في السنوات القليلة الماضية، شهد العالم تدفق أعداد هائلة من المهاجرين واللاجئين إلى الدول الأوروبية وغيرها، هربًا من مناطق النزاع وأملًا في بدء حياة جديدة، حيث توجد فرص لذلك.
دفع هذا بعض الدول إلى محاولة إيجاد حلول طويلة الأمد لهذا الوضع، والتنسيق في ما بينها لصياغة سياسات أكثر فعالية في مواجهة الأزمة، كي تتحسن ظروف اللاجئين والمهاجرين على أراضيها، لا سيما الأطفال والنساء.
لكن هذا لم يوقف صعود تيارات سياسية معادية، ممثلة في أحزاب اليمين المتطرف، تدعو إلى وقف تدفق المهاجرين وترحيلهم إلى بلدانهم، وأخذت على عاتقها إحياء الأفكار الديماغوجية الشعبوية (إقناع الناس عن طريق استغلال مخاوفهم) من أجل استعادة ذلك الماضي الطاهر الذي لم يدنسه مهاجرون أو لاجئون.
تنطلق أغلب هذه الآراء من فكرة تقول إن الأعراق لا يجب أن تختلط للحفاظ على نقاء النوع، وهي الدعوة نفسها التي حملها النازيون الألمان في بداية القرن العشرين، وبرروا اعتمادًا عليها إبادتهم للأعراق الدُّنيا، مع العلم أن أسلافهم جاءوا، كما سنرى، من الجنوب والشرق في موجات هجرة جماعية منذ آلاف السنين.
افتخار الناس بالأصول والأسلاف أمر يخبرنا التاريخ عنه مرارًا، لكن دراسات جديدة عن الهجرات إلى أوروبا وأماكن أخرى في العالم أظهرت أن تراث الناس العرقي، الذي يمجدونه ويعتزون به، لا يكون نقيًّا أبدًا مثلما يعتقدون، إذ أن البشر جميعًا يعودون في أصولهم إلى إفريقيا، وفقًا لما أشار إليه الكاتب «مارك ميلر» في مقال منشور على موقع «Ancient-Origins».
خرافة الأصل النقي
كان هناك جدل كبير حول دراسات الهجرة بعد الحرب العالمية الثانية بسبب النظريات النازية عن النقاء العرقي، لكن هذه الدراسات أصبحت تكتسب أهمية كبرى اليوم نظرًا لتصاعد موجات الهجرة والنزوح التي يعرفها العالم، وفي ظل عودة التيارات التي تنادي بضرورة حفظ العرق من الاختلاط والتلوث.
ينقل المقال عن الكاتبة «آن غيبونز» قولها إن الأوروبيين جميعًا، ومن بينهم أولئك الذين يرون أن أصلهم نقي، هم في الواقع مزيج عرقي مختلط، وأحفادٌ للمهاجرين الأوائل الذين نزحوا إلى الأراضي الأوروبية واختلطوا مع المهاجرين الذين سبقوهم إليها، لتنشأ في الأخير الشعوب التي نراها هناك اليوم.
قد يهمك أيضًا: 5 حضارات قديمة لا يزال اختفاؤها لغزًا
استقر أسلاف الأوروبيين في القارة بعد موجة هجرة كبيرة من الشرق الأوسط، عقب ذوبان الأنهار الجليدية في العصر الجليدي.
نفس الأمر توصلت إليه أبحاث أخرى، فعن طريق دراسة الحمض النووي وبقايا الأسنان والعظام القديمة، بقصد كشف مكان نشأة أسلاف الشعوب المختلفة، استنتج الباحثون أن غالبية البشر في الوقت الحاضر يعتبَرون حصيلة سلسلة طويلة ومعقدة من الاختلاط والتزاوج والهجرة، وبذلك يمكن القول إن أحدًا لا ينتمي إلى عرق نقي بالكامل.
إفريقيا مهد الإنسان
تشير الدراسات أيضًا إلى أن البشر انتقلوا من مكان إلى آخر وتزاوجوا مع بعضهم منذ أن غادرت المجموعات الأولى إفريقيا قبل 60 ألف عام.
يورد المقال نتائج دراسة أجراها فريق من الباحثين في جامعة هارفارد الأمريكية، بقيادة عالم الوراثة «ديفيد رايش»، على الحمض النووي في بقايا آسيويين وأوروبيين عاشوا بين سبعة آلاف و45 ألف سنة خَلَت.
خلصت الدراسة إلى أن أسلاف الأوروبيين استقروا في القارة بعد موجة هجرة كبيرة من الشرق الأوسط، ابتداءً من 14 و19 ألف عام مضت، وذلك بعد ذوبان الأنهار الجليدية في العصر الجليدي، وتبعتها هجرة ثانية كبيرة للمزارعين من تركيا واليونان منذ نحو تسعة آلاف سنة.
المثير للاهتمام في هذه الدراسة أن أسلاف النازيين من الأوروبيين الأوائل اتجهوا من إفريقيا إلى أوروبا مرورًا بالشرق الأوسط، أي أن أصلهم يعود إلى ذات الأعراق التي وضعوها في قاعدة الهرم البشري.
اقرأ أيضًا: كيف تطور الوعي البشري عبر التاريخ؟
يقول رايش إن أسطورة الأصل التي يؤمن بها معظم الناس خاطئة، حتى بالنسبة لؤلئك الذين ينتمون إلى «سكان أصليين» لمنطقة ما.
بالطبع، بعد أن استقر المهاجرون الأوائل تطورت الهوية القومية والعرقية الفريدة لكل شعب، وأدت في وقت لاحق إلى التنوع الكبير الذي نعاينه حولنا في كل مكان، والذي يجعلنا نتمكن من الاحتفال بأعياد ومناسبات قومية مميزة لكل أمة، وعلينا أن لا نتوقف عن هذا الاحتفال بالتأكيد، لكن يجدر بنا فقط أن نكف عن التعالي على آخرين يشاركوننا الأصل نفسه.