ثيودور أدورنو: هل نحن أحرار في تفضيلاتنا الجمالية؟

ثيودور أدورنو - الصورة: Getty/ullstein bild

مي أشرف
نشر في 2018/05/02

وُلد الفيلسوف «ثيودور أدورنو» في عام 1903 في فرانكفورت بألمانيا، وتربى على الموسيقى كمستمع وممارس، إذ كانت والدته «ماريا كالفيللي-أدورنو» مغنية حازت شهرة معقولة. وكان أدورنو في شبابه عازف بيانو موهوبًا، فقد درس في معهد «كونسرفتوار هوش» مع الملحن النمساوي «ألبان بيرغ». وعلى الرغم من اختياره العمل بالفلسفة في جامعة فرانكفورت عام 1931، فإن الموسيقى والثقافة بتعريفها العام كانا محط اهتمامه.

ارتبط أدورنو بصلة وثيقة بعدد من أهم فلاسفة مدرسة فرانكفورت، وهي المدرسة الفلسفية التي أخذت على عاتقها تحليل علاقة الإنسان وقتها بالعالم المتغيِّر من حوله، وكيف يسيطر رأس المال عليه.

اهتم أدورنو إذًا بالثقافة من هذا المدخل، وشغله كثيرًا سؤال «ما الذي يفعله الناس في أوقات فراغهم؟»، واتخذ منه طريقًا للتحليل الاجتماعي. في هذا الموضوع نحاول استكشاف عدد من أهم أفكاره التي أثرت في كثير من المفكرين من بعده.

أدورنو: لا يثق في الجماهير

أدورنو (يمين) مع هوركايمر (يسار)

اعتقد أدورنو أن الثقافة الشعبية الرأسمالية، مثل موسيقى الجاز والسينما وأغاني البوب، تساعد على تشويه رغباتنا.

لم تكن الثقافة بالنسبة إلى ثيودور أدورنو مجرد مسألة تَقدُّم تقني (مقطوعة موسيقية أكثر جمالًا وتعقيدًا من أخرى على سبيل المثال)، بل أيضًا مسألة أخلاقية، ولو بطريقة غير مباشرة، إذ يمكنها المساعدة في تيسير أو عرقلة التقدم الاجتماعي نحو مزيد من الحرية.

كان هذا التقدم تحت التهديد في فيينا قبل الحرب العالمية الثانية، فقد رأى أدورنو علامات تدل على انهيار الثقافة الأوروبية في ذلك الوقت. الفن مرآة الحقائق الاجتماعية، وقد ظهرت في هذا الوقت أنواع منحدرة من الاتجاهات الثقافية وهيمنة الثقافة المجتمعية على الأفراد، ورأى أدورنو أن انحدار الفن بهذه الطريقة كان تعبيرًا عن الانحدار المجتمعي ذاته.

هاجر ثيودور مع معهد البحوث الاجتماعية في فرانكفورت إلى الولايات المتحدة الأمريكية، واستقر في نهاية المطاف في مدينة لوس أنجلوس عام 1941. وهناك التقى لأول مرة بـ«ميكي ماوس» وجهًا لوجه في دور السينما، وذكر بعدها في كتابه «Minima Moralia» يائسًا أن «كل زيارة للسينما، على الرغم من يقظتي، تتركني أغبى وأسوأ».

مثل كثير من المهاجرين كانت علاقة أدورنو في البداية بالثقافة الشعبية الأمريكية مرتبكة، لكن سرعان ما تحول هذا الارتباك إلى عدم ثقة. اعتقد أدورنو أن الثقافة الشعبية الرأسمالية، مثل موسيقى الجاز والسينما وأغاني البوب وما إلى ذلك، تتلاعب بنا في حياة خالية من الحرية الحقيقية، وتساعد على تشويه رغباتنا، فالثقافة الشعبية ليست تعبيرًا عفويًّا عن الشعب، بل صناعة مدفوعة بالربح، تحرمنا من حريتنا، وتُرغمنا على التوافق مع احتياجاتها من أجل المال.

على الرغم من خلفيته الماركسية، يدَّعي بعض الفلاسفة أننا يجب ألا نثق في نظريات أدورنو عن الثقافة لأنها تتمتع بكثير من الامتيازات في أثناء نشأته، بل ويراه بعضهم متعاليًا، ويُرجِع كراهيته للثقافة الشعبية ووصفها بأنها ضحلة ومُضلِّلة إلى كراهيته للجماهير الذين نظر إليهم بدونية، إذ يمكن خداعهم وتضليلهم بسهولة.

