شارك عالم الفيزياء «ريتشارد فاينمان»، صاحب محاضرات فاينمان الشهيرة في الفيزياء ونظرية الكهروديناميكا الكمية، في مشروع مانهاتن. ومَن يعرف شيئًا عن حياة فاينمان الشخصية، سيدرك حقيقة أنه أحب زوجته كثيرًا، ويظهر تأثره الشديد بحبه لزوجته في عدد من الخطابات المشهورة المنسوبة إليه.
تبدأ مأساة فاينمان بوفاة زوجته «آرلين» بمرض السل وهي في الخامسة والعشرين. وقبل تنفيذ أول اختبار للقنبلة الذرية، مر فاينمان حينها بفترة اكتئاب حاد، فصار لا يتحدث مع أحد غالبية الأوقات، حتى إنه توقف عن التدريس، صار منهمكًا طوال الوقت في أبحاثه الخاصة بمشروع القنبلة الذرية، والتحضير لأطروحة علمية في «فصل اليورانيوم 235 عن اليورانيوم 238»، بالتوازي مع مشروع مانهاتن.
في حوار صحفي أجراه قبل وفاته، يتساءل فاينمان، وبعد مُضي أكثر من 30 عامًا على انفجار قنبلة هيروشيما: لِم استمر في العمل في مانهاتن رغم تلاشي السبب الأساسي الذي بدأ المشروع على أساسه؟ السبب كان وجود ألمانيا النازية على الساحة في الحرب العالمية الثانية، ما شكل تهديدًا مباشرًا على الولايات المتحدة وقوات الحلفاء إذا نجحت في بناء القنبلة النووية، فبدأ مشروع مانهاتن على أساس الخوف من ألمانيا ومسابقتها في إعداد أول قنبلة ذرية في الحرب.
خسرت ألمانيا الحرب، لكن مشروع مانهاتن لم يتوقف. لم يتساءل فاينمان قط عن سبب استكماله العمل حتى بعد خسارة ألمانيا، ويبدو أن موت آرلين أثَّر في ميكانيزمات صناعة القرار عنده، فوجد نفسه يعمل دون أي داعٍ أو دافع حقيقي، ولم يشكك ولم يشعر بالريبة ولو للحظة، بل احتفل ولعب بالطبل وشرب ورقص في الوقت الذي كان آلاف الناس يتفحمون فيه خلال لحظات.
بعد مرور أكثر من 20 عامًا، يعلق فاينمان على ذلك بوصفه «سلوكًا غير منطقي. كان الناس في لوس آلاموس يشربون ويرقصون فرحين بنهاية الحرب، بينما يموت الناس في هيروشيما».
من عجائب النفس الإنسانية أن حالة فقدان شخص عزيز على فاينمان ربما يكون قد أدى إلى تغيرات في حالته النفسية والعاطفية، التي بدورها ربما أسهمت، ولو بنسبة ضئيلة، في موت آلاف البشر في بقعة جغرافية نائية. تلك هي خطورة العامل الذاتي والنفسي وعلاقتهما بصناعة القرار عند الإنسان عمومًا، وكذلك عند العلماء في مَعاملهم، بينما نظن أنهم يتبعون قواعد منهجية صارمة لا دخل فيها للأهواء الشخصية أو المشاعر.
فهل يمكن اعتبار العوامل الذاتية دخيلة على المعرفة العلمية؟
كيف تتدخل العوامل الذاتية والقيمية في العلوم؟
تتأثر سلوكيات أي إنسان بعوامل ذاتية كثيرة، وتختلف ردود الأفعال واستعدادات السلوك الأخلاقي تجاه المواقف المختلفة. فالأخلاق معرضة بشكل مباشر للعوامل النفسية والمشاعر، بل إن هذه العوامل تلعب دورًا أساسيًّا، ويمكنها تحوير السلوك الأخلاقي وتغييره بشكل مرن، ويحدث هذا في حالات التذوق الفني أو الجمالي أيضًا. ويمكن النظر إلى التذوق الفني وأخلاقيات الفرد وسلوكياته باعتبارها قِيمًا شخصية، أي من العوامل الذاتية كذلك.
