنضم إلى صفوف الناس. إذا لم تتكمن من فعل ذلك، عندها إما يتم تجاهلك أو التنمر عليك.
وأعاد اليابانيون استخدام مبدأ الانتحار بشرف مرة أخرى أثناء الحرب العالمية الثانية، حين أمر إمبراطور اليابان بتشكيل قوات خاصة للانتحار في سبيل مواجهة قوات العدو المتحالفة، فتم تدريب طياري الكاميكازي على القيام بالتفجير الانتحاري ليهاجموا أكبر عدد ممكن من الأساطيل البحرية، وبالفعل تمكنوا من قتل خمسة آﻻف جندي بحارة أمريكي، بعد أن ضحى أكثر من ألفين ونصف طيار ياباني بحياتهم.
عليك أن تسير مع التيار
«في اليابان ينبغي أن تنضم إلى صفوف الناس. إذا لم تتمكن من فعل ذلك، عندها إما يتم تجاهلك أو التنمر عليك، فهم يسعون باستمرار لتحطيم تميُّز الشخص، ولكن التفرد في مجتمع موحد ليس بالأمر السيء كي تتم محاربته على هذا النحو».
يُعتبر التميُّز في المجتمع الياباني أمرًا مذمومًا.
هذا ما قالته إحدى أولياء الأمور التي قررت أن تكمل ابنتها تعليمها الدراسي من المنزل. فـالطفل المنعزل وغريب الطباع منبوذ من قبل أقرانه في المدارس اليابانية، ما دفع بالعديد من الأطفال والمراهقين إلى الانتحار في الأسابيع الأخيرة من أغسطس والأولى من سبتمبر، وهي الأشهر المخصصة للعودة إلى المدارس في اليابان.
قد يهمك أيضًا: السلطة والفصول الدراسية: العلم والتعليم كأداتي سيطرة على الإنسان
إن التفكير الجماعي مهارة أساسية في النسيج المجتمعي الياباني، حتى إن مفهوم التضحية الفردية في سبيل المصلحة الجماعية أمر حاضر في كل نواحي الحياة، لذا يُعتبر التميُّز في المجتمع الياباني أمرًا مذمومًا، ويسعى المحيط لإرضاخ أولئك المتميزين تحت ضغط نفسي شديد للانضمام إلى كيان الفكر الواحد.
ستة أشهر في الغرفة
إن أعداد اليابانيين الذين يعانون بشكل جدي من الوحدة القاتلة والاكتئاب وفقدان الثقة بالنفس في تزايد؛ بسبب الكبت النفسي وضغوط العمل الشديدة، جراء متطلبات نظام العمل الياباني التعسفية تجاه الباحثين عن وظيفة، كما أن نظام العلاج النفسي في اليابان يعاني من تخلف مقارنة بالدول المتطورة الأخرى؛ فمن الصعب إيجاد أطباء نفسيين أكفاء متمرسين، بالإضافة إلى أن اليابانيين يخجلون من العلاج في مستشفيات الطب النفسي، ولا يأخذون إرشادات المعالج النفسي على محمل الجد.
وصل الأمر في بعض الحالات القصوى من الاكتئاب إلى أن يقوم بعض اليابانيين بحبس أنفسهم في بيوتهم لفترات طويلة، قد تدوم لستة أشهر أو حتى عدة سنوات ورفض الخروج من المنزل أو الالتقاء بشكل مباشر مع أشخاص آخرين، تعرف هذه الظاهرة بالـ«هيكوموري».
يتزايد الـ«هيكوموري» باستمرار في اليابان، فقد وصلت التقديرات حسب إحصائيات مكتب مجلس الوزراء الياباني إلى سبعة آﻻف شخص في 2010، ولكن بما إن الأشخاص الذين يعانون الـ«هيكوموري» يختبئون في غرفهم ولم يشاركوا في أي إحصائية، فإن الأرقام وصلت على الأغلب للمليون تقريبًا.
من المثير للاهتمام أن شعبًا صريحًا ومباشرًا مثل اليابان يعاني بصمت في مواجهة العلل النفسية وقلة المشاركة الاجتماعية بين أفراده، لذا يقترح الطبيب النفسي «واتارو نيشيدا» التحدث بشكل صريح ومباشر عن المشاكل النفسية وتقبل علاجها، بدلًا من التعامل معها بسرية و اللجوء للانتحار، كما ينصح باستخدام وسائل الإعلام للتوعية بشأن الموضوع، حتى تختفي وصمة العار التي ربطها المجتمع بالمرض النفسي مطولًا.
هذا الموضوع جزء من ملف منشور عن الانتحار، لقراءة موضوعات أخرى في الملف، اضغط هنا.