«أُقسم بحياتي وحبي لها أني لن أعيش من أجل شخص آخر، ولن أدع شخصًا آخر يعيش من أجلي». ربما يكون هذا الاقتباس قاسيًا قليلًا، لكنه معبر بالفعل عن الفلسفة وراء واحدة من أكثر الروايات تأثيرًا في الولايات المتحدة الأمريكية: «أطلس متململًا».
لنعرف كيف تؤثر الرواية في المجتمع الأمريكي، ربما نذكر أن الرئيس دونالد ترامب أكد بنفسه أنه من محبي «آين راند» مؤلفة «أطلس متململًا». كذلك، قال وزير الخارجية الحالي «ركس تليرسون» إن الرواية هي كتابه المفضل، وأشار «بول راين»، رئيس مجلس النواب المنتمي إلى الحزب الجمهوري، إلى أن راند كان لها أكبر تأثير في حياته وفكره، ثم تراجع عن التصريح بعد ذلك نظرًا لعدم المودة بينها وبين والأديان، مما يضر بقاعدته الشعبية المحافِظة.
آين راند كاتبة الرواية، الفيلسوفة والروائية التي توفيت عام 1982، كانت من أهم مناصري اتجاه اليمين الليبرتاري، الذي يأخذ على عاتقه مهمة الدفاع عن الحريات الفردية واقتصاد السوق حتى النهاية.
راند، روسية الأصل التي هاجرت من بلادها بعد الثورة الشيوعية ومصادرة ممتلكات والدها، تُؤسس فلسفتها على مهاجمة نزعة «الغيرية» و«الميل إلى مساعدة الآخرين»، وترى أن الصحيح والحقيقي أن يحب كلٌّ منا نفسه ويعمل من أجل تنميتها، والآخرون عليهم فعل المثل، أن يهتموا بأنفسهم، وبذلك ينشأ لدينا مجتمع سليم دون خرافات أو أكاذيب جميلة.
تهاجم المؤلفة الأمريكية الروسية الفنون التجريدية التي توحي بوجود شيء غامض في الدنيا، وترى أن «الموضوعانية» في مقابل «الذات» شيء واضح ومصدر للحقيقة، وأننا لسنا في حاجة إلى الذات في شيء، وتهاجم فكرة أن المشاعر هي الوسيلة الأصدق نحو الحقيقة، وتعتقد بدلًا من ذلك أن العقل هو الشيء الوحيد الذي يمكِّننا من معرفة ما يحيط بنا، ومن التعامل معه بأفضل طريقة.
قلصت آين راند العقل إلى حدود تحقيق الفرد للنجاح، بينما العقل هو كل شيء، من التفكير في لون الحائط إلى التأمل في الوجود والتاريخ.
تدعو فلسفة راند إلى إلغاء الحكومات، وترك الشركات والأفراد يعملون ويتنافسون في ما بينهم داخل المجتمع، ومن خلال تنافس الشركات ومشروعات الأفراد سنصل إلى الخير الأسمى، وهو تحرير الأفراد من أجل عيش حياتهم إلى أقصى طاقاتهم وإمكانياتهم، وترى أن النظام الشيوعي أو الغيري يجعل كل واحد منا عبدًا للآخر.
لكن رغم محاولاتها للتنظير للفردية، فإن راند لا تستطيع الخروج من الإطار الذهني العام الذي تنتقده، أي حب الخير للجميع، فهي حين تقول إن الخير هو ترك كل فرد يشق حياته بنفسه ويصل إلى أعلى مستوى من التحقق. في روايتها «أطلس متململًا»، سيكون الخلاص على أيدي من يطمحون إلى تحقيق ذواتهم، ضد هؤلاء الذين يتكلمون باسم المصلحة العامة لكنهم يفسدون كل شيء.
