غادر نجيب محفوظ مصر ثلاث مرات، إلى يوغوسلافيا لأسباب وظيفية، وإلى اليمن بأوامر عسكرية، وإلى لندن في رحلة علاج.
وفى الأوراق الخاصة بمحفوظ كراس صغير، سجّل فيه انطباعاته عن رحلته الأولى خارج مصر، إلى يوغوسلافيا (أغسطس 1959). انطباعات قصيرة، وجمل مختصرة، رؤوس موضوعات ربما كان يجهزها للكتابة بشكل أكثر تفصيلًا، أو ربما لكي تدخل في مَشاهد أعماله الأدبية في ما بعد.
نعرف من الأوراق أن محفوظ قضى أسبوعين في رحلته، وعاد بعد أن انخفض وزنه ستة كيلوجرامات، وقد انبهر بجمال الطبيعة خصوصًا البحيرات والجبال، ولم يلتقِ في رحلته أيًّا من أدباء يوغوسلافيا لأنهم كانوا في إجازة خلال أغسطس، إلا أنه دُعي إلى حفل في نادي الفنانين.
يكتب محفوظ عن الرحلة وبرنامجها:
(1)
السبت 8 أغسطس:
- الاستقبال – اللوكاندة - راحة خفيفة - زيارة السفير - نزهة للمدينة - عشاء في الـstation - الراقصة المندمجة المعجبانية - شارع تتوقف فيه المواصلات فترة من الزمن حتى يتسوق الناس أو غير ذلك من الأغراض
الأحد 9 أغسطس:
- نوم الساعة 1 واستيقاظ الساعة 2 - تمشية – مسح جزمة - المتحف الحربي - جريدة الكفاح - الجبل وتمثال الجندي المجهول - المسرح الشعبي في الجبل- السفر في القطار ليلًا إلى زغرب (عاصمة كرواتيا)
الإثنين 10 أغسطس:
- الأستاذ عصمت يستقبلنا - إفطار في اللوكندة - متحف الإثنوجرافي - مصنع للأدوات المعدنية – التعرف إلى ياسمينة المسلمة - الصعود إلى أكثر من ألف متر فوق البحر وصعود البرج الحديدي. منظر لا ينسى فوق الدينا. الشمس والقمر - العشاء في مطعم فوق الجبل – بنت كلب - التسكع
الثلاثاء 11 أغسطس:
- التسوق - الجاليري - المكتبة - عبد الله وياسمينة يتخلفان - الغذاء - الراحة - الشاي والأحاديث - السفر إلى لوبيانا (ربما يقصد مدينة «ليوبليانا») ووصولها 9 ونصف مساء
الأربعاء 12 أغسطس:
- زيارة المتحف الوطني - متحف الفن الحديث - متحف الفن القديم، طابع أوروبي وجمال - زيارة بليدة.. مناظر الجبل.. منظر السهل.. البحيرة.. بنت الشاعر.. جنون الجمال - العودة ليلًا
الخميس 13 أغسطس:
- القيام من لوبيانا - زيارة كهف بوستويا الغريب - زيارة مصيف أباتيا - مصيف آخر في أباتيا - المكواة
الجمعة 14 أغسطس:
- السفر إلى ربيكا - الاستراحة في لوكاندة - اختفاء معطف الأستاذ الصاوي - الغذاء - السفر الساعة 4 بالباخرة - رحلة الباخرة والليل والقمر
السبت 15 أغسطس:
- الوصول صباحًا إلى سبليت - زيارة قصر دقلديانوس - زيارة متحف إيفان ميستروفيتش المثال (Ivan Mestrovic) - زيارة الجامعة العمالية – مشاهدة عايدة في قصر دقلديانوس (م. التمثيل في مكان أثري دون استعانة بالديكور)
الأحد 16 أغسطس:
- السفر بالسفينة إلى دوبروفنيك حوالي الساعة 9 – مشاهدة تبجيل لكاتب يوغوسلافي في القلعة الأثرية
الإثنين 17 أغسطس:
- حرية في النهار - هاملت في القلعة الأثرية وما أعجب ذلك..
ينتقل محفوظ من كتابة الملاحظات العابرة إلى الكتابة عن دوبروفنيك، ما يشبه كتابة مكتملة بعد ذلك.
