هكذا كان طريقي من الصمت إلى الهتاف

مظاهرة في ميدان التحرير 2012 - الصورة: Mosa'ab Elshamy

رزان محمود
نشر في 2017/05/13

هذه هي المراحل الأربعة التي يجب عليَّ أن أعبرها جميعًا، وأقابل كل وحوشها وأهزمها، قبل أن أصل إلى الخلاص: نتيجة السعي، التصالح مع النفس، تقبُّل النفس كما هي، أن أصبح «أميرة» نفسي وأنا من يدير شؤون حياتي، لا الآخرين.

يا صديقي اسمعني أرجوك، تعالَ لآخذ من وقتك كثيرًا وأُسمِعك حكايتي. أحتاج إلى الحكي وأحتاج لمن ينصت إليَّ، ربما هزَّات رأس من وقت إلى آخر، أو دموع تتكوَّن، أو انفعال مكتوم، لكن لا تقاطعني، رجاءً ومحبة.

في المرحلة الأولى: كنت اقترب للناس وأمد يديَّ إليهم، بشروطهم لا بشروطي، أنفذ رغباتهم لا رغباتي، أعبِّر عمَّا يودون سماعه، ما يختارون قبوله، وينفون ويُقصون وينبذون كل ما عداه.

نعم، عزيزي، أنا جربت الرفض والإقصاء والنبذ، حتى اخترت مجبرةً أن أخفي وجهي، أدفن رأيي، أشوِّه ملامحي، لأحظى بالقبول والرضا  والترحيب الاجتماعي.

انتظر، أنا لست بهذا الإبهام، سأشرح لك:

يقول طبيبي النفسي الذي يعمل معي متبعًا خطوات «العلاج بالتعرُّض السردي»، بعدما حكيت له في جلستين متتابعتين عن أشياء ما: «ألم تري النمط الذي تتبعه القصص التي تحكين عنها؟».

- لا.. ماذا تقصد؟

الرفض.. أَلَمُ الرفض. حكيتِ عن رفض الأبوين لكِ، عن حبهما المشروط: بنجاحك وتفوقك، بصوتك المنخفض، بإقصائك عن الركض بدعوى أنكِ فتاة، والكثير من الأشياء، ثم اختفاء ذلك الحب أصلًا، أو أنه لم يعد يفي باحتياجاتك.

كبرتِ وليس لديكِ دائرة دعم من الأهل: الأبوين والإخوة، أقرب العشيرة والحياة الاجتماعية وأولها. انضممتِ إلى المدرسة الابتدائية في البلد الغريبة عن بلدكِ الأم فنمَّطوكِ: فرضوا عليكِ رؤيتهم هُمْ عن بلدك، وبحكم تشددهم وأوهامهم عن التفوق الذاتي النابع من تشددهم الديني، حكموا عليكِ بأنكِ أقل منهم، غير مؤهلة لصحبتهم.

- نعم.. لم يكن لديَّ سوى صديقتين، اختفتا بالسفر إلى بلديهما.  واحدة عادت بعد الحرب الأهلية في بلدها لتصبح شخصًا آخر، ولتختفي من حياتي ثانيةً بسفري أنا هذه المرة دون عودة، ولم يتسنَّ لي توديعها قبل الرحيل.

استوطنتْ أحلامي في النوم واليقظة، كتبتُ لها كثيرًا جدًّا، وعندما اخترعوا فيسبوك بحثت عنها دون توقف. كدتُ أصير كمن قرأتُ عنهم يومًا: يرسلون أسماءً وأحوالًا ورسائل في برنامج «أبناؤنا في الغربة» أو ما يماثله في لبنان. أو صرتُ، لمَّا كبرت أكثر وقرأت، مثل «رون ويزلي»، الذي ينصت إلى الراديو كل يوم ليعرف أيًّا من أهله مات أو احتجزه أتباع «فولدمورت».

أنت لا تعرف بقية الحكاية:

عُدت إلى مصر، انضممت إلى المدرسة الإعدادية.

لم يرحِّب بي أحد، لم يحبني أحد ولم يمدَّ أحد يده إليَّ، سوى واحدة فقط، خجول جدًّا، لها صديقة اجتماعية جدًّا وذات شخصية كاسحة ومنفتحة على كل شيء، لها آراء قاطعة في كل شيء، بينما أنا وصديقتي الجديدة «نون» نخشى فتح أفواهنا لأننا نعتقد بخطأ كل ما نقول، لأننا ضُربنا كثيرًا ونحن بعدُ صغار جدًّا، كلما أخطأنا في شيء، فصار الإعلان عن آرائنا مرتبطًا بالأذى الجسماني والنفسي.