إذًا ففلسفتها تهتم بمصلحة الآخرين لكنها تختلف فقط في الوسيلة، إذًا ليست «الفردانية» كل شيء. وأنانيتها أنانية تكتيكية، لأنها تبررها بالمنفعة العامة المؤجلة، وهو مأزق أي فكر أناني، أنه لا يستطيع تقديم نفسه للجميع إلا بأنه لمصلحة الجميع، حتى لو كان ذلك ضد اتساقه هو نفسه منطقيًّا.
قد يهمك أيضًا: وصفة شخصية لحياة سعيدة تُغلِّب القلب على العقل
لا بيدو كذلك أن إسناد آين راند فلسفتها إلى العقل أمر دقيق، فهي قلَّصت العقل إلى حدود تحقيق الفرد للنجاح، بينما العقل هو كل شيء، من التفكير في لون الحائط إلى الغناء إلى لعب الكرة إلى تناول فنجان قهوة إلى الضحك مع الأصدقاء إلى التأمل في الوجود والتاريخ، إلى التفكير في ما هو أصلح للبشرية، وليس فكر العقل أن يفكر كيف ينجو بنفسه، هذا مجرد استخدام محدود للعقل.
تمتدح راند العقل كشيء محدد ومعروف كما لو أنها تتكلم عن استعمال السكين للتقطيع، بينما، كما هو مُشاهَد ومجرب، لو تركت شخصين يتكلمان عن أي شيء، كأنواع السيارات، ستجد كل واحد منهما ارتأى سببًا عقليًّا يختلف عن سبب الآخر لتفضيل هذا النوع من السيارات أو ذلك.
الفردانية، بخلاف ما تصورت آين راند، لا تَنتج من عقل قاطع لا يعرف المزاح، بل من قلة عقل وضعف قدرة على التفكير، وضعف القدرة على فهم الآخر ومعاناته.
مثل نيتشه، سلَّمت راند بأن هناك طريقة واحدة لعيش الحياة الإنسانية، أن كل إنسان يمكنه أن يكون بطلًا لو سار على الدرب الصحيح. يشبه هذا أن تقول إن أي شخص يمكنه أن يكون مغنيًا مشهورًا، أو رسامًا مشهورًا، أو لاعب كرة مشهورًا، كأن الناس في منافسة حرة في الفراغ التجريدي للخيال.
آين راند عممت تجربتها الشخصية على الإنسان، في حين هناك ألف ظرف لم تكن آين راند أو نيتشه لينجحا فيه، مثلًا لو عملا في مزرعة، أو لم يحصلا على التعليم التي تقدمه الدولة، أو لم تتقبل كتلة معينة من المجتمع أفكارهما، أو حتى لم يكونا ذكيين، فكون الشخص ضعيف الموهبة أو جبانًا مثلًا ليس شيئًا يعاقَب عليه.
الفردانية، بخلاف ما تصورت راند، لا تَنتج من عقل قاطع لا يعرف المزاح، الفردانية تَنتج من قِلة عقل، من ضعف القدرة على التفكير، ضعف القدرة على فهم الآخر ومعاناته، أو من عدم الرغبة في الانزعاج بأحوال الآخرين، أو لعلم العقل بوجود أشخاص آخرين سيقدمون المساعدة، أو أن يكون هذا المَيل أو المزاج ناتجًا من اعتقاد الفرد بتفوقه على محيطه بسبب غناه المالي كرجال الأعمال، أو معرفته الواسعة كحالة آين.
حين أضحِّي بشيء من أجل الآخرين، لا يعني هذا أن أترك حياتي لأساعدهم، بل يمكنني تقديم بعض النقود إليهم أو تخصيص وقت من يومي للاطمئنان على شؤونهم. ستقول آين راند، لو تمكنت جدلًا من الرد، إنها لم تَدعُ أبدًا إلى منع هذا، وإنها أيَّدت مساعدة من لهم أهمية في حياتا، لكن الفردانية كأساس للأخلاق يمكن أن تكون قطارًا لا يمكن إيقافه، فحين نبدأ في النظر إلى الحياة من مركز ذاتي خارج عن حياة البشر كمجموع، سيبدو لنا العالم بأكمله كوهم، كشيء مخادع يجب الحذر منه.