الثلاثاء 18 أغسطس:
- من التجوال عبارة عن قلعة قديمة والمصيف الحديث، سكانها حوالي 20,600 نسمة، في الأصل كانت مستعمرة يونانية وسلافية، حافظت على استقلالها لمناعتها، وبأموالها من ثراها إلا في التجارة. احتلها الفرنسيون أيام نابليون، بعض مساكنها يعود إلى القرن الخامس عشر، والسابع عشر في الجزء الذي هدمه الزلزال. هي أعجب مدينة أثرية في العالي فى الحواري - السلالم - شرفات جوليت – بها أقدم صيدلية
الأربعاء 19 أغسطس:
- نزهة في دوبروفنيك - إلى المطار - تأجيل السفر لوجود عاصفة - حفل استقبال في نادي الفنانين في بلغراد
الخميس 20 أغسطس:
- إلى معسكرات العمل في طريق طويل وجميل وبين سيدتين - المعسكر الذي يبني الطريق - العودة - حفل استقبال مغادرة مع السفير وحرمه
الجمعة 21 أغسطس:
- تسوق وهدايا - علمنا أننا لن نسافر إلا في طيارة الثلاثاء - سهرة في القهوة والحديقة لمعالجة اليأس
السبت 22 أغسطس:
- إفطار حر - زيارة متحف الفن - زيارة متحف الفن الشعبي
في الصفحة الأخيرة من الدفتر، يكتب نجيب محفوظ ملاحظات أكثر كثافةً ووضوحًا، كأنها تلخص رحلته:
«جمال الطبيعة، القمة.. بليد.. دوبروفنيك، بلدة دوبروفنيك القديمة.. الفن في الآثار – القصر - القلعة – الجبل – ماشتوفيتش - الجندي المجهول - ربيع الحياة – السواقون والديمقراطية – الفن الحديث».
(2)
هل يمكن فك شفرات هذه الكتابة المكثفة التي كتبها محفوظ لنفسه؟ ربما يمكننا ذلك بالعودة إلى ما قاله وردده في بعض حواراته الصحفية، أو في جلسات الحرافيش، أو حتى في أعماله الإبداعية.
سأل يوسف القعيد نجيب محفوظ: هل سافرت حبُّا أم خوفًا من عبد الناصر؟ فأجابه:حبًّا وخوفًا.
سافر محفوظ ضمن الوفد الثقافي العربي الذي زار يوغوسلافيا لبحث إمكانات التعاون الثقافي والفني بين الجمهوية العربية المتحدة ويوغوسلافيا. وضم الوفد من مصر عبد المنعم الصاوى والمترجم إبراهيم زكي خورشيد، ومن سوريا سامى الدروبي.
في تلك الأيام، كانت يوغوسلافيا إحدى دولتين ارتبطتا بعلاقة قوية مع مصر، الهند هي الدولة الثانية. وأسس رؤساء الدول الثلاثة، جمال عبد الناصر وتيتو ونهرو، حركة «عدم الانحياز»، بهدف الابتعاد عن سياسات الحرب الباردة بين المعسكرين الشرقي والغربي، ويعتبر مؤتمر باندونغ (1955) أول تجمع منظم لدول الحركة.
وكان الرئيس اليوغوسلافي تيتو أحد ملهمي حركات التحرر الوطني في دول العالم الثالث، وأحد داعمي القضية الفلسطينية، حتى أنه دعم فلسطين بفوج من المقاتلين الكروات للقتال جنبًا إلى جنب مع الفلسطينيين في حرب 1948، وفقًا لما أظهرته في ما بعد وثائق من أرشيف الحزب الشيوعي اليوغوسلافي، وقطع كذلك كل العلاقات الدبلوماسية مع إسرائيل خلال حرب 1967.
ربما نحتاج إلى إعادة قراءة حرب 1967 وما تلاها |
كان سفر محفوظ بقرار من عبد الناصر، وقد انزعج نجيب عندما علم بالقرار، وذهب إلى عبد المنعم الصاوي: «قلت له: هل هذا الكلام حقيقي؟ أم ما الحكاية. فقال لي: إنت عاوز تتحدى عبدالناصر؟»، فاضطر إلى السفر. سأله يوسف القعيد في حوار نُشر في كتاب «نجيب محفوظ إن حكى»: «هل سافرت حبُّا أم خوفًا من عبد الناصر؟ فأجابه:حبًّا وخوفًا».
