من كان يتصور أن الفئران والكلاب تستطيع الكشف عن الإصابات البشرية ببعض الأمراض؟ والأكثر من ذلك أنها أحيانًا تتفوق على أجهزة طبية متطورة، ويُحتمل أن يصبح استخدامها روتينًا طبيًا معتمدًا ومعترفًا به على نحو أوسع في السنوات المقبلة.
يستكشف مقال نشر على موقع «ذي أتلانتيك» الجوانب المختلفة لهذا الاستغلال الذكي لمهارات الحيوانات.
الفئران تكشف الإصابة بالسل في تنزانيا
تُستخدم إحدى فصائل الفئران الضخمة التي تنحدر من منطقة جنوب الصحراء الكبرى بأفريقيا، في إطار برنامج للكشف عن حالات الإصابة البشرية بالسل في مدينة موروجورو غرب دار السلام، أكبر مدن تنزانيا.
السل مرض يمكنه تدمير الرئتين، وتُشخص 9 ملايين حالة سنويًا بالمرض في أنحاء العالم المختلفة، ربعها من نصيب أفريقيا وحدها، وتسجل أفريقيا إضافة لذلك أعلى معدلات الوفيات بالمرض نفسه. تستطيع المضادات الحيوية القضاء على السل، غير أنه يصبح مميتًا إذا ترك دون علاج.
الكثير من حالات الإصابة بالسل في أفريقيا لا تُشخص، ويعود ذلك جزئيًا إلى اعتماد تنزانيا وغيرها من الدول الفقيرة على طرق قديمة لا تكشف سوى 60 بالمائة من الحالات، تنخفض إلى 20 بالمائة فقط إذا كان المريض مصابًا أيضًا بفيروس نقص المناعة المكتسبة (HIV).
اقرأ أيضًا: ما ﻻ تعرفه عن تحكم الجهاز المناعي في سلوكك الاجتماعي
تشم الفئران المدرَّبة عينات من بصاق المرضى المشتبه في إصابتهم بالسل، وتخطئ أحيانًا، غير أنها تكتشف نحو 70 بالمائة من الحالات، ولا تكون إصابة الشخص بفيروس نقص المناعة المكتسبة حائلًا دون كشف الفئران عن السل.
تضرب كاتبة المقال مثالًا حيًا، فتقول إن أحد الفئران المدربة عُرضت عليه 100 عينة، ولم يخطئ سوى في واحدة كانت العيادة العامة قد اعتبرتها عينة مصابة، كما كشف عن 12 حالة محتملة الإصابة لتخضع بعدها لفحص تالٍ للتأكيد، ثم استُخدم فأر آخر، فتعرَّف على 8 من أصل 10 حالات كانت العيادة كشفت إصابتها بالسل، وكشف عن احتمال إصابة 15 حالة إضافية.
هل أنوف الحيوانات أمهر من التقنيات الحديثة؟
كتب طبيبان عن مريضة ظل كلبها يتشمم شامة في ساقها، وبعد أن استشارت الطبيب اكتشف ورمًا جلديًا خبيثًا سمكه ملليمترين في الموضع الذي كان الكلب يشمه.
تستخدم حيوانات أخرى، معظمها يكون كلابًا، بشكل تجريبي للكشف عن الإصابات البشرية بالأمراض حول العالم، وتمثل تنزانيا الحالة الوحيدة التي يستخدم فيها حيوان بصورة روتينية للكشف عن الأمراض، ومع هذا، ما زال الكثير من الأطباء يشككون في جدوى استخدام الحيوانات كبديل للأجهزة الطبية، حسب «كريستوف كوكس»، المدير التنفيذي لمنظمة «أبوبو» البلجيكية التي تقف وراء مشروع استخدام الفئران في الكشف عن السل في تنزانيا.
ولكن هذه الفئران لها الفضل في إنقاذ الأرواح بصفة يومية، بل إن البعض يرى أن الوقت قد حان لاستخدام الكلاب بنفس الطريقة.
في عام 1989، كتب طبيبان جلديان في دورية «ذا لانسيت» الطبية عن حالة مريضة ظل كلبها مصرًا على تشمم شامة في ساقها، حتى وصل الأمر أن حاول عضها بأسنانه، ما دفع السيدة إلى استشارة الطبيب الذي اكتشف ورمًا جلديًا خبيثًا سمكه ملليمترين في الموضع الذي كان الكلب يشمه، واستأصله.