الإيثارية في تاريخ الإنسان، في الأديان كما في الأدب، قامت وانطلقت من البدء بالتفكير في الحياة على قاعدة مساواة البشر. كلام الأدباء والحكماء هو كلام بلسان هذا الكل، وإلا لا وجود لأي شرعية لأي فلسفة أو لأي فكر. الفكر في هذه الحالة هو وسوسة داخلية ضد الآخرين، بينما تصلح أفكار راند فقط ككتابات سرية مهرَّبة، لإعطاء الغطاء الخطابي لمجموعة من البشر تريد أن تشق طريقها بين الجموع لتصل إلى القمة وسط ذهول الآخرين حَسَنِي النوايا، دون أن تكلف هذه المجموعة خاطرها وتعطي الناس أي حق لهم.
نعم، المشاعر قد تكون مضلِّلة، كأن أعتقد أني أحب شخصًا وفي الحقيقة أنا أخاف منه، وأخاف أن أكرهه لأنه سيعلم بذلك. أيضًا، كأن يهتف الشعب الألماني لهتلر لأنهم شعروا أنه عظيم، بينما هم يخافون طغيانه. لكن العقل الذي تبجِّله الفليسوفة له نصيب من هذا الخطأ، فبسبب عدم وجود معلومات كافية لديه عن طبيعة الدكتاتوريات والأحداث المماثلة التي جرت في التاريخ، لم يعترض عقل الشعب الألماني على تعظيم هتلر. العقل، بعدم امتلاكه كل المعلومات عن العالم والحياة، أداة يسهل التشكيك في صلاحيتها.
حين أقول إني أشعر أن هذه اللوحة جميلة أكون على صواب، فالشعور في بعض الأحيان يكون مظهرًا للإدراك الرقيق الخفي الذي لا يظهر على سطح الوعي. ربما يأتي مفكر في ما بعد ويقول إن اللوحة جميلة بسبب التماثل في أجزائها، أو لأنها تعبِّر عن قيمة أقدِّرها كالسلام، أو أنها تكشف لي وجود شخص ما، كما قال المفكر والفيلسوف الألماني «مارتن هايدغر» عن لوحة «الحذاء» لفان غوخ، فحين أقول إني أشعر أن اللوحة جميلة، هذا أقرب إلى الحقيقة من أن أقول إنها حمقاء لا معنى لها.
لذا، حين يقول بعض الناس إنهم يريدون نظامًا غيريًّا تكافليًّا لأنهم يشعرون أنه الوحيد الذي سيصل فيه الإنسان إلى الفرح والسعادة، ويشعرون أن النظام الرأسمالي أناني تصارعي لا رحمة فيه ولا يليق بكرامة وشرف الإنسان، فهذا كلام يجب أن يُأخذ في الحسبان.
الموضوعانية، بحسب آين راند، أن أنظر إلى العالم كما هو بغض النظر عن أحلامي ورغباتي ونزواتي، لكن ما هو هذا العالم الذي هو هو؟ منطقها مثل منطق من يقول إن الذكر ذكر والأنثى أنثى، والموضوعانية التي تدعو إليها تنتهي إلى تثبيت مستوى معرفي وقِيمي معين، ثم عدم مساءلته أو التشكيك فيه.
قد يعجبك أيضًا: هل ينبغي تعليم المشاعر في المدارس؟
الحب منحة غير مستحقة؟
«أن تحبها من أجل عيوبها، هذه منحة غير مستحقة وغير واجبة. حين تحبها من أجل عيوبها فأنت تشوِّه كل الفضائل من أجلها، تضحي بوعيك، بعقلك، باحترامك لذاتك وذكائك». آين راند في رواية «أطلس متململًا».
