تحت بقعة الضوء يبدو كل شيء لامعًا، تبدو الصورة مثالية زاهية الألوان، الضوء يكشف التفاصيل، ولذلك، قبل أن تسلط الضوء على الصورة يجب الاهتمام بكمال التفاصيل كلها. عشب يُزرَع بمواصفات خاصة، يحمل فوقه 22 رجلًا، قيمتهم التسويقية تعادل ميزانيات دولة بكاملها، يلبسون قمصانًا صُنِعَت خصيصًا لتتيح لهم الراحة القصوى في الحركة، يركلون كرة تتطور بصورة شبه سنوية بأبحاث رياضية وفيزيائية متقدمة. ولم لا، ومباراة كرة قدم واحدة يحصل من ورائها الرعاة على أكثر من 40 مليون دولار.
صارت كرة القدم صناعة خالصة، مربحة بجميع المقاييس، تدر الملايين على جميع عناصر اللعبة، ولكن ما دام هناك ضوء، فهناك ظل، ظل يقبع فيه ملايين البشر الذين خطف الضوء أعينهم، وتَمَلَّك شغف الكرة منهم، إلا أنهم لم يستطيعوا عبور النفق المظلم نحو ضوء جنة كرة القدم التي تدر الملايين.
اللاعب هو العنصر الأساسي في صناعة كرة القدم، ولأنها اللعبة الشعبية الأولى في العالم، فمع تحولها إلى صناعة أصبحت بمثابة طوق النجاة للفقراء، الذين يمارسونها يوميًّا في الشوارع وداخل كلٍّ منهم أمل أن يصبح لاعب كرة قدم محترفًا ليسلك الطريق الأسهل نحو الملايين.
لكن في طريق إدراك الفرد حجم موهبته قد يجد نفسه واقعًا في الفخ المعتاد: ماذا لو كانت موهبته لا تؤهله كي يقف تحت بقعة الضوء من الأساس؟ هنا تصبح النتيجة حتمية، يصبح لاعبًا محترفًا «في الظل».
من كوباكابانا إلى جزر الفارو: احتراف من نوع خاص
في البرازيل، كرة القدم طريق مُجرَّب كي يتسلق المرء السلم الاجتماعي من الهاوية إلى القمة، إلا أن الفخ المعتاد قد ينتج عنه في «بلاد كرة القدم» نتائج في غاية الغرابة، فالكاتب الإنجليزي والصحفي في جريدة الغارديان «أليكس بيلوس» يسلط الضوء في كتابه «كرة القدم، الحياة علي الطريقة البرازيلية» على أحد اللاعبين البرازيليين المحترفين خارج بلدهم لمجرد كونه «برازيليًّا»: «مارسيلو ماركولينو».
بدأ ماركولينو ممارسة الكرة في شوارع حي كوباكابانا في العاصمة، متمنيًا لنفسه أن يصبح لاعبًا في فريق «فلامينغو» الكبير، لكن انتهى به الحال لاعبًا في فريق «بي 68 توفتير» في جزر الفارو، حيث يتدرب اللاعبون ساعتين فقط مساءً، لأنهم في الصباح يَجرُّون شِباك الصيد المحملة بالأسماك من السفن والقوارب إلى السوق، فرئيس النادي هو المسؤول عن تفريغ حمولة السفن.
يمكن اختزال تلك القصة الغريبة في تصريحات مارسيلو لمؤلف الكتاب: «هذا البيت سجنٌ بالنسبة إليَّ، أنا أنتمي إلى ثقافة مختلفة، أتوق إلى حياتي الصاخبة في البرازيل حيث الأصدقاء والشواطئ والشمس والشراب. الناس هنا لا يعيشون، فلا حياة خارج المنزل (...) لا أشتكي، فأنا هنا ألعب بوصفي محترفًا، وأجني نقودًا لا يمكن بأي حال أن أجنيها في البرازيل».
اقرأ أيضًا: هوس التشجيع: ما هربنا منه نحو كرة القدم، وجدناه في كرة القدم
في انتظار المجد: كرة القدم وحدها لا تكفي
ربما يبدأ الأمر بمحاولة فاشلة للالتحاق بأحد أندية الدوريات الأولى، فقد يستطيع اللاعب أن يحقق مكسبًا ماديًّا يكفيه وعائلته.