بعد عودته من الرحلة أجرت معه «الأهرام» حوارًا قصيرًا، قال فيه إنه أُعجب بقبر الجندي المجهول في أعلى قلعة «فالا»، وقد ظنه في بادئ الأمر مقبرة فرعونية، ثم عرف بعد ذلك أنه من تصميم مَثّال يوغوسلافيا الأول «إيفان ميشتروفيتش»، وقد خصصوا له متحفًا يضم آثاره، وهو متأثر جدًّا بالفن الفرعوني.
وتحدث أيضًا عن المسارح، فذكر أنهم استغلوا الأماكن الأثرية بطريقة عجيبة، فشاهد أوبرا عايدة لفيردي في قصر الإمبراطور دقلديانوس، بعد أن حولوا قاعة العرش واستغلوها كخشبة للمسرح، واكتفوا بتسليط الأضواء على الممثلين. أما هاملت لشكسبير فرآها على سطح قلعة دبروفني، الديكور طبيعي، وفي المنظر الأول شاهد هاملت يخرج من حجرة ويلتقي الشبح، مع عينيه، عند أسوار القلعة.
«المسارح هناك كثيرة جدًّا، في القصور والقلاع والمتاحف القديمة، وبيوت الملوك والحكام القدامى، وأحيانًا ينقلب الطريق إلى مسرح».
وأجرت معه مجلة «الكواكب» حوارًا في 29 سبتمبر عام 1959، تحدث فيه بتفصيل أكثر عن الرحلة.
أبدى إعجابه بتقدير الشعب اليوغوسلافي للمسرح، حتى أن عدد المسارح يفوق عدد دور العرض السينمائي بأضعاف. وأضاف: «دور السينما فى يوغوسلافيا تعرض أفلامًا من كل الجنسيات، وبل لقد رأينا هناك أفلامًا لماجدة ومديحة يسري، ولكن لا يزيد عدد الأفلام التي تُعرض على 20 فيلمًا طوال العام، بعكس ما يحدث عندنا، ففي بعض الأحيان ننتج 100 فيلم، ويصبح الأمر هيصة. ومما لا شك فيه أن القلة في الإنتاج يتبعها حسن الاختيار والتركيز والجودة. وأمنيتي أن أرى مثل هذا النظام في بلادنا، ويقل الإنتاج وترتفع قيمته ويعلو مستواه».
«ومن الغريب أن أجر كاتب السيناريو هناك منخفض بعكس ما عندنا تمامًا، هناك كاتب القصة ينال الأجر الأكبر، بينما عندنا ينال كاتب السيناريو أجرًا أكبر من أجر كاتب القصة. والدولة هناك تتدخل في هذا، وتحدد الأجور وتقدِّر كاتب الرواية أكثر من تقديرها لكاتب السيناريو».
«المسارح هناك كثيرة جدًّا، ويجدها المرء في كل مكان. إنهم يقيمونها في القصور، فيعرضون فيها جميع المسرحيات العالمية، بل هم يفعلون هذا في القلاع والمتاحف القديمة، وبيوت الملوك والحكام القدامى، وأحيانًا ينقلب الطريق إلى مسرح يعرض على الشعب رواية عالمية تقدمها إحدى الفرق المسرحية».
«ولقد شاهدنا فرقة تقدم مسرحية (هاملت) في الطريق. إن الشارع يُقفَل بكل بساطة من ناصيتيه، وتُرَص فيه المقاعد، ويقام المسرح فوق سلالم عالية، ويجلس المتفرجون بنظام وبالآلاف، يشاهدون الرواية بلا ضوضاء أو ظيطة أو تهريج، وأحسسنا أنا ومن معي أننا لم نفتقد شيئًا، كأننا في مسرح كامل المعدات، نشاهد رواية عالمية يمثلها ممثلون قديرون».
