«الذاكرة» من بين أكثر الألفاظ التي يؤدي الامتداد الشاسع في حقلها الدلالي إلى سوء الفهم، فلو بحثنا في القواميس العامة والفلسفية أو السيكولوجية وقارنَّا بين التعريفات التي تقدمها، سنجد أن أكثر الدلالات تنوعًا ذات صلة بهذا اللفظ، وربما يعكس هذا الاختلاف محاولات الإنسان العديدة للإحاطة بمفهوم الذاكرة.
قد نبدأ من العلاقة المحرمة بين «أورانوس» إله السماء وأمه «غايا» ربة الأرض في الميثولوجيا الإغريقية، علاقة أثمرت «نيموسيني» ربة الذاكرة، صاحبة أسرار الجمال والفن والمعرفة وكل الماضي والحاضر والمستقبل، التي أنجبت لـ«زيوس» ربَّات الإلهامات التسعة.
قد نبدأ بوصف الذاكرة أُمًّا للإلهام كله.
التذكُّر سفر إلى الماضي
عندما نزور الماضي لنستدعي الذكرى، نميِّع الإحساس الفيزيائي بالوقت.
توالى العلماء والفلاسفة في تقسيم الذاكرة من القرون الوسطى حتى بداية القرن التاسع عشر إلى حسية ومعنوية، وطويلة وقصيرة المدى، واختلفوا في أنواعها وأشكالها. وفي بداية القرن التاسع عشر، اكتشف «هيرمان إبنجهاوس» أول طريقة لقياس الذاكرة فعليًّا، وفتح بذلك المجال أمام علم النفس المعرفي.
ألهم ذلك الاكتشاف عالِم النفس والأعصاب الكندي الذي أحدثت أبحاثه ثورة في علم الذاكرة، «إندل تلفينج»، بمبدأ لتشفير المعلومات في الذاكرة يختلف عمَّا جاء قبله. فصل مبدأ تلفينج بين الذاكرة المخزنة والذاكرة التي نستطيع الوصول إليها، ليفرق بذلك بين تخزين المعلومات في الذاكرة واستدعائها من الذاكرة كعمليتين منفصلتين.
بناءً على ما لاحظه تلفينج من فروق بين الذكريات المبنية على المعلومات والمعارف، والذكريات المبنية على الخبرات والتجارب، اقترح تقسيم الذاكرة طويلة المدى إلى ذاكرة عرضية لأحداث السيرة الذاتية: الأوقات والأماكن والعواطف، وذاكرة دلالية للمعرفة العامة: الحقائق والأفكار والمفاهيم.
يصف تلفينج استدعاء المعلومات من الذاكرة العرضية بالسفر الذهني في الزمن، فنحن نزور الماضي لنستدعي الذكرى، فنميِّع الإحساس الفيزيائي بالوقت.
هذا الوصف يشبه ما حدث في فيلم «La Jetee»، إذ أهلكت الحرب العالمية الثانية العالَم وانقسم الناجون إلى علماء أسياد وأسرى، فكان العلماء يرسلون الأسرى إلى الماضي ليتعلموا منه كيف يعيدون الحياة إلى حاضرهم، وأحدهم كان «دافوس هانيك»، الرجل الذي سافر إلى الماضي معلقًا على ذكرى وحيدة مُلِحَّة، ليجمع ما ضاع من نفسه وما يصلح به الحاضر المعطوب.
لاحقًا، فتح هذا التقسيم الباب أمام أبحاث أخرى حول الذاكرة، منها الباب الذي رآه «دانيال شاكتر» لتفسير خطايا الذاكرة السبعة.
الخطايا السبعة للذاكرة
نحن بشر نتغير ونتكيف، لا تنطبع الذكريات على ألواح صخرية، إنما تُطبع على أنفسنا الهشة.
قسَّم شاكتر العيوب أو القصور في الذاكرة إلى سبع خطايا: التلاشي، وشرود الذهن، والحجب (خطايا النسيان)، وخلط الإسناد، والإيحاء، والتحيُّز (خطايا التحريف)، والإلحاح (خطيئة الذكريات المقتحمة).