في سبيل ذلك يضطر اللاعب إلى الانضمام لأحد أندية الدرجة الثانية أو الثالثة على أمل أن يصقل موهبته، أو بسبب قرب مكانه، أو حتى لاقتناعه الشخصي بضرورة التدرج نحو هدفه. الأمر ببساطة يتلخص في رؤية صناعة كرة القدم لعنصرها الأساسي كسلعة، وعلى تلك السلعة أن تعرض نفسها في أي سوق متاحة.
«كانت النتيجة تشير إلى التعادل عندما كانت الكرة بحوزة مهاجم فريقي في انفراد تام بالمرمى، وهنا قرر مدرب الفريق المنافس أن يركل كرة أخرى من خارج الخطوط في اتجاه المهاجم كي يفسد المباراة». بتلك الجملة يحاول أسامه الماهر، حارس مرمى فريق «سلام إسنا» في الدوري المصري الممتاز «ب»، توضيح كيف يبدو الوضع في الدرجات الأدنى.
ممارسة كرة القدم في ظروف مثل تلك عمل شاق وغير مربح، لذلك، فكثير من اللاعبين رغم موهبتهم يعملون في وظائف أخرى بجانب الكرة، فهناك سائقو «توك توك» وعمال بناء، بحسب الماهر، الذي يوضح لـ«منشور» أن الوضع يكون أفضل في الأندية التي تنافس سنويًّا على الصعود إلى الدرجة الأولى (الممتاز «أ»)، إذ يمكن أن يحصل اللاعب على قيمة عقده في هيئة دفعات، بينما يحصل لاعبو الفرق الأخرى علي مبالغ شهرية أقصاها 1500 جنيه (نحو 85 دولارًا).
بعد الاعتزال، الذي يكون قريبًا وبعد عمر كروي قصير غالبًا، ربما يكمل اللاعب حياته في نفس المجال إداريًّا أو مدربًا، أو يستغل الأموال التي ادَّخرها في مشروع صغير.
قد يعجبك أيضًا: كلاسيكو المتعة والصناعة: من يفوز بـ«كرة القدم»؟
في البحرين يختلف الوضع بعض الشيء، لأن الاهتمام بكرة القدم لا يتناسب مع كونها لعبة شعبية في البلاد.
وفقًا لعمرو زيدان، المصري الأصل والبحريني الجنسية الذي لعب كرة القدم في نادي البحرين، فالأموال والعقود المميزة تكون من نصيب المحترفين ولاعبي المنتخب فقط، أما باقي اللاعبين، فالمقابل المادي لا يكفي ولا يُعتَمَد عليه.
يوضح زيدان لـ«منشور» أن المقابل يكون هزيلًا للغاية في الدرجة الثانية، ما يضطر اللاعبين للعمل في وظائف أخرى واعتبار نشاط كرة القدم عملًا ثانويًّا: «تعاني مسابقة الدوري بدرجتيها من توقفات طويلة لصالح المنتخب، لكن المشكلة الأكبر في عدم الاهتمام الجماهيري، فمن الصعب لعب كرة القدم تحت أنظار مدرجات خاوية».
«جيمي فاردي»: الرجل الذي عبر النفق
إذا كان لاعبو الظل في العالم يأملون في ضربة حظ أو نصف فرصة، ففي إنجلترا يؤمن الجميع بأن الأمر سهل الحدوث، والسبب: «جيمي فاردي».
بينما يجني اللاعبون الأموال في دوريات الأضواء، يدفع لاعبو دوري الأحد في إنجلترا للشعور بلذة لعب كرة القدم.
في إنجلترا يبدو الوضع مختلفًا تمامًا، إذا كنت ممن تمَلَّك منهم شغف كرة القدم ولا تستطيع الاكتفاء بالمشاهدة، أهلًا بك في دوري يوم الأحد.
دوري الأحد مخصص للهواة، ويبرز فيه الشغف بكرة القدم رغم ما يبدو عليه من شكل هزلي. فقط يقرر أحدهم مع بعض أصدقائه تكوين فريق للمشاركة في دوري الأحد، لتبدأ مغامرة كاملة في الظل تمامًا.