وفي حالة ثانية نشرتها نفس الدورية في 2001، كشف طبيب بريطاني وزميله عن حالة مريض ظل كلبه يحك بأنفه منطقة خشنة في ساق صاحبه كانت قد شُخصت سابقا على أنها إكزيما (التهاب في طبقات الجلد العليا). كرر المريض زيارته للطبيب الذي أعاد تشخيص الحالة على أنها ورم في الخلايا القاعدية، واستأصله.
مثلت تلك الحالات الإرهاصات الأولى لاستخدام الكلاب في رصد حالات الإصابة بالسرطان، ولكن فكرة استخدام روائح النفس والبول والبراز في تشخيص الأمراض تعود إلى آلاف السنين، فيقال إنه في عصر أبقراط، الملقب بأبي الطب، كان الأطباء يطلبون من المرضى أن يسعلوا ويبصقوا على الفحم الساخن لاستصدار روائح تمكنهم من تشخيص المرض.
حينما يسعل مريض السل، تخرج من فمه مركبات معينة ذات رائحة مميزة يمكن حتى للبشر تمييزها، وفي عام 2002، وقتما كانت أبحاث استخدام الكلاب في الكشف عن السرطان في مراحلها الأولى، تساءل «بارت فيتنز»، وكان مصمم منتجات سابق، عن إمكانية استخدام الفئران الأفريقية في رصد حالات السل.
وبحسب المقال، كان فيتنز يعلم أن للسل رائحة مميزة، كما كان يعلم بامتلاك الفئران حاسة شم فائقة، وكان يعرف كيف يدربها.
كيف تُدرب الفئران على رصد حالات السل؟
تتضمن المرحلة الأولى لتدريب الفئران تعويدها على المدربين، فتؤخذ الفئران للتدريب وعمرها خمسة أسابيع، أما في المرحلة الثانية فتقدم للفئران عينة مصابة بالسل لتشمها ثم يرن الجرس معلنًا حصولها على الطعام، فيقترن لديها رصد حالة مصابة بالسل برنين الجرس والفوز بالطعام.
ويستغرق الأمر نحو تسعة أشهر لإتمام تدريب فأر واحد، وعندما يغلب الاعتقاد بأن الفأر بات جاهزًا، تقدم له 30 عينة، تكون ثمانية منها مصابة بالسل، فإذا نجح في التعرف على سبع عينات صحيحة دون أخطاء أو على ثماني حالات إحداها فقط خاطئة، اعتُبر جاهزًا للعمل.
ويستمر التدريب في أثناء الممارسة، وترسل العيادات العامة المشاركة في برنامج أبوبو العلاجي نصف عينات البصاق التي أخذتها من الحالات المشتبه بها، ومعها نتائج اختبارات الفحص المجهري، وتقول منظمة أبوبو إن العينات التي ترسلها العيادات على أنها إيجابية تكون عادةً مصابةً فعلًا، ولكن المشكلة الرئيسية تكمن في الحالات التي تُفلت من التشخيص المجهري.
يستخدم فأران على الأقل في شم العينات التي اعتبرتها العيادات سلبية، فإذا وجد أحدهما عينة إيجابية، يُعاد فحصها باستخدام تقنية أكثر تطورًا وباستخدام مجهر أدق من المستخدم في العيادات، فإذا أيد الفحص الجديد رأي الفأر، تعتبر العينة إيجابية فعلا وتبلَّغ بها العيادة المعنية.
ويقوم فريق من المتطوعين لدى أبوبو بمتابعة حالة المرضى للتأكد من استكمالهم العلاج، وفي حالة مثل الطفل كلاودي، تقول مايبا، إحدى المتطوعات لدى البرنامج: «جاءت نتائج التحليل المجهري سلبية، ولكن فحص الفئران كشف عن إصابته بالسل وهو ما أكدته المزيد من الاختبارات المعملية».
اليوم شُفي الطفل من المرض وانتظم في دراسته.
الفئران بديلًا عن الأجهزة الباهظة
تقول «هيلين ماكشين»، المتخصصة في دراسات السل في أفريقيا والأستاذة بجامعة أكسفورد، إن هناك حاجة ملحة إلى طرق أفضل لرصد حالات السل التي يتوطنها المرض في أفريقيا، وينبغي أن تتمتع تلك الأساليب الجديدة بالدقة والسرعة، أو أن تجمع بين الميزتين معًا دون أن تستنزف الموارد، بنفس الدرجة الكفاءة التي يحققها استخدام الفئران. تقوم الحاجة إلى طريقة عالية الحساسية والتحديد بحيث لا ترصد حالات غير مريضة دون داعٍ، حسب ماكشين.