لا نستطيع أن نجزم بتعليلات هذه الخطايا، لكن بعض العلماء يقولون إن خطايا النسيان تحدث لأن الذاكرة في حاجة دائمة إلى مسح الذكريات لتفسح المجال لذكريات جديدة، ويتمثل هذا في الاختفاء الفعلي لبعض الوصلات العصبية في الدماغ مع مرور الزمن. وقد يكون السبب مجرد تشتت في الانتباه يؤدي إلى سطحية تخزين المعلومات.
ويعزي البعض خطايا التحريف إلى تأثير النفس في الذاكرة، فنحن في النهاية بشر نتغير ونتكيف، لا تنطبع ذكرياتنا على ألواح صخرية، إنما تُطبع على أنفسنا الهشة.
لكن تظل الخطيئة الأخيرة (الإلحاح) محلَّ حيرة عميقة، فقد تكون جزءًا من اضطراب الوسواس القهري، إذ كما تميل بعض الأدمغة لتجميع الأشياء بصورة مقلقة، ربما يميل هذا الدماغ إلى تجميع الذكريات تحديدًا. وقد تكون تلك الخطيئة جزءًا من اضطرابات ما بعد الصدمة، حين يظل الدماغ متيقظًا لذكرى خيفة أن تتكرر، فيحبس صاحبه فيها.
لا يؤمن شاكتر بوصف خطايا الذاكرة على أنها «أخطاء مصنعية» أو «ثغرات في البرمجية الدماغية»، بل يعدها سمات ضرورية للتكيف مع معطيات العالم، وصفات بشرية طبيعية مثل الخطايا السبعة المميتة في الكاثولوكية، لكن الصورة المبالَغة منها قد تكون مهلكة فعلًا، فكيف تحدث خطايا الذاكرة؟
1. التلاشي: بتاريخ اليوم في العام الماضي، ماذا كنت تفعل؟
قد يكون مَكَب الذكريات في فيلم «Inside Out» وصفًا دقيقًا بالفعل.
مع مرور الوقت، تتلاشى معلومات من الذاكرة بشكل أو بآخر، لكننا لا نعرف بعد إن كان السبب هو فقدان المعلومات فعلًا من مخزن الذاكرة، أم أنها لا تزال موجودة لكن الدماغ يفشل في استدعائها، أم كلا السببين.
2. شرود الذهن: ماذا كنتُ أريد من المطبخ؟
أين تركتُ المفاتيح؟ أين وضعتُ نظارتي؟ هل تلاحظ شيئًا مختلفًا في مظهري؟
ترتكب الذاكرة هذه الخطيئة إمَّا بسبب ضعف الانتباه والتركيز في أثناء تخزينها، أو بسبب تخزينها على مستوى سطحي.
يلعب التشفير السطحي للذكريات دورًا ممتعًا في ظاهرة «عَمَى التغيير» الموضحة في مقطع الفيديو أعلاه،فتميل أدمغتنا إلى تخزين صور المَشاهد على مستوًى سطحي من الذاكرة، تهتم بالطابع العام لا بالتفاصيل.
3. الحجب: الواد منصور ما بيجمعش
أكثر ظواهر الحجب دراسةً هي ما يسمى بحالة «على طرف اللسان»، وفيها يستدعي الدماغ ذكريات قريبة ذات صلة لكنها ليست المراد استدعاؤها، فتعيق بتطفلها استدعاء الذكرى المنشودة.
تسمى هذه الذكريات «الأخوات القبيحات»، كنايةً عن أخوات سندريلا في قصة الأطفال الشهيرة، اللتين تتحكمان فيها رغم كونها لا ترغب في وجودهما، وهذا يفسر لماذا يزيد الأمر سوءًا في تلك الحالات لو حاول أحدنا مساعدة من يحاول التذكر.
4- خلط في الإسناد: حلم أم علم؟
هنا لا عيب في وجود الذكرى أو في استدعائها، لكنك لا تعرف مصدرها تمامًا، ومثال هذا عندما اتُّهم «دونالد تومسون»، عالم النفس الأسترالي، باغتصاب فتاة تذكر بالتفصيل كل ما حدث.
من حسن حظ تومسون أنه كان في لقاء تليفزيوني على الهواء وقت الحادث، ليتضح أن الضحية كانت تشاهد اللقاء مباشرةً قبل الواقعة، واختلط عليها مصدر الذكرى الأليمة.
يمكن كذلك أن تتذكر شيئًا لم يحدث مطلقًا، أو لا تستطيع التفريق بين خاطرة أو خيال وبين ذكرى حدثت فعلًا، فكثير من الأحلام يشبه الأيام التي نمر بها، وكثير من أيامنا يشبه الأحلام.
