في كتابه «رسالة الإنسانية»، شدد الميرزا حسن الحائري الإحقاقي، وهو أحد أهم المراجع الشيعية، على أن اللقيط لا يدخل الجنة لأنه اختار أن يكون «نُطفة حرام»، واختار أن يكون في هذا «المقام الوضيع»، فإذا كان صحيح العقيدة وعمله مطابقًا للشرع في الدنيا، فإنه يُترك في حظائر الجنة.
كتب الإحقاقي هذا بناءً على نظرية يؤمن بها الشيعة تسمى «عالم الذَّر»، فما هذا العالم؟ ولماذا يرى المرجع الشيعي أننا نُحاسب اليوم بناءً عليه؟
ما عالم الذَّر؟
كل مخلوق منا التقى روحه في عالم الذَّر، تعلقت روحه بجسده وصارت حرة الإرادة حتى تختار قدرها.
يذكر محمد باقر المجلسي، أحد علماء الشيعة الإثنى عشرية، في كتابه الشهير «بحار الأنوار»، وما أكده تفسير العلامة محمد حسين الطباطبائي في كتابه «الميزان في تفسير القرآن»، في تفسير الآية رقم 172 من سورة الأعراف: «وَإِذ أَخَذَ رَبُّكَ مِن بَنِي آدَمَ مِن ظُهُورِهِم ذُرِّيَّتَهُم وَأَشهَدَهُم عَلَى أَنفُسِهِم أَلَستُ بِرَبِّكُم قَالُوا بَلَى شَهِدنَا»، أن الله بعد أن خلق آدم أخرج ذريته من ظهره على شكل ذر صغير ملأ السماء، فكل روح مِن مُلك الأرواح تتعلق بجسدها الخاص في هذه الدنيا.
وبعد أن اكتمل لدى تلك المخلوقات الذرية العقل والشعور والإرادة والاختيار، أخذ الله الميثاق عليهم بالربوبية والنبوة بكل نبي كان، وكذلك للأئمة، أي أن كل مخلوق ذرِّي منا التقى آنذاك بروحه، فتعلقت روحه بجسده وعقلت وصارت حرة الإرادة والاختيار حتى تختار قدرها.
بحسب الرواية الشيعية، يختار المرء قدره الذي يحصل له اليوم في الحياة الدنيا ويحاسَب عليه في الحياة الآخرة، يختار كل خير وشر في حياته، يختار أن يكون مؤمنًا أو كافرًا، شقيًّا أو سعيدًا، وهو ما يسمى «ميثاق الذَّر» الذي يقيم الحُجَّة على الإنسان في حياته.
من الروايات التي يُعتمد عليها في تفسير عالم الذَّر، رواية لأبي جعفر محمد الباقر الإمام الخامس عند الشيعة الإثنى عشرية، يقول فيها: «لا تخاصموا الناس فإن الناس لو استطاعوا أن يحبونا لأحبونا، إن الله أخذ ميثاق الناس فلا يزيد فيهم أحد أبدًا ولا ينقص فيهم أحد أبدًا».
مهلًا، هل يعني هذا أننا مخيرون أم مسيرون؟
يقول عالم الدين عبد الحسين دستغيب: «الإنسان اختار ما اختاره في عالم الذَّر عن اختيار وشعور كاملين، بل ويذهب البعض إلى أن شعور الإنسان وعقله وقواه المدركة في عالم الذر أقوى مما هي عليه في هذا العالم».
يعني ذلك أن الإنسان اختار قدره بكل وعي، هذا يجيب عن سؤال قديم حول التخيير والتسيير في حياة الإنسان، فبحسب نظرية عالم الذَّر، أنت تختار قدرك أولًا فتكون مخيرًا، ثم تنفذه في الحياة الدنيا فتصبح مسيرًا.
