تصدُّر تيار «سائرون»، المدعوم من رجل الدين العراقي مقتدى الصدر، للانتخابات البرلمانية، كان مفأجاة لكثير من المتابعين والمحللين، بل ولقطاع كبير من العراقيين أنفسهم.
فقد نجح الصدر الذي يقود تحالف سائرون، في تصدُّر المشهد السياسي العراقي، بعد حصوله على 54 مقعدًا في الانتخابات الأخيرة التي قضت المحكمة الاتحادية العليا بإعادة العد والفرز في كثير من دوائرها.
فاجأ الصدر العراقيين، قبل الانتخابات، بإعلان تحالفه مع الحزب الشيوعي، في أول تحالف من نوعه في تاريخ العراق، بين رجل دين وحزب يحمل فكرًا تلاحقه تهمة الإلحاد في العالم العربي والإسلامي، وليس العراق فحسب.
لكن سياسة المفاجآت والقرارت السريعة المتغيرة تكاد تكون جزءًا من شخصية الزعيم الذي سبق وأعلن انسحابه من الحياة السياسية ثلاث مرات، دون أن يعلن سببًا حقيقيًّا للانسحاب، أو يقدم مبررًا للتراجع.
الحيرة الدائمة
كل انسحاب لمقتدى الصدر من العملية السياسية، يكون مفاجأة حتى لأنصاره، ما يعني أن قراراته غير مدروسة، بدليل تراجعه عنها أكثر من مرة.
المتابع لتحركات الصدر منذ الانتخابات، وقبلها، ربما يجد صعوبة في تفسير كثير من قرارات الزعيم الشاب، أو حتى توقع ردود أفعاله التي غالبًا ما تتناقض مع تصريحات سابقة له، بصورة تجعلنا نتساءل: ماذا يريد الصدر؟ لتأتي الإجابة التي يتندر بها بعضهم: «الصدر نفسه لا يعرف ماذا يريد».
الصدر الذي يعد حاليًّا اللاعب الأول والأهم في ساحة السياسة العراقية، سبق وأعلن اعتزاله العمل السياسي نهائيًّا أكثر من مرة. الطريف أن الانتخابات التي فاز فيها الصدر بالمركز الأول، كان أعلن في نهاية 2017 عدم خوضها، وحرَّم على كل مؤيديه المشاركة فيها.
وشهد عام 2014 قرارًا مشابهًا من الصدر، إذ أعلن الانسحاب من الحياة السياسية، واعتزال العمل العام نهائيًّا.
قال الصدر، في بيان بتاريخ 16 فبراير 2014، تناقلته مواقع الإنترنت، إنه ينسحب من الحياة السياسية نهائيًّا، وأعلن أيضًا إغلاق جميع المكاتب التابعة له وملحقاتها، على جميع الأصعدة الدينية والاجتماعية والسياسية، وغيرها.
كان الصدر قرر الانسحاب من العملية السياسية، واعتزال العمل السياسي، في الرابع من أغسطس 2013، احتجاجًا على الوضع المتردي الذي كانت تمر به البلاد في ذلك الحين.
الغريب أن كل انسحاب لمقتدى الصدر من العملية السياسية، يكون مفاجأة حتى لأنصاره والمقربين منه، بصورة تجعلهم يعلنون في وسائل الإعلام أنهم يحاولون الوصول إلى الزعيم من أجل معرفة أسباب القرار «المفاجئ»، وتداعياته عليهم، ما يعني أن قرارات الصدر انفعالية، وغير مدروسة، بدليل تراجعه عنها أكثر من مرة.
اقرأ أيضًا: عراك العراق: صدمة الأصوات المحروقة والتحالفات المفاجئة
تقلبات وانقلابات
يبدو أن سياسة التراجع عن القرارات جزء أصيل من شخصية الزعيم الحائر مقتدى الصدر. فقد كشف تصدُّر قائمة «سائرون» المشهد السياسي العراقي، ودخول الزعيم الشاب دائرة الضوء كلاعب رئيسي في خريطة التحالفات السياسية في بلاد الرافدين، حجم التناقضات في شخصية الرجل.