لكن ماذا عن المعرفة؟ هل يتأثر العلماء بعوامل ذاتية تقلل حيادية العلم وموضوعيته؟
العلماء بشر في الأساس، بشر عاديون، لديهم حيواتهم الخاصة وعواطفهم ومشاعرهم، وكل هذه العوامل بالتأكيد قد يصل تأثيرها إلى مجالات عملهم، مهما بدى مغلقًا ومنهجيًّا. يزعم فلاسفة العلم المعاصرون، خصوصًا منذ «توماس كون»، أن هناك عوامل اجتماعية تؤثر في مسيرة العلم، منها مثلًا أي برامج أبحاث تتلقى تمويلًا، أو تُخصَّص لها مؤسسات بحثية وموارد، أو تتأثر بالثقافة الغالبة على المجتمع العلمي في زمن بعينه. لكن موضوعنا هنا يتجاوز العوامل الاجتماعية في عصر محدد إلى العوامل النفسية الخاصة بكل عالِم على حدة.
قد يظهر العامل الذاتي في الممارسة العلمية متجليًا في الإبداع العلمي، باعتبار الإبداع مَلكة شخصية تنحو عادةً نحو الخروج عن الأنساق التقليدية، وعدم التقيد بالمناهج المعروفة. يحشد تاريخ العلم بنماذج لهذا الإبداع، فلا شك أن تصور آينشتاين للكون كنسيج من الزمان والمكان، ورؤيته للجاذبية باعتبارها انحناءً في هذا النسيج نتيجة لكتل الأجرام السماوية الضخمة التي تثني نسيج «الزمكان»، كل هذا كان تصورًا إبداعيًّا بامتياز، وإن خضع بعد ذلك للتقنين الرياضي والمنهجي.
استطاع آينشتاين، أمام المشكلات النظرية التي كانت تواجه الفيزياء في عصره، أن يرى الكون بطريقته الخاصة كما لو كان فنانًا، واستطاع بواسطة هذه الرؤية أن يحصل على معرفة نظرية عن العالم ويترجمها إلى معادلات رياضية.
تختلط العناصر الذاتية بالممارسة العلمية وتظهر في أمثلة كثيرة من تاريخ العلم. ففي القرن التاسع عشر، استطاع أحد أقطاب علم الكيمياء وقتها، وهو «أوغست كيكوليه»، أن يصوغ رمز حلقة البنزين السداسية التي حيرت كثيرًا من علماء الكيمياء في تصور الطريقة التي ترتبط بها ذراتها.
يمتلك مُركَّب البنزين ستة ذرات كربون ترتبط بروابط أحادية وثنائية، وكلٌّ منها يرتبط بذرة هيدروجين واحدة. حلَّ كيكوليه لغز المركب بالمصادفة البحتة، عندما راوده في منامه حلم عن أفعى تلتف لتلتهم ذيلها، فتخيل بناءً على الحلم مركب البنزين في شكل حلقي، تنتظم فيه ذرات الكربون في شكل سداسي على نفس هيئة «الحية تأكل ذيلها».
هناك أيضًا واحد من العوامل الذاتية لطالما نُظر إليه بطريقة تكاد تكون سلبية، بدعوى أنه ينشئ نوعًا من التحيز بالنسبة إلى العلماء، وهذا أمر غير مسموح به، بل إن بعضهم حاول تبرئة تاريخ العلم (ومن ثَم تاريخ المعرفة) منه: الحَدَس.
الحدس ليس نوعًا من اللاعقلانية، بل رد فعل من وعيك المعقد تجاه إمكانية وحيدة يرى الحقيقة من خلالها.
يقول عالم الاقتصاد البريطاني «ويليام بيفريدج»، في كتابه «فن البحث العلمي»، إن الحدس نمط من الأفكار يتكون نتيجة التراكم المعرفي والخبرات والتعلم.
بيفريدج يربط الحدس بخوفنا الغريزي من أن نكون على خطأ في معتقداتنا. فعندما يفاجئنا أحدهم بآراء أو وقائع تناقض ما نعتقد فيه، نشعر باضطراب، وهذا الاضطراب سببه إدراك الخلل في نمط معرفتنا ذلك، لأن المعرفة الحدسية غير مبرهنة أو منهجية، وإنما فقط نشعر بصدقها لأسباب غير واضحة.
لكن عدم وضوح الأسباب لا يعني بالضرورة غيابها، وهذا ما حاول الفيلسوف الأمريكي «جون ديوي» توضيحه. فاستخدامك لخلفيتك الثقافية وحمولتك المعرفية وكل خبراتك الماضية في توجيه دفة الاعتقاد بفكرة معينة يكوِّن «فرضيتك المحببة»، وهذا المسار بكل تفاصيله المعقدة يُعبَّر عنه بـ«الحدس». وهو ليس نوعًا من الشطط أو اللاعقلانية، بل رد فعل من الوعي ببنياته المعقدة تجاه إمكانية وحيدة يرى الحقيقة من خلالها، لكنه لا يدرك مُجمل عناصر المعرفة والخبرات الماضية التي توجهه نحو هذه القناعة الحدسية.