اقرأ أيضًا: حكايتان عن ألاعيب العقل: هل علينا أن نشك في ذكرياتنا؟
5- الإيحاء: تتذكر جريمة لم ترتكبها؟
بمرور ما يكفي من الوقت والتعب، لم يعد دايمون يفرق بين الخيال والذكرى.
يحدث هذا بأن تندمج الذكرى مع أفكار أخرى يوحيها لك الآخرون، مثل الأثر الذي تتركه الأسئلة الاستدراجية مثلًا في ذاكرة شخص ما، وتزيد هذه الإيحاءات تفاصيل مضلِّلة إلى الذكرى، أو «بهارات» كما يمكن أن نسميها.
استُجوِب دايمون لتسع ساعات إثر اختفاء قريبه واكتشاف جثته، وتخلل الاستجواب كثير من الأسئلة المضللة، ناهيك بالإرهاق الذي سببه الاستجواب القاسي و36 ساعة متواصلة دون نوم، وكذلك فاجعة الخبر.
لا يستطيع العلم أن يعطي تفسيرًا قطعيًّا لما حدث في دماغ دايمون، لكن الاستجواب كان يبني خيالات في عقله، وبمرور ما يكفي من الوقت والتعب، لم يعد يفرق بين الخيال والذكرى، ولولا اختبار الـ«DNA» الذي أثبت براءته لكان سيدفع ثمن جريمة لم يرتكبها.
الأمر نفسه حدث مع «داريل باركر»، الذي عاد إلى بيته في أحد أيام ديسمبر 1955 ليجد زوجته ميتة في فراشهما. أبلغ الرجل الشرطة فأخضعوه للاستجواب، وتحت الضغط اعترف فعلًا بأنه قتل زوجته، وقضى 15 عامًا في السجن، وبعد خروجه بفترة طويلة اعترف شخص آخر بأنه القاتل، لكن ذاكرة باركر كانت متأكدة مِن أنه مَن فعلها.
قد يهمك أيضًا: التطور والواقع: هل نرى ما نرى فعلًا؟
6- التحيز: لا أذكر إلا ما أرتاح إليه
قد يتأثر تخزين المعلومات أو استدعاؤها بالمعتقدات والمعارف الشخصية، وحتى بالمزاج.
7- الإلحاح: أنساك، ده كلام؟
هل تتذكر شيئًا أنت في حاجة إلى نسيانه؟ تلك الذكرى التي تطاردك، والتي غنت لها أم كلثوم «أنساك؟».
الخطيئة التي تعيش معها «جيل برايس» في مقطع الفيديو بالأعلى، تلك السيدة الأربعينية التي لا تنسيى شيئًا: المرة الأولى لكل شيء في حياتها، وآخر مرة رأت فيها زوجها قبل أن يموت. كيف يمكن لشخص أن يعيش بكل ذكرياته؟
هل أنت فعلًا محصلة ذكرياتك؟
أتذكَّر فيلم تحريك قصيرًا اسمه «Tusk»، يحكي قصة حيوان ماموث تجمَّد في الماضي ثم أخرجوه من الجليد وأعادوه إلى الحياة، لكنه لم يقدر على تذكُّر أي شيء من الماضي المتجمد في ذاكرته، فعاد ليدفن نفسه في الثلج مرةً أخرى ليهرب إلى ما يعرف من ذكريات، ليحبس نفسه في الذكرى الوحيدة التي يملكها، أو ربما ليعود إلى نفسه الوحيدة التي يعرفها.
قد يعجبك أيضًا: هل يمكن لدماغ الإنسان تجاوز المستحيل؟
نسمع المقولة التي تتردد كثيرًا: «ما نحن إلا محصلة ذكرياتنا وخبراتنا»، لكن هل ما نحن فعلًا إلا ذكرياتنا؟
يسأل الباحث في علم الأعصاب «بوبي كاستوري» هذا السؤال لعدة أشخاص، ويشرح ببساطة فكرة «الكونكتوم»، فكرة وجود خريطة تمثل كل النشاط العصبي في دماغك، ذكرياتك كلها وشخصيتك ومشاعرك. إذا استطعنا وضع خريطة دماغك هذه في حاسوب، فهل يصبح الحاسوب أنت؟