استخدام الفئران في الكشف عن السل وسيلة سريعة وقليلة التكاليف بالنسبة للدول النامية.
هناك تقنية تسمى جين إكسبرت (GeneXpert) تعتمد على تحليل الحمض النووي (DNA) في الكشف عن حالات السل، وتمتاز بحساسية ودقة بالغتين، ولنتائج مثالية ينبغي استخدام هذه التقنية أو ميكروسكوب بتقنية إضاءة ليد (Microscopy LED).
لكن كلتا التقنيتين غالية وبطيئة، وفي حين يستطيع فأر واحد لا يتكلف تدريبه سوى 6,500 دولار أن يشم 100 عينة في عشرين دقيقة، يستغرق GeneXpert، الذي يبلغ سعره 17,000 دولار، ساعتين كاملتين لتحليل عينة واحدة، بينما لا يتكلف الأمر سوى دولارٍ واحدٍ ليفحص الفأر العينة نفسها.
لا يحقق استخدام الفئران الحساسية والدقة معًا، حسب كوكس، وإن كان يمكن تحسين درجة الحساسية باستخدام المزيد من الفئران لشم العينة نفسها، ولكن هذا من شأنه أن يؤثر في معيار الدقة، والعكس صحيح. ولكنه يرى مع هذا أن استخدام الفئران وسيلة سريعة وقليلة التكاليف بالنسبة للدول النامية، وفق المقال.
الكلاب تكشف عن السرطان
إضافة للفئران، تستطيع الكلاب كذلك أن تقدم لنا المساعدة الطبية.
كانت «كلير غيست» تمتلك كلبًا من فصيلة لابرادور، عندما شرعت في دراسة حول استخدام الكلاب في الكشف عن سرطان الثدي في 2009. بدأت كلبتها تتصرف في هذا الوقت على نحو غريب، حتى أنها تعمَّدت في إحدى المرات أن تضربها على صدرها، وعندها توجهت غيست إلى الطبيب، وبعد سلسلة من الاختبارات تبين إصابتها بورم في الثدي.
في ذلك الوقت كانت غيست قد أمضت عامًا واحدًا بصفتها المدير التنفيذي لجمعية كلاب الكشف الطبي، وتستهدف جمعيتها، التي يقع مقرها في المملكة المتحدة، تدريب الكلاب على مساعدة ملاكها، كي تتمكن من شم معدلات سكر الدم المنخفضة لدى مرضى السكري فتنبههم عن طريق قرع جرس، وتساعد المصابين بمتلازمة تسارع معدل ضربات القلب الانتصابي (التي لا يتحمل المريض بها الوقوف طويلًا) فتوجههم إلى تغيير وضع الجسم، وبذلك تنقذ أرواحًا.
تعد غيست حاليًا واحدة من رواد البحث في مجال استخدام الكلاب في الكشف عن السرطان، حسب المقال، ونجحت مع فريقها في نشر سلسلة من الأبحاث التي تظهر قدرة الكلاب على شم السرطان، موضحة أن المزيد من التدريب من شأنه أن يحسن أداء الكلاب بصورة كبيرة.
وتتفق أبحاث أخرى مع ذلك الرأي، فترى أن الكلاب تستطيع شم سرطان المثانة، والقولون والمستقيم، والمبيض والبروستاتا، ويشير بحث إيطالي إلى أن الكلاب تنجح بنسبة 98 بالمائة في تحديد عينات البول التي تدل على إصابة صاحبها بسرطان البروستاتا.
ماذا تشم الكلاب والفئران؟
الهدف النهائي لاستخدام الكلاب في الكشف عن السرطان هو معرفة إن كان للسرطانات البشرية رائحة مميزة لتطوير «أنف إلكتروني» يكتشف المرض في مراحل مبكرة.
لا أحد يعرف على وجه الدقة ما تشمه الكلاب ويساعدها في الكشف عن الأمراض، ولكن بعض الأبحاث تظهر أن التغيرات التي تطرأ على عمليات التمثيل الغذائي (التفاعلات الكيميائية التي تجري في الخلايا) بسبب الإصابة بالسرطان تغير كذلك في نمط الكيماويات العضوية التي تفرزها الخلايا، ويبدو أن الكلاب تستطيع تمييز هذا.