«هذا الفن يفيض بالتفاؤل، ولقد رأينا طابع الفرح والسرور باديًا على وجوه الفنانين الذين يقدمون هذا الفن للجمهور، وإن كنت أعتقد أن لهم، مثل كل البشر، أحزانًا أيضًا. ولقد كنا خلال الرحلة نفتح راديو السيارة التي تقلنا فنسمع أغنيات شعبية، يألفها المرء عند سماعها، فهي شبيهة لدرجة كبيرة بموسيقانا، إذ يغلب عليها جميعا شيء من الحنان الشرقي، حتى إذا كانت تعبِّر عن الحزن فتعبيرها قريب إلى تعبيرنا، وربما يعود هذا إلى أن البوسنة والهرسك من أصل شرقي، وتجري في شرايينهم دماء عربية».
«وتكاد الفوارق هناك بين الطبقات تنعدم، تجد الأستاذ الجامعي مثلًا يتقاضى 18 جنيهًا، وتجد عاملًا قديمًا في مهنته يتقاضى نفس المبلغ، وبالتالي تنخفض أسعار الحاجات بما فيها أسعار الدخول للمسارح وأجور السينما. إن الدولة هناك لا تترك شيئًا للعرض والطلب، بل هي التي تحدد كل شيء. والشيء العجيب أن الشعب اليوغوسلافي يحترم الفنانين ويقدرهم ويُقبل على أعمالهم بشغف وفهم، ولا تجد فنانًا يشكو قلة التقدير أو الإملاق أبدًا».
توقف نجيب محفوظ كثيرًا أمام حرية الفرد في المجتمع، بل إحساسه بممارسة الفرد للحرية هو أكثر ما استوقفه في الرحلة: «هناك تجد البنت مهما كانت صغيرة السن لها مطلق الحرية في أن تحب من تشاء وتراقص من تشاء في أي مكان مُهيّأ للرقص، بل إن بعضهن يُدخِّن أمام آبائهن، ومع هذا فليست هناك إباحية مشينة أبدًا، ولعل السر في هذا أن تقاليد أهل يوغوسلافيا وظروفها تبيح لهم هذا، بخلاف تقاليدنا وطبيعة حياتنا الشرقية التي لا تستسيغ مثل هذا التصرف ولا تقبله. حتى السينما لها الحرية في أن تعرض الأفلام مهما كانت طبيعتها ومهما كانت جنسيتها».
ومن حكايات الرحلة الطريفة قصّ محفوظ على يوسف القعيد (نجيب محفوظ إن حكى) أنه في يوغوسلافيا «كنا نسير باتجاه الفندق بعد أن أنهينا سهرتنا، فوجئنا بصوت يناديني باسمي. فقال لي عبد المنعم الصاوي: هل أنت معروف هنا أيضًا؟ كان من ينادينا أديب يوغوسلافي مسلم اسمه محمد (نسيت اسمه الثاني)، وقد كان في زيارة للقاهرة وأراد مقابلتي وعرف عنواني في العباسية، ووصل إلى بيتي، والدتي فتحت شُرّاعة الباب فوجدت شخصًا تصورته إنجليزيًّا، فأغلقت الباب وقالت لي ما حدث».
«وقد ألقى الرجل اليوغوسلافي ورقة كَتب فيها أنه يريد مقابلتي في شارع صبري أبو علم في وسط مدينة القاهرة، وحدد لي محلًّا يوغوسلافيًّا، وكان يريد أن يستأذنني ليترجم لي (زقاق المدق)، واتفقت معه أن يترجمها».
«غاب الرجل فترة ثم أرسل لي خطابًا مؤثرًا، قال لي إنه كان يتوقع أن تكون كتاباتي إسلامية، لكنه فؤجئ أن في الرواية خمارة ونساء، مما جعله متألمًا واعتذر لي.
بالتأكيد كان محفوظ يضحك ضحكته المميزة وهو يواصل سرد الحكاية: «بعد أن صافحني الرجل وتحدثنا قليلًا، سأله سامي الدروبي: هل يمكن أن تدلنا على ملهى ليلي؟ فقال الرجل: لأجل خاطركم سأدلكم، ولكن لن أذهب إلى هناك لأني رجل متدين».