تفسر راند الحب كفعل أناني سببه تقديري للقيم الموجودة في الشخص الذي أُحبه، أُحبه لأننا نتشارك نفس القيم، وترفض الحب العام لأنها ترى أن حب كل أحد هو حب للا أحد. لكن هذا خلط بين نوعين من الحب، فالحديث في السياسة يتطلب «الوعي» بإنسانية الناس لا حبهم العاطفي بالضرورة، والحب هنا مقصود به تفهُّمهم لا أكثر، فهم يحبون الكلام والكوميديا، ويحبون أسرهم وأصدقاءهم مثلي تمامًا، ويحتاجون إلى ما أحتاجه للاستمرار في الحياة. يتطلب الأمر قدرًا كبيرًا من الغرور كي أقول إن الشخص الذي أحبه شخص استثنائي، وإن أسرتي وأصدقائي أشخاص استثنائيون.
تكره آين راند الشخص الإيثاري القديس باعتباره إنسانًا عديم الشخصية متميعًا لزجًا، والشخص الجدير بالحب في نظرها هو القوي «السوبرمان»، باعتباره شيئًا أكثر كمالًا وأكثر تحديدًا.
قد يهمك أيضًا: الحب غير المشروط: موجود فعلًا أم خرافة؟
الحب أساسه الإيثارية، قدرة الإنسان المعجزة على تجربة شيء آخر غير نفسه التي حفظها وجربها وسُجن داخلها رغمًا عنه طول حياته.
ما فات راند أن الحب هو حب الحياة، حبي لأحد الأشخاص هو وسيلتي الآمنة للاتحام في البشر والالتحام في الحياة وتذوقها، يعطيني هذا الشخص الشيء البعيد الذي كنت أطمح دومًا في الاقتراب منه، لكني كنت أخشى على نفسي من الألم أو النبذ.
الشخص القوي السوبرمان هو تصنُّع دائم ومستمر ومحاولة للتماهي مع شخصية خيالية بطولية، غالبًا تكون «الكبار الأقرباء» حين نكون أطفالًا. الشخص السوبرمان، نموذج الحب عند آين راند على خلاف ما قد تظن هي، هو نكران للذات وقمع للذات ومعاقبة للذات لو أرادت فك قيودها والانطلاق.
الحب أو اللطف يحدثان حين أرى حبيبي/حبيبتي يتدفق وجوده سائلًا أمامي، حين أنظر إليه وأجده يعطس بعد تناول الآيس كريم، أو حين أراه يغلبه النعاس خلال حضوره معي لقاءً عائليًّا. الحب أساسه الإيثارية، أساسه قدرة الإنسان المعجزة على تجربة شيء آخر غير نفسه، نفسه التي حفظها وجربها وسُجن داخلها رغمًا عنه طول حياته، الحب هو الآخر دومًا.
الفردانية خضوع للقوانين الجبارة التي تُلزم الإنسان بالعمل وبذل الجهد طول اليوم، لتلبية أوامر الذات المسجونين فيها كي لا تعاقبنا بالمشاعر المؤلمة التي نعلم أنها قادرة علينا، مشاعر الرغبة في التحقق الذاتي والانتصار في المنافسة مع الآخرين.
الغيرية والإيثارية تضليل للسيف المسلَّط علينا من النفس والطبيعة، وهي أعظم نصر يمكن للإنسان تحقيقه في وجوده المشروط، أن يتسحب على أطراف أصابعه ويقدم العون إلى إنسان آخر في مأزق، رغمًا عن أنف الطبيعة ورغمًا عن أنف اللذة والألم.
«وتمَّ له أعظم نصر، وهو نصره على نفسه. وعقب منتصف الليل، ذهب إلى ساحة التكية لينفرد بنفسه في ضوء النجوم ورحاب الأناشيد». نجيب محفوظ في رواية «الحرافيش».