كيف برز «آية الله» وانتشر المذهب الشيعي المعاصر؟

الصورة: John Moore

ترجمات
نشر في 2017/06/15

دائمًا ما تزداد الشكاوى من تغطية وسائل الإعلام لأحداث منطقة الشرق الأوسط، المنزوعة عادةً من سياقها، إذ تفترض الكثير من التقارير الإخبارية أنَّ أحداث المنطقة تجري دون سابقة وأنها غير مرتبطة بالماضي، وبالتالي، يمكن أن يكون تحليل تلك الأحداث مضللًا إلى حد كبير.

يكمن الحل الوحيد لمشكلة غياب السياق هذه في دراسة التاريخ، بحسب أستاذ الدراسات الإسلامية ودراسات الشرق الأوسط «زاكري هيرن»، الذي عرض رأيه في مقال منشور على موقع «Your Middle East»، ويرى هيرن أن دراسة التاريخ تزيد احتمالية أن يصبح المؤرخون صحفيين جيدين.

لماذا علينا أن نعود إلى التاريخ؟

مشهد من الثورة الإسلامية في إيران
مظاهرات من الثورة الإسلامية في إيران - الصورة: AP Photo

يركز معظم العلماء على الاستعمار الأوروبي باعتباره القاطرة التي نقلت الحداثة من أوروبا إلى العالم الإسلامي.

يلجأ النقّاد في رأي الكاتب إلى التاريخ في حالة واحدة، وهي عندما يودُّون التأكيد على أنَّ الشرق الأوسط لديه تاريخ طويل من المشاكل والعنف وعدم المساواة والظلم والطائفية، وهذه افتراضات منحازة بالتأكيد، لأنها تفترض على نحو خاطئ أنَّ الحالة الراهنة للأوضاع في الشرق الأوسط مماثلة لماضٍ لم يتغير، لذا يتوقع بعض المحللين أنَّ يظل الشرق الأوسط دائمًا منطقة مليئة بالاضطرابات والأزمات، خصوصًا في ما يتعلق بالصراعات والتوترات الطائفية بين الشيعة والسنة.

وبدلًا من الاكتفاء بالغضب تجاه آراء هؤلاء المحللين، ألّف هيرن كتابًا يضع التشيّع المعاصر ضمن سياقاته المناسبة في العراق وإيران والشرق الأوسط، وتاريخ العالم كله. يتحدث هذا الكتاب، بحسب كاتبه، عن الإسلام الشيعي ومكانته في العالم الحديث.

لا يقصد هيرن بكلمة «الحديث» أنه العالم المعاصر، الذي هو مجال كتابة الصحفيين وعلماء السياسة، وإنما تم استخدام مصطلح «الحديث» بالمعنى التاريخي، الذي بدأ تقريبًا عند العام 1750، وفقًا لعدد كبير من المؤرخين يسير الكاتب في ركابهم.

اقرأ أيضًا: حسن روحاني يفوز من جديد: ماذا يريد الإيرانيون من رئيسهم؟

كيف وُلدت الحداثة في العالم الإسلامي؟

المؤرخ «برنارد لويس» يتناول تحول العالم الإسلامي بالتوازي مع الحداثة الغربية

من أجل تطوير فهم أعمق للمذهب الشيعي المعاصر وعلاقته بإيران والعراق، يركز الكتاب على المذهب الشيعي في مرحلة التحول الممتدة من أواخر القرن الثامن عشر وأوائل القرن التاسع عشر، وهي اللحظة التاريخية التي أنتجت تغييرات هائلة في تاريخ البشرية بحسب الكاتب، مثل الثورة الصناعية، وظهور النزعة القومية، والمذهب الشيوعي، وعصر التنوير، وقيام الولايات المتحدة الأمريكية.

يرى هيرن في كتابه أنَّ العالم الإسلامي الحديث ظهر جنبًا إلى جنب مع هذه التغيرات، وليس كرد فعل لها،  وفي حين يركز معظم العلماء في رأيه على الاستعمار الأوروبي باعتباره القاطرة التي نقلت الحداثة إلى العالم الإسلامي من أوروبا، يبحث هو في كتابه عن التغيرات الحديثة التي طرأت على التيارات التقليدية في العالم الإسلامي.