الجانب السلبي للعامل الذاتي: لا تقع في حب فرضيتك
في عام 2014، وفي حالة من الفرح عقب اكتشاف «موجات الجاذبية»، وعندما وصل الخبر إلى «آندريه ليندي»، عالم الفيزياء النظرية، قال في لحظة مؤثرة من لحظات الإنجاز العلمي الكبيرة: «لنأمل أن تكون حقيقة، وألا تكون خدعة. لطالما عشت يخالجني ذلك الشعور: ماذا لو كنتُ على خطأ؟ ماذا لو كنتُ مخدوعًا؟ ماذا لو كنتُ أؤمن بها (موجات الجاذبية) فقط لأنها جميلة؟».
يحدثنا السِّير «بيتر مدَوَّر»، وهو عالم بريطاني من أصول لبنانية حائز على جائزة نوبل في البيولوجيا، عن نوع معين من أنواع الحدس، نوع يتعلق بالمعرفة العلمية تحديدًا، أسماه «حُب الفرضية».
يحذرنا مدور من الوقوع في حب فرضية معينة، تتشبث بها عقولنا وتتمسك بها، سواءً كانت تلك الفرضية عن الواقع أو عن أنفسنا. «ينبغي علينا أن لا نقع في حب فرضيتنا»، لكن في الغالب لا يأخذ معظم العلماء بنصيحة مدور، وحينها يبقون حبيسي تصورات معينة قد يحدث أن يثبت عكسها.
تأمل تاريخ العلم لترى كيف أن الحب والحدس والإبداع والأحلام، كلها عناصر مهمة تدفع البحث العلمي وتؤثر فيه.
لعب الحدس والإبداع دورًا أساسيًّا في فلسفة المعرفة ومناهجها عند آينشتاين، ومن غير الغريب أن يكون الأمر كذلك بالنسبة إلى واحد من أكثر العلماء أصالةً وإبداعًا على مر التاريخ.
لكن رغم أهميته عند آينشتاين، فقد كانت للحدس زلات عدة، منها ما وقع فيه آينشتاين نفسه. فقد جانَبَ حدسُه الصوابَ عندما اقتنع بأن الكون ثابت لا يتمدد، حتى إنه وضع ثابتًا رياضيًّا يعبِّر عن هذه الفرضية، فأتت ثورة الفيزياء الفلكية في منتصف القرن العشرين بنظرية عن نشأة الكون وتمدده، لتثبت خطأ تصور آينشتاين للكون، وتجبره على تعديل رأيه. وقف آينشتاين موقف حدسيًّا مرة أخرى في رؤيته المخالفة لنظرية الكَم، ومجددًا، ثبت خطأ حدسه.
في كل هذه الأمثلة، كان آينشتاين وفيًّا لاعتقاده بمرونة المعرفة العلمية، التي يشكلها الحدس بجانب التجربة والبرهان الرياضي. ووفقًا له، لا توجد «طريقة منطقية تقودنا إلى القوانين الأولية، هناك فقط طريق واحد: الحدس، الذي يدعمه شعور بنظام مُتوارٍ خلف الظواهر العلمية، ويعمل مع التجربة جنبًا إلى جنب».
دون عوامل ذاتية مثل التخيل والإبداع والأحلام والتأمل، يصير المنطق والرياضيات مجرد قوالب فارغة جامدة. والعوامل الذاتية هذه لن تكون سوى أوهام لا معنى لها من دون المنطق أو الرياضيات، من دون أن يحولها المنهج إلى قضايا مترابطة لها حيز ومعنى داخل البناء المعرفي.
ربما لعبت عوامل ذاتية بحتة، كإبداع آينشتاين أو حلم كيكوليه، دورًا في تشكيل تاريخ العلم والمعرفة، وربما شكَّل الخيال مسارنا من سقوط تفاحة نيوتن إلى سقوط القمر. التخيل البنائي الذي امتلكه «جون دالتون» جعله يقدم أول نموذج لبِنية الذرة في الكيمياء. لحظة تأمل في تاريخ العلم تجعلك ترى أن الحب والحدس والإبداع والأحلام والتعلق بالفرضية، برغم ذاتيتها ونسبيتها، تمثل عناصر مهمة تدفع البحث العلمي وتؤثر فيه، وتدفعه العقلانية النقدية الموضوعية تمامًا. وإنكار وجود تلك العناصر الداخلة في العلم إنكارٌ لفكرة أن العلم منتَج ونشاط إنساني في المقام الأول.