فالتحالفات التي يعلنها، والبيانات التي يصدرها، تصيبك بالحيرة، وتجعلك تشعر بأنك أمام أكثر من شخص، وليس زعيمًا سياسيًّا يقود تيارًا كبيرًا يتبعه آلاف المريدين والمؤيدين.
في 16 مايو 2018، أي بعد أربعة أيام فقط من إجراء الانتخابات العراقية، كشف ضياء الأسدي، رئيس الكتلة البرلمانية لتيار الصدر، والمقرَّب جدًّا من زعيم التيار مقتدى الصدر، أن الكتلة ستسعى لإبرام تحالفات بهدف التصدي لأي تدخل إيراني في تشكيل الحكومة العراقية الجديدة.
واستبعد الأسدي في حديث لـ«رويترز»، نُشِرَ الأربعاء 16 مايو، إبرام اتفاقات أو تحالفات مع هادي العامري، زعيم تيار «الفتح».
بعد مرور أقل من شهر على حديث الأسدي، أعلن مقتدى الصدر تحالفه مع هادي العامري، رئيس تيار الفتح، لتشكيل الحكومة العراقية الجديدة، في خطوة مفاجئة جديدة من زعيم المفاجآت التي لا تنتهي.
يعلن الصدر تحالفًا كل أسبوع دون أن يحدد مصير التحالف السابق.
الطريف في الأمر، أن مقتدى الصدر سبق وشن هجومًا شديدًا على حيدر العبادي، رئيس الوزراء العراقي، بعد تحالفه مع تيار الفتح، بقيادة العامري، واصفًا اتفاق «نصر العراق» الذي وقَّعه العبادي والعامري، قبل الانتخابات، بـ«البغيض والطائفي المقيت».
وصل الأمر بالصدر إلى أن قدم العزاء للشعب العراقي في هذا الاتفاق الذي رأى أنه «تَخَندُق طائفي» يمهد لعودة الفاسدين. وفي إبريل 2018 هاجم الصدر، كتلة «الفتح»، بزعامة هادي العامري، واصفًا ميليشيا الحشد الشعبي التي يقودها بـ«الوقحة». وقال الصدر، في تعليق له، إن «أغلبهم لا يملك تاريخًا مشرفًا مع الأسف».
تناقضات وانقلابات الصدر على نفسه لم تتوقف عند هادي العامري فقط، بل امتدت إلى رئيس الوزراء حيدر العبادي الذي سبق ووصفه بـ«المفسد راعي الفاسدين».
كان الصدر دعا أنصاره إلى التظاهر ضد سياسات حكومته، ووصل الأمر بالمتظاهرين إلى اقتحام مكتب العبادي فى المنطقة الخضراء.
رغم ذلك، أعلن الصدر خلال مؤتمر صحفي مشترك مع العبادي في مدينة النجف، السبت 23 يونيو، تشكيل «تحالف عابر للطائفية» في الحكومة الجديدة.
الغريب في تحركات الصدر أنه يعلن تحالفًا جديدًا كل أسبوع، دون أن يحدد مصير التحالف السابق. فبعد نهاية الانتخابات، وبالتحديد في السابع من يونيو، وقَّع اتفاقًا مع تيار «الحكمة»، بزعامة عمار الحكيم، و«القائمة الوطنية»، بزعامة إياد علاوي، على ما أسموه «الأغلبية الوطنية الأبوية» التي ستتشكل حال التصديق على نتائج الانتخابات النيابية في البلاد.
بعدها بأيام، أعلن تحالفه مع العامري لتشكيل تحالف عابر للطائفية والمحاصصة، قبل أن يكرر نفس الكلام في تحالفه مع العبادي.
