بدأت القصة عندما شعر طفل في الثانية عشرة من عمره بعدم وضوح الكلمات المكتوبة على «سبورة» حجرة الدراسة. ظن أنه تغلب على المشكلة عندما جلس في المقعد الأول، إلا أن المشكلة عاودته عندما بدأت كرة القدم تصطدم بوجهه مرارًا في أثناء اللعب دون أن يراها، فلم يعر الأمر اهتمامًا إلا حينما فوجئ بأشباح تظهر أمامه فجأة في طريق عودته من المدرسة إلى المنزل، اكتشف في ما بعد أنها دراجات بخارية، لكن بصره لم يسعفه أن يراها قبل اقترابها منه.
الطفل الهندي «شيفام كومار»، كان حلمه أن يصبح طيارًا، لكنه، وفي سن مبكرة جدًّا، اضطر للتخلي حتى عن هواية اللعب بالطائرات الورقية. حياة الطفل تلاشت بالتدريج قبل أن ترى أحلامه النور بسبب مشكلة مجهولة أصبحت تتوحش يومًا بعد يوم، مشكلة تلخصت في حاجته إلى نظارة طبية.
سلَّطت صحيفة «نيويورك تايمز» الأمريكية في تقرير لها على «ضعف البصر» كأحد أخطر المشكلات الصحية المسكوت عنها، رغم خطورة تأثيرها على حياة البشر، وبخاصة في الدول الأكثر فقرًا، وكيف أن الاهتمام بالتبرع لعلاج الأوبئة والأمراض المزمنة سرق الأضواء من شبح ضعف البصر وفقدانه.
ضعيف البصر؟ لا أنا بخير
يسفر ضعف البصر في الهند عن 200 ألف حالة وفاة سنويًّا.
يفيد الباحثون بأن هناك أكثر من مليار شخص حول العالم يحتاجون إلى ارتداء النظارات لتعويض ضعف بصرهم، لكنهم لا يفعلون. والسبب ببساطة هو الفقر. لأنه لا تتوافر في المناطق التي يقيمون فيها أي أجهزة لقياس النظر، ولا المال الكافي لشراء نظارات طبية.
تشير تقديرات أخرى إلى أن أعداد المحتاجين لتصحيح البصر تصل إلى 2.5 مليار نسمة، ومع ذلك يظل ضعف البصر إحدى أضخم المآسي التي تتجاهلها منظمات الصحة العالمية رغم أنها لا تقتصر على كونها مشكلة صحية لمن يعانون منها فقط، بل أنها كارثة تجاه حياة الآخرين أيضًا.
من بين الملايين من ضعيفي البصر هناك عدة آلاف يعيشون في نيجيريا، ويعملون في قيادة الشاحنات. يبذل هؤلاء جهدًا كبيرًا لرؤية المارة المندفعين من أحد جانبي الطريق إلى الجانب الآخر. وفي الهند يسفر ضعف البصر عن 200 ألف حالة وفاة سنويًّا. كذلك هناك الآلاف من ضعيفي البصر العاملين في مزارع البن في بوليفيا، تعوقهم تلك المشكلة عن تمييز الثمار الناضجة الواجب قطفها من تلك التي لا تزال بحاجة إلى بعض الوقت، ما يعني خسارة فادحة في كثير من الأحيان.
أما في المدارس، فلا تقتصر المعاناة على الطفل الهندي شيفام الذي ذكرنا قصته آنفًا، فهناك عشرات الملايين من الأطفال حول العالم يعانون نفس حالته، ولا تمتلك عائلاتهم القدرة المادية لإجراء فحص طبي لعيونهم، وبالتالي لا تقدر على دفع ثمن النظارات التي يحتاجون إليها. وللأسف يوصف هؤلاء التلاميذ بضعف التحصيل الدراسي، بحسب ما ينقله التقرير عن «كوفين نايدو»، المدير الدولي لمنظمة «رؤية أطفالنا»، التي توفر كشف نظارات مجاني أو بأسعار مخفضة في مختلف دول إفريقيا.
قد يعجبك أيضًا: الإنسان والمرض: من ينتصر في النهاية؟
رجال الأعمال: لدينا أولويات أخرى
ذكر بيل غيتس معاناته في طفولته من قِصَر النظر، وقال إنه لولا استخدامه النظارات الطبية ما كان ليؤسس مايكروسوفت.
تكمن المشكلة في أن العالم في عصرنا يشهد تفشي عدد من الأوبئة والأمراض الخطيرة، مثل الإيدز والملاريا والسل، ما يجعل جهود المتبرعين والمؤسسات الخيرية تنصبُّ في الأساس على إنقاذ مرضى هذه الأوبئة متجاهلة المشكلات الصحية الأقل إلحاحًا مثل ضعف الإبصار.
تشير الإحصاءات إلى أنه في عام 2015 خُصِّصَ 37 مليون دولار للمحتاجين إلى نظارات طبية في الدول النامية، ويشكل هذا المبلغ أقل من 1% من موارد الرعاية الصحية في مختلف أنحاء العالم، وذلك بحسب منظمة «آيليانس» غير الربحية التي تعمل في جمع التبرعات وزيادة التوعية بما يعانيه مرضى ضعف البصر.
أفادت منظمة الصحة العالمية «WHO» بأنه على الرغم من الإهمال الذي يعانيه مرضى ضعف البصر، فإن انتشار هذه المشكلة الصحية يكلف الاقتصاد العالمي أكثر من مئتي مليار دولار سنويًّا بسبب ضعف إنتاجية المصابين بها، إذ يعيق ضعف البصر المريض عن بذل أقصى مجهود له في العملية الإنتاجية.