صرنا أكثر صمتًا.

رأتني أقرأ تحت طاولة الفصل في إحدى الحصص الخالية. كنت قبلها أسأل كل زميلات الفصل: هل تقرأن «رجل المستحيل» أو «ملف المستقبل»؟ وكنَّ يهززن أكتافهن باستخفاف، أو يجِبن بلا، أو يُدِرن ظهورهن عني، أو ينطلقن في السخرية مني ومن طريقة نطقي للكلمات، كعادتهن.

اقتربت هي منِّي في يوم، وقالت بصوت منخفض: «هل جربتِ ما وراء الطبيعة؟»، رددت بأن لا، لكني على استعداد للتجربة. أعارتني «أسطورة الجاثوم»، التي أصابتني بمغص شديد في معدتي: كانت تحكي عن شخص يأكل جثث الموتى ليزداد حكمة.

كرهتها جدًّا وارتعبت منها، طلبت من «نون» أن لا تأتيني بالمزيد. جاءتني بقصة لا أذكرها من سلسلة «فانتازيا» التي أحببتها جدًّا. صرنا أنا و«نون» صديقتين من ساعتها، لأكثر من 18 عامًا الآن، في السرَّاء والضرَّاء، على الحلوة والمُرَّة، نحب بعضنا ونقبلها كما هي.  

يُقال إن مجتمع الصغار يمارس على الأصغر منه أو الأضعف أنواعًا من العنف لا محدودة، أنواعًا تماثل ما رآه ذلك المجتمع أساسًا ومورس عليه. فلو أتى شخص من بيت يستخدم العنف الجسماني واللفظي في «تربية» وتعنيف الأبناء، سيمارس نفس التمرُّد والتنمُّر على الأضعف منه في المدرسة والنادي والشارع، والبراح الذي يلعب فيه بالكرة أو الدراجة.

في الصف الثاني الإعدادي، لا أنساها، اجتمعت عليَّ فتاتان وأصرَّتا على رؤية ساقيَّ أسفل الجيبة/التنورة. ما المثير في ساقين عاديتين أسفل تنورة واسعة غير مكوية جيدًا، لأن أمي الطبيبة غير متفرغة للكيِّ؟

كانتا تضحكان بشدة وهما ترفعان أطراف التنورة وأنا أقاوم وأخفضها. ظلَّتا تحاولان وتزدادان عنفًا، وأنا تخور قواي. لم يهُبَّ لنجدتي أحد، لم يدافع عني أحد، لم تقُل إحدى الطالبات المتزعمات الاتجاه الديني التشددي شيئًا، كلهن شاهدن وصمتن. أعتقد أن هذه هي المشكلة: لم يدافع عني أحد.

كنت وحدي تمامًا وظهري إلى الحائط. كلا، حتى الحائط انتزعوه، وحدي تمامًا وظهري عارٍ. منذ صغري وأنا ظهري عارٍ.

مؤخرًا جدًّا، تحدث أحد أصدقائي الأعزاء جدًّا، في تدوينة أتت مختلطة مثل اختلاط أفكاره في ذهنه: «11:25. قاعة الانتظار خارج غرفة العمليات. أبي بالداخل»، وهو خائف تمامًا، خائف من الفقد. كدتُ أسأله: «هل تحب أباك؟»، لكني أحجمت لأن الوقت لا يسمح، ولا مراعاة الآداب العامة مع صديق في مِحنة.

لم أسأله حتى الآن، لكن، كيف يشعر من يحب أباه؟ يعني، ما الإحساس بالضبط؟ ضَمَّة في منتصف الصدر، حيث الخواء الدائم الذي لا يمتلئ بالشوكولاتة أو القراءة الدائمة  أو الاستغراق في أحلام اليقظة بالهروب؟ هل يشبه الشبَع بعد حضن حقيقي؟ هل هو مثل دفءِ كوب القهوة الصباحية في فنجان مزخرف، من يدٍ تحبك جدًّا؟ هل لا يشبه نظرة «لكنكِ لا تستحقين» بعد كل زيارة إلى البحر، وكانت زيارات معدودة؟ هل يشبه الأمان، مثلًا؟ والأهم، هل يُشعر بأن ظهرك جيد التغطية، وأنك مهما حدث لك، آمن؟

هل لم تشعر بعد بأنك تحت القصف؟ هل لا تتردد في ذهنك أصوات لطلقات رصاص متتابعة، لم تسمعها في الحقيقة، لكنها تشبه إحساسك تمامًا؟ هل لم تَعُدَّ نفسك بعد «ضحية حرب»؟ أنت محظوظ إذًا. أنا أعُدُّ نفسي ضحية حروب كثيرة، خسرتها كلها.