إذا صح هذا الطرح، وأن الثقافة الشعبية تُعطي صوتًا للناس العاديين، فربما لا تتسم حجج أدورنو ضد الثقافة الشعبية بنظرة ثاقبة، بل تصبح فقط نخبوية.

لا يوافق «أوين هولت»، أستاذ الفلسفة في جامعة يورك، على هذا الطرح، فهو يعتقد أن أدورنو لا يُدين الثقافة الشعبية ببساطة، ولم يكن يتوق إلى معايير الثقافة الرفيعة، فقد وجد مشكلات خطيرة في كليهما تنبع من احترامه العميق وتقديسه لفكرة المتعة. ويؤكد هولت في مقال له نُشِرَ على موقع «Aeon» أن أدورنو كان مدفوعًا باعتبارات أخلاقية.

أدورنو إذًا ليس معارضًا للمتعة، لكنه يعتقد أن تلك المتع لا تعطينا سوى نسخة خافتة من المتعة المتنكرة في زي متعة حقيقية.

قد يبدو الأمر غريبًا، لكن انتقادات أدورنو للثقافة الشعبية مدفوعة في الأساس بالرغبة في تحديد الأضرار التي تسببها وتفاديها، فالثقافة الشعبية ليست فقط فنًّا سيئًا، بل أيضًا فن ضار، فهو يقف في طريق الحرية الحقيقية.

لفهم هذا الموقف الأخلاقي يمكننا استدعاء مثال مألوف، هو ما يُطلَق عليه «المُتَع المذنبة».

نحن الآن نعمل لفترات أطول في المتوسط، نشعر بقدر أقل من الأمان الاجتماعي والنفسي، ومن أجل أموال أقل. نعيش في عالم مليء بالمشكلات الاجتماعية والسياسية التي ليس لدينا طريقة واضحة للتعامل معها أو تحسينها. وبدلًا من تخفيف المطالب التي نضع تحقيقها على عاتقنا، نحاول في وقت فراغنا المحدود أن نبتعد عن ضغوط عالمنا اليومي بتلك المتع المذنبة. وعلى الرغم من كونها غير كاملة، فإنها توفر لنا متعة مُفتَقَدة في كثير من الأحيان في حياتنا المزدحمة. فمن المفترض أن تمنحنا استمتاعًا فوريًّا أكثر من الفن الرفيع، بينما تتطلب بالتأكيد وقتًا واهتمامًا ونفقات أقل.

أدورنو إذًا ليس معارضًا للمتعة، لكنه يعتقد أن تلك المتع لا تعطينا سوى نسخة خافتة من المتعة المتنكرة في زي متعة حقيقية، تكرار متنكر في زي «الجديد»، فترة راحة قصيرة من العمل متنكرة في زي «الرفاهية».

تقدم الثقافة الشعبية نفسها كوسيلة لتحرير مشاعرنا ورغباتنا المكبوتة، وبالتالي نظن أنها تسمح لنا بقدر أكبر من الحرية. لكنها في الحقيقة تسلبنا حريتنا مرتين: مرة من الناحية الجمالية عندما تفشل في إعطاء الحرية الجمالية عن طريق التمتع بالفن، ومرة من الناحية الأخلاقية عندما تعرقل الطريق إلى الحرية الاجتماعية الحقيقية.

ماذا يعني فقدان الحرية الجمالية؟

الصورة: PIRO4D

بالنسبة إلى ثيودور أدورنو، يتعلق الأمر بالحرية في اختبار الأعمال الفنية وتفسيرها وفهمها. تتطلب هذه الحرية عملًا فنيًّا يمنحنا المساحة والوقت للعيش فيه، وجعله تجربة كاملة. ومع ذلك، فقد فقدت الثقافة الشعبية قدرتها على إنشاء هذه الوحدات المتكاملة والموحدة. وبدلًا من ذلك يجري الآن إنتاج الأعمال الفنية التي هي عبارة عن مجموعة من اللحظات الفضفاضة في سلسلة سريعة وغير متصلة.