قد يعجبك أيضًا: لماذا علينا أن نعيد تعريف «الشفاء» من السرطان؟
منذ عشرة أعوام، كان الأطباء يشككون كثيرًا في إمكانية استخدام الكلاب للكشف عن السرطان، حسب غيست، وما زال الكثيرون غير مقتنعين، خصوصًا أنه لم تحدد بعد ماهية المركبات التي يشمها الكلاب، ولكن الأبحاث المستمرة بدأت تغير هذه الآراء.
تقول غيست إنها تتلقى أسبوعيًا اتصالات من مجموعات ترغب في استخدام كلابها المدربة في أبحاث للكشف عن أمراض عدة، مثل الشلل الرعاش.
وتحكي غيست أنها كانت تدافع في البداية عن استخدام الكلاب في الكشف عن الأمراض، قائلة إن هدفها هو معرفة ما إن كانت السرطانات البشرية لها رائحة مميزة، موضحة أن الهدف النهائي هو تطوير «أنف إلكتروني» للكشف عن السرطان، وعندها يخرج الكلاب من المعادلة. وهي تؤمن حقًا بأن هذا الهدف سيتحقق يوما، غير أنها تدافع بشراسة عن استخدام الكلاب حتى ذلك الحين.
أما مغودي، المسؤول عن برنامج الفئران، فيقول إنه على عكس الحال مع الكلاب، فإن ما تشمه الفئران معروف، فقد كشفت دراساته أن الفئران تشم خليطًا من ستة مركبات عضوية طيارة تصدرها البكتيريا المسببة للسل، وتستطيع الفئران شمها حتى لو كانت صادرة بكميات بسيطة، ما يمكنها من رصد السل حتى لدى المصابين بفيروس نقص المناعة المكتسبة، الذين تدخل أجسامهم كمية بسيطة فقط من بكتيريا السل، يكون رصدها بالمجهر صعبًا.
وتستطيع الفئران شم روائح البكتيريا المسببة للسل حتى لو عجزت الأجهزة المعملية عن رصدها أحيانًا، فقد يرصد 11 فأرًا بكتيريا السل التي لا يراها مجهر LED المتطور، حسب مغودي، الذي يقول إن هذه تكون حالة إصابة واضحة بالمرض، غير أنه لا يمكنه تسجيلها في التقرير الطبي نظرًا للحاجة إلى استيفاء الأسلوب التقليدي المعتمد طبيًا.
نجاح ورغبة في التوسع تواجهه عقبات
إذا تمكنت الفئران من رصد حالات الإصابة بالسل في مراحله المبكرة قبل أي وسيلة أخرى، سيساعد ذلك في تقليل فرص العدوى وانتشار المرض، ولكن الهدف في الوقت الحالي هو الإسراع بالنتائج والتوسع في المشروع، وفق المقال.
بدأ المشروع بأربع عيادات، واليوم ترسل 25 عيادة عيناتها لتفحصها الفئران، وقد بدأ مشروع مماثل على نطاق أصغر في موزمبيق، تستخدم فيه فئران دُربت في تنزانيا.
في عام 2015، فحصت الفئران أكثر من أربعين ألف عينة، وكشفت إصابة ما يزيد على 9 آلاف شخص كانت العيادات ستعتبرهم أصحاء، وقد رفع استخدام الفئران من سرعة الكشف عن السل بين السكان الذين يشملهم المشروع بنسبة 40 بالمائة، وتجرى حاليًا مشاورات لإقامة برنامج مماثل في إثيوبيا.
وتهدف أبوبو إلى نقل نظام الكشف بالفئران من موروغورو إلى دار السلام، حيث سيمكن ذلك من إرسال نتائج كشف الفئران إلى العيادات في نفس الوقت الذي يحصل فيه المرضى على نتائج الفحص المجهري وليس بعدها، حسب مغودي.
يشكو القائمون على برنامج الفئران رغم ذلك من نقص التمويل، فهو يعتمد أساسًا على التبرعات من الحكومات وقطاع الأعمال وعوائد من مبادرات «لتبني فئران»، وبالمثل تعاني أبحاث استخدام الكلاب في الكشف عن الأمراض من قلة التمويل، حسب غيست.
وتعتبر غيست نجاح مشروع الفئران ملهمًا، وترى السنوات الثلاث المقبلة فاصلة في مسألة استخدام الكلاب للكشف عن الأمراض.
بعض الحيوانات تنقذ عددًا هائلًا من الأرواح كل يوم، وربما أتى يوم نعتمد فيه اعتمادًا كاملًا عليها للكشف عن كثير من الأمراض، وربما تكون لتربية الحيوانات الأليفة فوائد تتعدى بكثير الرغبة في الائتناس بها.