قد يهمك أيضًا: طموحات متعارضة: «عراك» ما بعد انتخابات العراق
الصدر والتدخل الدولي
قد ينطبق على الصدر مصطلح «زعيم بالوراثة». فكل شهرته جاءت من أنه سليل أسرة الصدر، إحدى أهم المرجعيات الشيعية في الوطن العربي.
منذ نهاية الانتخابات البرلمانية، والصدر لا يتوقف عن الحديث حول عزمه جعل القرار السياسي ببلاد الرافدين عراقيًّا فقط، وعدم السماح لأي دولة بالتدخل في تشكيل الحكومة. ووصل به الأمر إلى دعوة الكتل السياسية في العراق إلى قطع الحوار مع واشنطن وعواصم الجوار، بشأن تشكيل التحالفات السياسية في العراق.
كتب الصدر على تويتر، الأحد الثامن من يوليو: «حبًّا بالعراق، أوصيكم ونفسي بتطبيق النصائح التالية: على الكتل السياسية قطع الحوار، بشأن تشكيل التحالفات وما بعدها، مع أمريكا ودول الجوار. فهذا شأننا نحن العراقيين فقط لا غير».
الطريف في الأمر أنه بعد أقل من 24 ساعة على دعوته لجعل الحديث عن الحكومة الجديدة شأنًا عراقيًّا خالصًا، استقبل الصدر سفير موسكو لدى بغداد، «ماكسيم ماكسيموف». ويحسب بيان لمكتب الصدر، فقد «بحث اللقاء الوضع الداخلي والإقليمي، والعملية السياسية في العراق، وموضوع الانتخابات».
بعدها بيومين فقط، وبالتحديد في الأربعاء 11 يوليو، عقد الصدر مباحثات في النجف، مع المبعوث الخاص لوزير الخارجية الفرنسي، «جيروم بونافون» وسفير فرنسا لدى العراق، «بورنو أوبيير». تناولت المباحثات آليات تشكيل الحكومة العراقية الجديدة، وتدخل دول الجوار في الشأن الداخلي العراقي، حسبما أفاد مكتب الصدر في بيان صحفي.
أوضح المكتب أن الجانبين تناولا مجريات العملية السياسية في العراق، وما أفرزته نتائج الانتخابات، والحديث عن دول الجوار العراقي، ومدى تأثير تدخلها في الشأن الداخلي للبلد، إضافة إلى أحداث الشرق الأوسط وصراعاته.
من هو مقتدى الصدر؟
استفاد الصدر من اغتيال والده وشقيقيه. فقد أصبح النجل الأبرز في عائلة الصدر.
هذه الكمية من التناقضات، والتقلبات الشخصية والسياسية، تجعل من البحث في أغوار مقتدى الصدر وتاريخه ونشأته، ضرورة حتمية ربما تمكننا من فهم هذه الشخصية المثيرة للجدل.
يمكن القول إن الصدر قد ينطبق عليه مصطلح «زعيم الصدفة» أو «زعيم بالوراثة». فكل شهرته جاءت من أنه سليل أسرة الصدر، إحدى أهم المرجعيات الشيعية في الوطن العربي. فالرجل الذي وُلِدَ عام 1973، في النجف، هو الابن الرابع للزعيم الديني محمد صادق الصدر الذي اغتاله نظام صدام حسين، واثنين من أبنائه، عام 1999.
درس الصدر في مدارس حكومية اعتيادية، وليست دينية، وانتسب إلى ثانوية الصناعة، ولم يكمل الدراسة فيها، فذهب، بناءً على ضغوط من والده محمد صادق الصدر، إلى تلقِّي دروسه الحوزوية على يد المرجع إسحاق الفياض، فكان يجلس منزويًا هادئًا في آخر الصالة أو المجموعة، لا يناقش ولا يجادل ولا يسأل، خلال دَوامه المتقطع وغير المنتظم لهذه الدروس، وبقي على هذا المستوى، حسبما أوضح أحد الذين درسوا معه وقتذاك.