...

وصلت إلى الثانوية. أنا وصديقتي الخجول دخلنا القسم الأدبي، بينما صديقتها ذات الكاريزما الساحقة دخلت القسم العلمي بالطبع، لأن أهلها يريدون لها الالتحاق بكلية الطب، وهي كلية «قمة» في مجتمعنا. انضمت صديقة جديدة إلى الفريق العلمي، فأصبحنا نحن الأربعة نتلاقى في الفُسحة/وقت الراحة بين الحصص.

كنت أتحدث ولا يردُّون عليَّ، ألقي النكات ولا أحد يضحك، إلى أن جاءتني «نون» في وقت ما، وقالت بصوت حاولت تجميعه، وبكياسة شديدة: «صديقتاي الأخريان لا تحبان قضاء الوقت معكِ. أرجو أن لا تلحقي بنا في الفُسحة ثانيةً»، وأنا صَمَتُّ، صَمَتُّ تمامًا، وتركت الأمر يمضي دون اعتراض.

ذهبت إلى المكتبة. صارت المكتبة ملجئي طَوَال سنوات الثانوي، قرأت كل شيء أدبي فيها، لكن أكثر ما علق بذاكرتي كانت ترجمة رواية «البؤساء» التي كتبها «فكتور هوغو». لا أذكر منها شيئًا الآن سوى أن «كوزيت» ماتت، وأني بكيت كثيرًا سرًّا. من هي كوزيت؟ ولماذا ماتت؟ لا أدري، وليس بي صبر الآن على قراءتها ثانيةً أو مشاهدة فيلمها.

اعتذرت لي «نون» عن هذا الموقف بعدها بعشر سنوات كاملة. لا أحمل نحوها ضغينة الآن، الآن نحن صديقتان متساويتان في الحقوق والواجبات، وهي أقرب الناس إليَّ، وآمل أن نظلَّ كذلك إلى آخر العمر.

...

تكرر نفس النمط في الجامعة، لكن الفارق هذه المرة كان الانضمام إلى مجموعة كبيرة من البنات. كنا 13 بنتًا، ولا أولاد في جامعتنا إلا قلة قليلة جدًّا، والصمت. أنا والصمت، أنا وكتمان الرأي، أنا والانبهار بالأخريات ومحاولة أن أصبح مثلهن، أنا والتعبير عن نفسي بالكتابة  على مدونة اخترعتها في إبريل 2006، سرية جدًّا خشية أن يراها الأهل، لكني أعطيتها إلى الصحاب، الذين لم يهتموا كثيرًا بها، وصارت مشهورة عند أربعة فقط من أصدقائي الآخرين.

من هم الآخرون؟ أصدقاء منتدى أدبي يُدعى «روايات.نت»، يضم محبي الروايات الصغيرة من السلاسل التي تنتجها المؤسسة العربية الحديثة في القاهرة، مثل «ما وراء الطبيعة» وغيرها. هؤلاء كانت معهم الحياة الاجتماعية الحقيقية.

أقول انقسمت، أقول صرت اثنتين: واحدة صامتة جدًّا في الكلية لا تقول رأيها إلا نادرًا، وعندما تعلن عنه إما تقابَل بالصمت أو السخرية، وقليلًا ما تصادِف توافقًا في الهوى مع صديقة منهن، وأخرى تكتب كثيرًا وسرًّا  على مدونتها، وتتابع ما يكتبه الآخرون في صمت على المنتدى، وإن منحتهم بعض الإعجاب والكثير من الموافقة.

...

ما الذي حدث، إذًا؟

نقطة النور، نقطة الانبثاق، التحول من شرنقة إلى كائن يُرى ويُسمَع، كسر الظُّلمة، النقطة التي لم أتراجع عنها، ولم أندم عليها: 28 يناير 2011.

قبل تلك الفترة كنت أتابع دعوات الصفحات المختلفة على فيسبوك للتظاهر السلمي في يوم الإجازة، عيد الشرطة، 25 يناير. صمَّمت بداخلي على الاشتراك، لم أقُل لأحد من أهلي، لا أحد يعرف شيئًا، لكني صمَّمت على النزول والعودة سالمةً، والمُضيِّ بحياتي كأني لم أرتكب كبيرةً في نظرهم.