ويزعم المؤلف أنَّ ولادة الحداثة في العالم الإسلامي مرتبطة باللامركزية السياسية لما يسمى بـ«إمبراطوريات البارود»، وهي الإمبراطوريات الإسلامية العثمانية والصفوية الفارسية والمغولية، وفي القرن الثامن عشر أصبحت هذه الإمبراطوريات الكبيرة (مثل تلك الموجودة في روسيا والصين) إما إمبراطوريات لامركزية أو انهارت تمامًا، وقد فتح ذلك المجال لتشكُّل اتجاهات اجتماعية ودينية واقتصادية وسياسية جديدة بغرض «التحديث» أو «التطوير».

عمل الشيعة الأصوليون في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر على تحويل جنوب العراق من التصوف إلى التشيّع.

وفي مجال التطور الاجتماعي والديني، حدث تحول جذري في العالم الإسلامي، نتج عنه ظهور الأصولية الشيعية، والسُّنيَّة الوهابية، والصوفية الجديدة. ولم تلق الأصولية الشيعية اهتمامًا كبيرًا من العلماء والباحثين، بعكس الوهابية والصوفية الجديدة.

كيف ظهرت الأصولية الشيعية الحديثة؟

صورة لآية الله روح الله الخميني
الصورة: A.Davey

يفترض هيرن أنَّ الأصولية الشيعية هي الحركة الأكثر قوة في إيران الحديثة وجنوب العراق، وفي حين يحاول بعض المؤرخين تفسير الاتجاهات الحالية في إيران والعراق بتحليل المذهب الشيعي عمومًا، يرى هو أن التركيز على الأصولية تحديدًا، وبدقة أكبر على الأصولية الجديدة، سيكون أكثر جدوى.

جاءت الأصولية الشيعية للسيطرة على العالم الشيعي في لحظة تاريخية حاسمة في أواخر القرن الثامن عشر، وكان الدافع لصعود الأصولية هو انهيار الإمبراطورية الفارسية الصفوية (1501-1722)، وهي الامبراطورية التي أرست المذهب الشيعي كمذهب رسمي لإيران، ودفعت إلى تحويل معظم الإيرانيين من المذهب السُني إلى المذهب الشيعي، بحسب هيرن.

لتمييز أنفسهم، اتخذ رجال الدين الأصوليين ألقابًا فخمة، ومنها «حُجة الإسلام» و«مرجع التقليد» واللقب الأشهر «آية الله».

كان رجال الدين الشيعة في إيران يتمتعون بدعم كبير من الدولة، كحال رجال الدين في أي مكان آخر، ولأنَّ الصفويين جعلوا المذهب الشيعي دين الدولة لأول مرة منذ مئات السنين، أنتجت الفترة الصفوية نهضة في التعليم الشيعي، وفي ظل الحكم الصفوي انتشرت مجموعة من التفسيرات المتنوعة تاريخيًا عن التشيع، بما في ذلك العقلانية الأصولية، والمذاهب النصية للإخباريين، والتصوف، والفلسفة الإشراقية.

وبعد انهيار الإمبراطورية الصفوية في عام 1722، هاجر العديد من رجال الدين الشيعة من العاصمة الصفوية أصفهان إلى المدن المقدسة التي تسيطر عليها الإمبراطورية العثمانية السُّنيَّة، مثل كربلاء والنجف في جنوب العراق، وفي القرنين الثامن عشر والتاسع عشر، ترأس رجال الدين الأصوليين الشيعة عملية تحويل غالبية العراقيين الجنوبيين من التصوف إلى التشيّع ودافعوا عن جنوب العراق من «هجمات الوهابية السعودية».

قد يعجبك أيضًا: 9 تشابهات بين السعودية وإيران رغم التناقض الظاهر

الآن يظهر «آية الله»

يرى الكاتب، وغيره كثيرون، أن المدرسة الأصولية تُكفِّر وتضطهد غيرها من المدارس

في محاولة لتوطيد قوتها، أعلنت الأصولية الشيعية أنَّ الصوفيين، والإخباريين، والوهابيين، والبهائيين وغيرهم من المدارس الإسلامية هم جميعًا زنادقة، مما حدّد نطاق العقيدة الدينية في العالم الشيعي حسب هيرن، فادعى الأصوليون أنهم نوّاب للأئمة الإثنى عشر وامتداد لهم، وأعلنوا الأحكام الشرعية الملزمة التي كانوا يطبقونها بأنفسهم عادةً.

يذكر هيرن مثلًا أنَّ أحد رجال الدين الأصوليين، وهو محمد باقر شفتي، الذي كان واحدًا من أغنى الإيرانيين في القرن التاسع عشر، قد حكم بنفسه بالإعدام على مائة شخص.