في 19 فبراير 1999، أغتيل محمد صادق الصدر واثنان من أبنائه (مؤمل ومصطفى)، فورث مقتدى الصدر شبكة واسعة من المكاتب والمدارس الدينية، والتف حوله مجموعة من رجال الدين الشباب المنتمين إلى «الحوزة الناطقة» التي أسسها والده.
يمكن القول إن مقتدى الصدر استفاد من اغتيال والده وشقيقيه. فقد أصبح بين ليلة وضحاها النجل الأبرز في عائلة الصدر، وهو من تلقَّى العزاء من القيادة السياسية العراقية، ومن مراجع الشيعة وعلمائها ومجتهديها، وكذلك تعازي السنة وبعض قادة الدول.
بعد اغتيال والده، تولى الصدر الإشراف على الحوزة الدينية في النجف رغم أنه لا يحمل درجة «مجتهد»، وهي التي تمنحه حق الإفتاء.
بعد الغزو الأمريكي للعراق في مارس 2003، وسقوط نظام صدام حسين، أعلن الصدر، خلال خطبة الجمعة بمسجد الكوفة، في يونيو من العام ذاته، تأسيس ميليشيات مسلحة أُطلِقَ عليها «جيش المهدي»، بزعم حماية المراقد الدينية.
في الخامس من إبريل 2004، هاجم جيش المهدي قواعد عسكرية إيطالية، واستولى عليها، وفي 14 مايو شنت القوات الأمريكية هجومًا على الصدر لاعتقاله بعد اتهامه بالتورط في اغتيال رجل الدين الشيعي عبد المجيد الخوئي، وتصدِّي الصدريين للقوات الأمريكية. امتدت المواجهات إلى غالبية محافظات وسط العراق وجنوبه.
في فبراير 2006، فجَّر مجهولون مرقد الإمامين العاشر والحادي عشر (علي الهادي، والحسن العسكري) المقدسَيْن لدى الطائفة الشيعية الاثني عشرية، في مدينة سامراء ذات الأغلبية السُّنية، لتشتعل بعدها حملات تطهير طائفي. واتُّهم جيش المهدي بالتورط في تفجير المرقد لاتخاذه ذريعة لممارسة مقاتليه عمليات القتل الجماعي والتعذيب ضد أهل السُّنة، في ما عُرِفَ إعلاميًّا بـ«فِرَق الموت»، وكان عدد الضحايا هائلًا.
في 29 أغسطس 2007، أمر الصدر بتجميد عمل جيش المهدي لمدة ستة أشهر، وسافر إلى مدينة قم الإيرانية بهدف الدراسة في حوزتها العلمية. وفي 22 من فبراير 2008، جدد التجميد مرة أخرى. وفي سبتمبر 2008، تأسست ميليشيا جديدة باسم «لواء اليوم الموعود»، لتحل محل جيش المهدي.
عاد الصدر من إيران مطلع عام 2011، بعد أن حصل على درجة «حجة الإسلام» من مرجعية قم، وأعلن وقف عمليات لواء اليوم الموعود في سبتمبر من العام نفسه. وفي 2014، أسس ميليشيا جديدة باسم «سرايا السلام» بحجة قتال تنظيم داعش الإرهابي.
قرر الصدر تجميد السرايا في 14 فبراير 2014، ليتراجع عن قراره في الشهر التالي. إلا أنه في فبراير 2015، أعلن تجميد لواء اليوم الموعود وسرايا السلام.
قد يقول قائل إن السياسة لا تعرف الثوابت. ربما يكون هذا صحيحًا في غير الحالة العراقية التي تعتمد السياسة فيها على توجيهات ومرجعيات دينية أكثر منها قوى وأحزاب سياسية، وبخاصة أن بطل هذه التناقضات زعيم شيعي ورجل دين بدرجة حجة الإسلام، قبل أن يكون رجل سياسة. لكن حيرة الصدر تبقى في النهاية مثالًا على غموض الحالة السياسية وتعقيدها في العراق كله، وتحولاته السريعة قرينة للتحولات التي يمر بها العراق، دون أن يثبت في النهاية على شيء.