يوضح كاتب التقرير أن لقاءً دار بين «هوبرت ساغنيريس»، المدير التنفيذي لشركة النظارات الفرنسية «إيسيلور»، و«بيل غيتس»، مؤسس «مايكروسوفت». وخلاله ذكَّره غيتس بمعاناته في طفولته من قِصَر النظر، ولولا استخدامه النظارات الطبية لما كان حقق هذا النجاح، وما كان ليؤسس مايكروسوفت. واعترف غيتس وقتها في تقصيره بالتبرع لمرضى ضعف البصر، قائلًا في خجل: «نعم، لقد كانت لديَّ أولويات أخرى». في إشارة إلى اهتمامه بالتبرع لمصابي الأمراض المستعصية، في ما رفض متحدث باسم مؤسسة غيتس الخيرية التعليق على هذه النقطة.
على الرغم من أن هناك مصانع في الصين وتايلاند والفلبين قادرة على إنتاج نظارات بتكلفة زهيدة تبلغ 1.5 دولار للنظارة الواحدة كي تناسب احتياجات الدول الفقيرة، فإن الدعم المالي ليس المشكلة الوحيدة التي تواجه مثل هذه الدول. ففي دولة مثل أوغندا لا يوجد سوى 45 طبيبًا متخصص في الرمد، على الرغم من أن التعداد السكاني للدولة يصل إلى 41 مليون نسمة.
تواجه فكرة استخدام نظارات طبية معوقات مرتبطة بثقافة بعض المجتمعات مثلما يحدث في المناطق الريفية في الهند، حيث تعد النظارة علامة على النقص والعجز، كما تعد في كثير دول العالم عائقًا أمام زواج الفتاة.
يا إلهي.. أرى كل شيء بوضوح
في عصر أحد الأيام بمدينة باني بت شمالي نيو دلهي، بدأت منظمة «فيجن سبرينغ» غير الربحية إجراء اختبارات نظر لمئات التلاميذ في مدرسة المدينة. شعر التلاميذ بالحماس والقلق في الوقت ذاته، إذ إنها كانت المرة الأولى التي يُجري فيها معظمهم هذا النوع من الفحص الطبي، وتبين أن نحو 12% منهم يعانون من ضعف في البصر يتطلب مزيدًا من الفحوصات.
بعد الانتهاء من الفحوصات ظهر الطفل شيفام، الذي كان يحلم بأن يصبح طيارًا، في حجرة الدراسة بنظارات أنيقة ذات إطار أرجواني، راح يتلفت حوله داخل الحجرة وصاح في سعادة: «أرى كل شيء بوضوح». ويقول «أنشو تانيجا»، مدير منظمة «فيجن سبرينغ» في الهند، إن من يجربون شعور الرؤية السليمة بالنظارات لا يتخلون عنها أبدًا، بل إنهم يسعون إلى اقتناء نظارة جديدة عندما تتغير مقاييس قوة بصرهم.
إذا كان مرضى ضعف البصر لا يتألمون بصوت مسموع، فإن معاناتهم تلازمهم في كل لحظة من حياتهم.
«راتان سينغ»، (45 عامًا)، حصل على نظارة طبية. يقول إنه لا يستطيع الآن العيش دونها، فقد كان سابقًا، في عمله بحقل القمح، لا يلاحظ وجود الحشرات الصغيرة على سيقان السنابل، ما يؤدي إلى نقص كميات المحاصيل وجودتها لأنه لا يكافح تلك الآفات كما يجب أن يكون، فضلًا عن أنه في كثير من الأحيان كان يستخدم مبيدات بالخطأ لأنه لا يستطيع قراءة التعليمات المدونة عليها، وعندما اعتاد طلب مساعدة الآخرين في ذلك شعر بأنه أصبح عبئًا عليهم.
بحسب الوكالة الدولية للوقاية من فقدان البصر، فإن معظم من يتجاوزون سن الخمسين تتطلب حالاتهم استخدام النظارات الطبية، إلا أن كثيرًا منهم يهملون ذلك، ويحاولون التعايش مع الحالة. من بين هؤلاء «بيريان أياكام»، (56 عامًا)، ويعمل موظفًا في شركة كهرباء، إذ يتطلب عمله قراءة عدادات الكهرباء، فيواجه صعوبة بالغة بسبب ضعف بصره، ولم يلتفت إلى خطورة حالته إلا عندما أوقفوه عن العمل.
أجرى بيريان أياكام فحصًا لنظره بمساعدة العيادة المتحركة التي تبرعت بها مستشفى «أرافيند»، وأخبره الأطباء بأن عينه كانت على وشك الإصابة بالماء الأبيض التي كانت ستحتاج إلى تدخل جراحي، لكنه عاد إلى عمله في اليوم الذي حصل في على نظارة طبية مقابل دولارين فقط.
قد يهمك أيضًا: عيوننا حقًّا تقول كل شيء
إذا كان مرضى ضعف البصر لا يتألمون بصوت مسموع كغيرهم من المصابين بالأمراض المستعصية، فإن معاناتهم تلازمهم في كل لحظة من حياتهم، بل وتمتد إلى حياة من يحيطون بهم، سواء أقاربهم أو حتى من لا يعرفونهم. فيا ليت إنقاذ هؤلاء يجد له مكانًا بين أولويات المنظمات الخيرية وفاعلي الخير من رجال الأعمال.