لكن هل من المعقول فعلًا أننا نختار مصائبنا؟ أن ضحايا الحروب والعنف والاغتصاب والقتل والتحرش الجنسي والقمع النفسي والإساءة اللفظية والبدنية اختاروا أن يكونوا كذلك؟ هل اختارت أزيدية أن يغتصبها داعشي؟ واختار زوج أن تخونه زوجته؟ وأن يعيش الفقير جائعًا؟
بفرض منطقية ذلك، هل من الأخلاقي أن نلوم الضحايا بحجة أنها أقدار اختاروها؟
يعيدنا هذا إلى ما قاله الإحقاقي في بداية الموضوع عن اللقطاء، فابن الزنا الذي لا ذنب له في فعل والديه، ولم يقترف إثمًا، وليس هو الزاني ولا الزانية بل الضحية، يُلام لأنه اختار في عالم الذَّر أن يكون «نطفة حرام».
قد يعجبك أيضًا: رحلة في أركان الدين منذ آدم حتى الإسلام
لكن، هل يتفق الشيعة على نظرية عالم الذَّر؟
أليس لمثل هذه النظريات أثر في إحباط دوافع الإنسان نحو تغيير واقعه؟
يذكر المحامي والباحث الكويتي علي العريان، في بحث بعنوان «الميثاق وعالم الذَّر»، أن هناك قوانين لدى الشيعة في تلك المسألة، فبعضهم ينكرها وهناك من يُثبتها.
يرى العريان في بحثه أن إنكار عالم الذَّر يُنسب إلى السيد المرتضى، وهو من أعظم فقهاء الشيعة، كما يؤكد فقهي شيعي كبير آخر هو الشيخ المفيد أن هناك إشكالات عديدة تدور حول تفسير آية «وَإِذ أَخَذَ رَبُّكَ مِن بَنِي آدَمَ مِن ظُهُورِهِم ذُرِّيَّتَهُم» على أنها عالم الذَّر، بل هي ممَّا يقول به المؤمنون بتناسخ الأرواح، والمتعلقون بهذه الأخبار قليلو فطنة لا ينظرون في سند الأحاديث ولا يفرقون في حقها وباطلها.
أما مُثبتي المسألة فأحدهم الحر العاملي، وهو محدِّث وفقيه من الشيعة، ويقول في كتاب «الفصول المهمة من أصول الأئمة»، إن هناك أكثر من ألف حديث يدلل على مسألة عالم الذَّر، وحتى إن كان المنكرون يضعفونها فإنها تشير إلى دليل عقلي هو رده عليهم بجزئية نسيان ما حدث في عالم الذَّر، إذ يرى أنه لا شك أن النسيان يحدث بعد مرور آلاف السنين على ما قيل وما سُمع.
اقرأ أيضًا: كيف برز «آية الله» وانتشر المذهب الشيعي المعاصر؟
يتحدث فقيه آخر من المُثبتين هو المؤسس الأول للمدرسة الشيخية الفقهية لدى الشيعة، أحمد بن زين الدين الإحسائي، في تفسير قول الإمام علي الهادي عاشر أئمة الشيعة، بأن قوله «ووكَّدتم ميثاقه» يعني أن ميثاق الذَّر يؤخذ على كل الخلق حتى الحيوانات والنباتات والجمادات.
يضيف الإحسائي: «مَن أنكر ذلك فقد أخطر بنفسه، والواجب على المؤمن الذي يدَّعي أنه من رعية محمد وأهل بيته أنه إذا سمع ما لا يحتمله من أهل الحق أن يتفهم ولا يسارع بالإنكار، فإن لم يفهم فلا ينكر ما لا يفهم».
لكن أليس لمثل هذه النظريات أثر في إحباط دوافع الإنسان نحو تغيير واقعه؟
إن إيمان الشخص بأن قدره المختار في عالم سابق سارٍ، سيدفعه إلى أن لا يعمل بأي شكل على أن يغيره، فيعيش جامدًا مستسلمًا لواقع سيئ. أفلا يطالب الدين الناس بأن يغيروا ما بأنفسهم حتى يغير الله لهم حالهم؟