اقرأ أيضًا: المشير والروائي وبينهما «برلنتي»: نكتة نجيب محفوظ المريرة
(3)
لكن ماذا عن الإبداع؟ هل اختزن محفوظ تفاصيل الرحلة في عقله، أم سجل تفاصيلها لاستعادتها في مشهد روائي أو حوار قصصي؟
يمكن أن نرصد تأثيرًا غير مباشر لزيارة يوغوسلافيا في «رحلة ابن فطومة»، الرواية الوحيدة لمحفوظ التي يحمل عنوانها كلمة «رحلة».
يحتاج محفوظ إلى وقت طويل حتى يحول تجاربه القليلة في الرحلات إلى أعمال فنية، رحلة اليمن (1962) ظهرت في قصة قصيرة بعنوان «ثلاثة أيام في اليمن»، نُشرت في الأهرام سبتمبر 1968، أي بعد ست سنوات كاملة.
أما رحلة يوغوسلافيا فقد ظهرت عابرًا في رواية «الحب تحت المطر» عام 1972، عندما يلتقي المصور السينمائي «حسني حجازي» عشيقته «عليات» بعد فترة من الغياب، فتسأله: أين كنت في الفترة الماضية؟ يجيبها: سافرت إلى يوغوسلافيا للاشتراك في مهرجان للأفلام القصيرة. ويدور بينهما حوار طويل ينتهي بأن تخبره بحملها. «فجعل ينظر إليها وهو يتذكر منظر جزر الإدرياتيك كما تلوح لعيني المُشاهد في دوبروفنيك في ليالي القمر». ويخبرها في الحوار ذاته: «تذكرتك وأنا جالس في حديقة تحت الأرض في دوبروفنيك، فتاقت نفسي إليك بحنان عجيب».
لكن يمكن أن نرصد تأثيرًا غير مباشر للرحلة ومُشاهدات محفوظ في «رحلة ابن فطومة»، الرواية الوحيدة له التي يحمل عنوانها كلمة «رحلة». وفي العنوان يستدعي محفوظ رحلة ابن بطوطة الشهيرة، لكنه يغير الاسم إلى ابن فطومة، وهو ما يحيل إلى نجيب نفسه، فهو ابن فاطمة، التي يناديها أحيانا «فطومة».
منذ البداية يعلن ابن فطوطة أو «قنديل محمد العنابي» مهمته في الحياة: «بدأت رحالة، وسأظل رحالة، وفي طريق الرحلة أسير. إنه قرار وقدر، خيال وفعل، بداية ونهاية». وهو أيضًا يؤرقه سؤال «عَمّ تبحث أيها الرحالة؟ أيُّ العواطف يجيش بها صدرك؟ كيف تسوس غرائزك وشطحاتك؟». ومن ثَمّ يخوض رحلته ذات الطابع الفلسفي متجولًا بين مدن مختلفة، بحثًا عن حقيقة المعرفة والعدالة والحرية والحب، والكمال أيضًا.
لم يكن وصف محفوظ للبلاد التي زارها ابن فطومة خيالًا كاملًا، فقد استفاد من رحلتيه إلى اليمن ويوغوسلافيا، بل يمكن قراءة هذه الرواية عبر الملاحظات التي كتبها عن رحلة يوغوسلافيا، والتي تسربت بوعي أو دون وعي إلى عمله الأدبي.
ففي يوميات رحلة يوغوسلافيا، يكتب عن زيارته لعمال يبنون شارعًا يمُر في كل الولايات اليوغوسلافية، ويشارك في العمل الطلبة في الإجازات. أخبرتهم مُرافِقة الزيارة أن «كل الشباب والشابات يشتركون في هذا العمل، وكانوا ينامون معًا في الغابة. كان معنا بنت بكت فجأة، وكان سبب البكاء تذكرها لحبيبها الذي مات في الحرب أو في المقاومة». يظهر هذا المشهد تقريبًا في «رحلة ابن فطومة».
(4)
لم يحب نجيب محفوظ السفر، كان يهرب منه دائمًا، يشعر أنه يُربك حياته ونظامه الصارم. في شبابه، قدّم على بعثة للسفر إلى فرنسا لدراسة الفلسفة، ولكن لم يقع عليه الاختيار، وقدّم في بعثة أخرى لدراسة اللغة، وكانت في ذهنه تجربة توفيق الحكيم في «زهرة العمر»، حيث الفن «على قفا من يشيل» في مدينة الجن والملائكة، لكن البعثة لم تكتمل أيضًا.