يمكننا أن نرى كثيرًا من الأمثلة في حياتنا اليومية الآن، فقد أصبح من المعتاد أن نُثني على بعض الأفلام من أجل بعض «المَشاهد المقتطَفة» و«المؤثرات الخاصة». وعلى الرغم من أننا ألفنا مثل هذه المصطلحات، فإنها تظل غريبة. قد نُثني على فيلم لمدة ساعتين من أجل اللحظات الممتعة «باهظة الثمن» التي يتضمنها: تسلسل مطاردة، انفجار، تصميم كوريغرافي. لقد اعتدنا على تفكيك ما يجب تقديمه كشيء واحد إلى مجموعة من الأشياء الأصغر غير المتصلة.

لا يقتصر الأمر على تجربة مشاهدة الأفلام، لكن يمكننا العثور على أمثلة أيضًا في طريقة تَحَدُّثنا عنها. فعلى موقع «A.V. Club» يمكننا أن نرى قائمة بأفضل «مَشاهد» العام، وهي قائمة مأخوذة من أفلام تُشاهَد في عزلة عن الفيلم نفسه. كذلك، تقدم مجلة «Variety» أفضل «10 لقطات» في العام، أو الصور الثابتة المعزولة من الأفلام أو حتى الحركة التي تضفي عليها معنى.

عندما نشاهد الأفلام، لا نمنح أنفسنا وقتًا كافيًا للتفكير، بل نشارك في التصنيف الذي يميز عالم العمل الذي ظننا أننا هربنا منه.

يمكن تطبيق نفس الظاهرة على الموسيقى، إذ تحتوي الأغنية الناجحة على أجزاء جذابة من اللحن يُكررها الكورَس. تبدو الأغنية وكأنها صُمِّمت لإعادتها مرارًا وتكرارًا، أو حتى استخدامها بشكل متكرر في الإعلانات والموسيقى التصويرية.

يمكن التمتع بهذه الأجزاء بمعزل عن الأغنية، وفي حد ذاتها، وهناك دون شك أناس لم يسمعوا الأغنية كاملة قط. فأصبح من الممكن أن تتحلل الأغنية دون فقدان معناها، إذ يمكن سحب لحظاتها وإعادة استخدامها. والأغنية ككل مصمَّمة لإيصال التوتر والانفراج الذي يأتي مع توقع نفس الكورَس وسماعه مرة أخرى. كل شيء يُنتَج بغرض استهلاكه دون التركيز على جمالياته.

بالنسبة إلى ثيودور أدورنو يعد هذا تحريفًا وعقبة في طريق الحرية الجمالية الحقيقية، التي تتجلى في «اللعب» الممتع والحر لتوحيد الأجزاء المختلفة من العمل الفني في وحدة متكاملة. التجربة الجمالية دون تسوية أو تغيير أمر لا يمكن التنبؤ به، سلس، له بنية معقدة، مدعمة، متطورة عبر فترات زمنية طويلة.

على الناحية الأخرى تُدربنا الثقافة المصنوعة (وهو مصطلح صاغه أدورنو والفيلسوف «ماكس هوركهايمر») على التركيز على فترات متقطعة من المحتوى والزمن، ما يقلل من قدرتنا ورغبتنا في تجربة الأعمال الفنية كأشياء موحدة ومعقدة. إنها تعوِّدنا على نوع من التجربة الجمالية التي تشبه إلى حد كبير تجربة العمل التي من المفترض أن تهدف إلى إطلاق سراحنا منه، عن طريق تحققنا المستمر من مدى مطابقة العمل الفني للمعايير المسبقة.

لإيضاح هذه النقطة يمكنك التفكير في ندرة المَشاهد التي لا يكون المُشاهد فيها على دراية بوظيفتها في الفيلم.

فعلى سبيل المثال، واحد من المَشاهد سيُظهر بوضوح العلاقات التي من شأنها تأطير الأحداث القادمة، وآخر هو مشهد «آكشن»، وآخر يعطي دافعًا للشخص الشرير. فنحن عادة ما نكون مستعدين للفهم، دون وعي، وظيفة كل مشهد والوقت المتوقَّع له.

عندما يظهر المشهد الافتتاحي لفيلم، ونرى أحدهم يستيقظ في غرفة نوم فوضوية، نكون على يقين من أن هذا الشخص هو شخصيتنا الرئيسية. وعندما يرن المنبه ستستيقظ تلك الشخصية وهي قلقة بشأن التأخر عن شيء ما. عندما يزور جيمس بوند شخصية «Q»، نعلم أن الأدوات التى عُرِضَت ستُستخدم لاحقًا، لذلك نتذكرها ونعلم أن المناقشة لن ​​تستغرق وقتًا طويلًا، ولن توجد محادثات عاطفية عميقة، ونادرًا ما تخيب توقعاتنا.