ماذا حدث؟

توفيت جدتي التي كانت مقيمة لدينا في المنزل، في غرفة تحولت إلى وحدة عناية مركزة مرتجَلَة، في فجر 24 يناير. أحاطنا المعزُّون وأصبح التليفزيون من المحرَّمات. قطعوا الإنترنت فلم يُجدِ أي سرقة للوقت. بكيتها كثيرًا يوم الخميس، 27 يناير، الخميس الأول على دفنها، وأول زيارة لي في مكانها هناك إلى جوار أختها، وآخر زيارة أيضًا. لكني صممت: سأنزل الجمعة، لو استمرت المظاهرات سأنزل.

نزلت. تمشيت. خرجت من وراء الأهل. الشوارع خالية. كذبت على أمي للنزول، اصطحبت «نون» ونزلنا، مشينا.. حدثت المعجزة: هتفنا.

أنا، هتفت.. أنا، وجدت صوتي، أنا قلت أشياء كانت في داخلي محبوسة، أنا جمعت كل سنوات الصمت وطأطأة الرأس وهتفت، صرخت، صرخت كثيرًا بكلمات مفهومة، ثم بضوضاء غير واضحة، حتى قلق عليَّ من كان بجواري: أسرة لطيفة من أب وأم وطفلين، ابتسمت لهم فضحكوا وأكملنا مسيرتنا.

انتهت اللقطة هنا بالنسبة لي. لم يهمني ما حدث بعدها، لم يهمني أني أفلَتُّ من موت محقق بأعجوبة، وأني كنت وحدي تمامًا على آخر المسيرة، وأن الغاز أصابني بحساسية في الصدر لم أُشفَ منها إلا بعدها بسنوات.

لم يهمني أن أمي استقبلتني على أول شارع بيتنا بالضرب والصراخ والشتائم، لم يهمني أنها صفعتني، وأنا أطول منها ولديَّ 25 عامًا. عندما دخلت لأستحم من الغاز والدخان، حرقني جلدي جدًّا، دعكته أكثر بالصابون فدخل في عينيَّ، حرقتني عيناي أكثر، لم أهتم، ابتسمت جدًّا  ودمعت كثيرًا: أنا حرَّة، أنا صوتي خرج، أنا، بيني وبين نفسي، أصبح صوتي مسموعًا.

...

لا يهمُّ الآن أني، وبعد سبع سنوات على هذه الواقعة، ما زلت أحارب ليصبح صوتي مسموعًا في البيت. لا يهمُّ سوى أنني مصممة تمامًا على أن أفعل ما أنا مؤمنة به، على أن أكمل طريقي أنا، لا طريقًا اختاره شخص آخر.

أنتزع حرياتي واحدةً بعد الأخرى، أعبِّر عن رأيي بصراحة، والأهم: لم أعد أنتظر من والديَّ الموافقة. لا أريد عطفهما عليَّ، لا أريد تفضُّلًا بأموال أو ملابس أو ذهب، لا أتمنى في داخلي أن يحضناني كطفلة ضائعة، لم أعد أصدق أن الله يعمل لدى أمي وتحت إشارتها: لو غضبتْ عليَّ فحتمًا سأذهب إلى الجحيم، مهما كنت ضعيفة أو مغبونة الحق أو لا أعرف شيئًا أو لم أقصد الأذى.

...

أنا الآن في المرحلة الثانية من العلاج: مرحلة الغضب الشديد، مرحلة أني رأيت ما كان يحدث لي وبي طَوَال سنوات عمري الماضية، رأيت الظلم والتجاهل وهضم الحق، رأيت الإهمال والعنف، رأيت كل شيء، وأصابني غضب عارم، مدمِّر، لا يريد شيئًا سوى الانتقام.

...

يقول طبيبي  اللطيف إنني عندما أصل إلى المرحلة الثالثة سأبني حائطًا من مهاراتي أنا، حائط الثقة بالنفس ومعرفة ما المهارات التي أبرع فيها تحديدًا، ما يمكنني الركون إليه.

عندها، سأطلع إلى الرابعة، التي يمكنني فيها الاقتراب من الناس ثانيةً، بناء شبكة اجتماعية على أساس سليم: أن يقبلوني كما أنا، كما أنا، تحديدًا، ليس كما يريدون هُم،  ليس كما يريدون أن يحشروني في قوالب جاهزة في رؤوسهم، وأن أتَّبع ما وجدوا هُم عليه آباءهم.

هذه هي مرحلة الشفاء الكامل، المعافاة، مواجهة الحياة بثقة في النفس وصدر مفرود، أحمي أنا ظهري وأغطيه. سأصل إليها، لأني عازمة جدًّا على ذلك، ولن أضعف، ولن أستسلم.

 

مواضيع مشابهة