بعد فشله في السفر، قرر هو أن يهرب من السفر. بعد رحلة يوغوسلافيا، اختير محفوظ لتمثيل مصر في مؤتمر أدبي في العاصمة الإيطالية روما، ونشرت مجلة «الكواكب» في أكتوبر 1961 خبرًا عن سفره إلى هناك للمشاركة في المؤتمر، في جواز السفر الخاص به تأشيرة السفر، وكذلك يوجد قرار بسفره في ملف خدمته، لكن لأن الرحلة لم تكن بأوامر سياسية، فضّل الاعتذار في اللحظات الأخيرة.
وتوقع كثيرون أن يسارع بإعلان سفره إلى السويد لتسلم جائزة نوبل عام 1988، لكنه كان قد اتخذ قراره مبكرًا، بعد يومين فقط من إعلان الجائزة، برفض السفر، وفي جلسة الحرافيش قال لأصدقائه: «المشكلة في مسألة عدم القدرة على السمع، هنا المسألة بسيطة، أقول أزعّق: يا علي، أو يا محمد، لكن هناك هل أقول للملك أو الملكة علِّي صوتك شوية؟».
نفور محفوظ من السفر لم يمنع أن تكون رواياته على عكس ذلك، فهي بالأساس رحلة «بحث»، أبطاله يتنقلون بين الأماكن دائمًا بحثًا عن شيء يؤرقهم.
فى «قصر الشوق»، نرى «حسين شداد» يسأل «كمال عبد الجواد» (أحد أقنعة نجيب محفوظ الروائية): «ألا تهفو نفسك إلى السياحة في جنبات الأرض الواسعة؟ فكر كمال قليلًا، ثم قال: يُخيّل إليّ أني مطبوع على حب الاستقرار، وكأني أجفل من فكرة الرحلات، أعني من الحركة والاضطراب لا من الرؤية والاستطلاع. وددتُ لو كان من الميسور أن يطوف بي العالم حيث أنا».
«ضحك حسين شداد ضحكته اللطيفة المنبعثة من القلب، وقال: قف في منطاد ثابت إن استطعت، وانظر إلى الأرض وهي تدور من تحتك». وبعد حوار طويل حول التنقل، يقول كمال: «من حسن الحظ أن الرحلات الفكرية لا تقتضي التنقل حتمًا».
لكن نفوره من السفر لم يمنع أن تكون رواياته على عكس ذلك. رواية نجيب محفوظ هي بالأساس رواية رحلة «بحث»، أبطاله يتنقلون بين الأماكن دائمًا بحثًا عن شيء ما يؤرقهم. أبطال «تراجيديون» يعيشون أزمة، تختلف بطبيعة كل شخصية، ويحاولون البحث عن مخرج منها: سعيد مهران في «اللص والكلاب» يبحث عن العدل، يثور على الخيانة، ويُقتل في النهاية، وعيسى الدباغ في «السمان والخريف» يترك القاهرة إلى الإسكندرية في رحلة بحث أيضًا، ويوقف صابر الرحيمي حياته بحثًا عن أبيه الغائب، ونجد كل أبطال «ميرامار» مسافرين، غرباء عن الإسكندرية حيث تدور أحداث الرواية، وهي المدينة الأولى التي عرفها محفوظ في طفولته، ولم يكن قد تجاوز التاسعة من عمره.
وفي الرحلة أسئلة تتوالد، وبقدر ما تؤرق الأبطال فإنها تؤرق محفوظ نفسه، ويمكن أن نجد أصداءها في سلسلة مقالاته الأولى التي كان ينشرها بانتظام في مجلة «الجديد»، التي ترأّس تحريرها سلامة موسى، وبسبب انشغاله بهذه الأسئلة مبكرًا اختار أن يدرس الفلسفة.
في رحلاته الواقعية القليلة، أو رحلاته الفكرية الدائمة، يصل نجيب محفوظ إلى هذه القناعة أو هذا اليقين الذين يعلنه بطل «رحلة ابن فطومة»: «لا يوجد بلد سعيد، الشكوى لغة الإنسان المشتركة، نحن الحائرون بين الواقع القبيح والحلم الذي لا يتحقق».