نحن نعمل على تنظيم وفحص وحفظ لحظات الفيلم في أثناء مرورها، وبدلًا من منحنا الوقت الكافي للتفكير والتفسير، فإننا نشارك في التصنيف والفرز الذي يميز عالم العمل الذي ظننا أننا هربنا منه.

كيف يمكن أن تؤثر الحرية الجمالية في الحرية الاجتماعية؟

الصورة: Papafox

 يرى ثيودور أدورنو أن جزءًا كبيرًا من الأثر السلبي للثقافة الشعبية يتمثل في الإضرار بقدرتنا على التصرف بحرية وبشكل عفوي، ويدَّعي أن الثقافة الشعبية، فضلًا عن كونها مصدرًا للمتعة، نوع من التدريب، فهي تُشركنا وتُعزز بعض أنماط التفكير والفهم الذاتي التي تضر بقدرتنا على العيش كشعوب حرة بشكل حقيقي.

يطرح أدورنو هذه الفكرة في كتابه «جدلية التنوير» عام 1944، الذي شاركه في تأليفه ماكس هوركهايمر: «في الفيلم يمكن أن نتوقع دائمًا النتيجة منذ اللحظة الأولى: من سيكافأ، يعاقَب، يُنسَى، ومع الموسيقى الخفيفة يمكن للأذن المُجهَّزة دائمًا تخمين استمرار النغمة الأولى من الأغنية، وبالفعل تستمتع عندما يحدث ذلك».

يساعد افتقارنا إلى الحرية الجمالية في بناء عقبة أمام تحقيق الحرية الاجتماعية. تضعنا الثقافة الشعبية في حالة عمل حتى في أوقات فراغنا. وفي حال لم يعد لدينا مساحة للتفكير والتجربة بحرية ودون توقع، يعتقد أدورنو أننا سنفقد إمكانية وجود عالم لا يهيمن عليه العمل بشكل كامل، وستقل مساحة التفكير في مثل احتمال كهذا، وتضيع خبرة أي شيء مختلف عن متطلبات العمل.

وعلى الرغم من أنه لا يعطينا أي صورة عن عالم مثالي، فإنه يُقدم وعدًا مستمرًّا بالمتعة التي يعتقد أن مجتمعنا بالكاد يحققها، لكن بثمن باهظ للغاية.

إذًا فالثقافة الشعبية، لدى أدورنو، ليست سيئة لأنها توفر لنا متعة سريعة وسهلة الوصول بطريقة لا يتطلبها «الفن الرفيع» العصري. على العكس، إنها أمر سيئ لأنها تَعِد بهذه المتعة، وتفشل في توصيلها بشكل حقيقي. يتبين أن هجوم أدورنو على صناعة الثقافة، في النهاية، لا يشكل هجومًا على المتعة، بل هجوم باسم المتعة. «الفن الرفيع» والثقافة الشعبية كلاهما مضر. ولا يدعو أدورنو إلى إلغاء أحدهما، بل كليهما.

ينهي هولت تحليله بتأكيد استحقاقنا جميعًا الحرية بأن نتمتع دون الشعور بالذنب، دون ضرر، دون قلق. لكن مجتمعنا غير متكافئ إلى هذا الحد، ومَطالب الحرية الفنية الحقيقية، وتقدير الفن الحقيقي، أمور باهظة الثمن إلى حد يجعلنا نفقدها جميعنا تقريبًا.

إذا كانت الثقافة الشعبية فاسدة ومضرة، لكن من السهل الوصول إليها والتمتع بها، فذلك فقط لأنها انعكاس للأضرار التي ألحقتها الثقافة العالية، وأوجه عدم المساواة التي تجعلها ممكنة. بالطبع يعتقد ثيودور أدورنو أن بعض الأعمال الفنية أفضل من غيرها، وأن الثقافة الشعبية، على وجه العموم، «حثالة». وعلى الرغم من أنه لا يعطينا أي صورة عن عالم مثالي، فإنه يُقدم وعدًا مستمرًّا بالمتعة التي يعتقد أن مجتمعنا بالكاد يحققها، لكن بثمن باهظ للغاية.

مواضيع مشابهة