يتألف الفريق من عدد كبير من اللاعبين لأنهم جميعًا لن يحضروا كل أيام الآحاد بالتأكيد، لذا عليك التواصل خلال الأسبوع مع لاعبي فريقك للتأكد من أن 11 فردًا سيحضرون. وإذا حضر الجميع بالصدفة، فهناك شجار محتمَل حدوثه بالطبع، فالجميع يريد اللعب.
وبينما يجني اللاعبون الأموال في دوريات الأضواء، يدفع لاعبو دوري الأحد عوضًا عن ذلك، فقط للشعور بلذة لعب كرة القدم.
تنقسم الأموال التي تُدفَع في دوري الأحد بين رسوم انتساب لأحد الدوريات، ورسوم تسجيل الفريق رسميًّا، ورسوم تُدفَع كتأمين في حالة الحوادث أو الإصابات، ورسوم لاستئجار ملعب، ورسوم مخصصة لحكم المباراة، ومبلغ يُدفَع احتياطيًّا في حالة توقيع بعض الغرامات على فريقك، وهناك أيضًا مجموعة من الإسعافات الأولية. أما إذا قررت المشاركة في أحد الكؤوس الرسمية، فهناك مبلغ إضافي طبعًا.
ما إن يأتي يوم الأحد حتى تبدأ المغامرة بمختلف تفاصيلها المثيرة، فقد لا يكتمل فريقك من الأساس، أو ينسى الحكم موعد المباراة، فيبدأ اللاعبون في البحث عن أحد يحل محله قبل موعد المباراة، وقد تُفاجَأ بأن ملعب المباراة ما هو إلا أرض خضراء دون أي علامات.
بدأ جيمي فاردي لعب الكرة في النادي المحلي «شيفيلد وينيزداي»، ثم انتقل إلى نادي «ستوكس بريدج بارك»، وظل لستة أشهر ينهي المباريات ويعود إلى البيت سريعًا طبقًا لنظام المراقبة الذي فُرِضَ عليه بعد إدانته في مشاجرة، ثم تفجرت موهبته في «فليتوود تاون» وأحرز 31 هدفًا، ليجذب أنظار نادي «ليستر سيتي» الذي كان يشارك في دوري الدرجة الثانية الإنجليزي حينئذ (Championship).
فاردي لم يعبر نفق الظل بسهولة، بل كان عليه أن يحفر نفقه الخاص لكي ينتزع بقعة الضوء ويسلطها عليه، والأجمل أنه استطاع أن يتعامل مع الضوء جيدًا، موضحًا للجميع أن لاعب كرة القدم في أحيان كثيرة قد تفصله فقط نصف فرصة لكي يتحول من لاعب لا يعرفه أحد إلى ظاهرة كروية يحترمها الجميع.
عمل جيمي في وظائف مختلفة خلال لعبه في دوري الهواة، وعانى كثيرًا للوصول بموهبته نحو الأضواء، الأمر الذي شجعه على إنشاء أكاديمية لعرض مواهب لاعبي كرة القدم تحت أنظار كشافي الدوري الإنجليزي، فربما يعثر على «فاردي جديد».
قد يهمك أيضًا: كيف استغل الساسة شغف جماهير كرة القدم؟
ربما يبدو الأمر صعب التصديق، فكرة القدم تعني لكثيرين مجالًا يضخ كميات ضخمة من الأموال، لكن لاعب الدرجة الثانية لا يقارن نفسه بلاعبي الأولى، بل يجد نفسه متفوقًا على كثير ممن لا يجدون عملًا في الأساس. وحتى إذا انتهت حياته الكروية في سن الثلاثين دون أن يحقق شيئًا، سينضم إلى غيره ممن تخطوا الثلاثين دون عمل، لكنه على الأقل لديه فرصه ربما تغير حياته رأسًا على عقب.
دائمًا ما ترتبط قصص كرة القدم بكثير من الإثارة والشغف، إلا أن بعض تلك القصص قد يكون حزينًا تمامًا، قصص لأناس تَمَلَّك منهم شغف كرة القدم، فسلكوا ذلك الطريق الساحر متمسكين بالأمل رغم صعوبته، لكنهم اكتشفوا في النهاية أنهم يسلكون طريقًا للنسيان.