ظهرت القيادة الأصولية في التقسيم الطبقي المتزايد للمذهب الشيعي، رغم أنَّ الأصولية ظلت منظمة بصورة غير رسمية عن طريق كبار رجال الدين، الذين كانوا يتنافسون غالبًا للحصول على مزيد من الأتباع. ومن أجل تمييز أنفسهم، اتخذ رجال الدين الأصوليين ألقابًا فخمة، ومنها «حُجة الإسلام»، أو «مرجع التقليد»، أو اللقب الأشهر الآن «آية الله».

جمع الأصوليون الثروات من التبرعات الخيرية والمشاريع التجارية الشخصية، وبنوا المؤسسات الخيرية في المقابل.

سيطر الأصوليون على الدين في جميع أنحاء العالم الشيعي طوال القرنين التاسع عشر والعشرين، بحسب هيرن، وظلوا مستقلين تقريبًا عن الدولة الإيرانية، وتباين موقف أعضاء المؤسسة الأصولية تجاه حكومة قاجار (1785-1925) في إيران بين التعاون والعصيان، فمن جهة، توقع الأصوليون أن ينفذ أنصار القاجار إعلانهم الجهاد ضد روسيا، ومن ناحية أخرى، دعم بعض الأصوليين إصلاحات دستورية من شأنها أن تحد من سلطة الشاه.

الآن يمكن تسييس المذهب الشيعي

آيه الله علي خامنئي مع حسن الخوميني
الصورة: محمود حسيني

انتقد العديد من الشيعة تسييس الخميني للمذهب الشيعي وتفسيره لولاية الفقيه.

الإرث الأكبر الذي تركه الأصوليون الجدد في رأي هيرن هو تأكيدهم على مذهب شيعي شرعي منح رجال الدين سُلطة أكبر من أي وقت مضى، فقد قسّموا المجتمع الشيعي إلى رجال الدين والناس العاديين، وطلبوا من جميع الأشخاص العاديين تقليد واتباع الإرشاد الديني لرجل الدين الأكثر علمًا، وورعًا، وعدلًا.

وغداة ذلك، جمع الأصوليون الثروات من التبرعات الخيرية والمشاريع التجارية الشخصية، وفي المقابل، بنوا المؤسسات الخيرية، بما في ذلك المستشفيات ودور الأيتام والمدارس، ولذلك أصبح «آيات الله» أقوياء مثل البابا المسيحي، يترأسون شبكات واسعة النطاق من المحسوبية بين «الراعي» و«الأتباع» تتعدى الحدود الجغرافية.

قد يهمك أيضًا: ضريح «الإمام الرضا» موضع اشتباك آخر للدين والبيزنس

ويرى الكاتب أنَّ آية الله الخميني، قائد الثورة الإيرانية، استطاع استغلال الشبكات الأصولية والأيديولوجية في هذا السياق للسيطرة على الحكومة الإيرانية في أوائل ثمانينات القرن الماضي، وقام الخميني بالترويج لـ«ولاية الفقيه»، وهي فكرة أصولية فسّرها بعض الأصوليين الجدد على أنها تعني أن رجال الدين الأصوليين يجب أن يحكموا نيابة عن أئمة الفرقة الإثنا عشرية، ويشغل هذا المنصب حاليًا في إيران المرشد الأعلى للثورة، الولي الفقيه، آية الله علي خامنئي.

انتقد العديد من الشيعة تسييس الخميني للمذهب الشيعي وتفسيره لولاية الفقيه، وكان أحد هؤلاء النقّاد رجل الدين الشيعي الأقوى في العراق، آية الله علي السيستاني، الذي يتبعه حاليًا أكثر الشيعة في العالم، حتى أكثر من أتباع المرشد الأعلى في إيران.

هذا النوع من اللامركزية، والقيادة متعددة الرؤوس، يعد أمرًا شائعًا في تاريخ الأصولية الجديدة حسب هيرن، لأنَّ أتباع الأصولية الشيعية أحرار في اختيار رجل الدين (آية الله) الذي يرغبون في اتِّباعه، وعلى الرغم من توافق خامنئي والسيستاني حول العديد من القضايا، إلّا أنَّ اختلافاتهم تدل على التنوع الفكري والقومي داخل الحركة الأصولية الشيعية المعاصرة.

إن التشيُّع، في رأي هيرن، وكحال أي نظام ثقافي كبير بطبيعة الحال، هو مذهب معقد، ومتطور، وله جذور تاريخية عميقة لا يجوز اختزالها في قراءاتنا للمشهد الحالي.

مواضيع مشابهة