لا يمكن أن تلتقي بعبقري الموسيقى الكلاسيكية وإمبراطور البورنوغرافيا وممثل ستاند آب كوميدي مجنون ورسام فذ من عصور الظلام، إلا في سينما «ميلوش فورمان».
وحده المخرج التشيكي الأمريكي ميلوش فورمان، من يمكنه أن يرتحل بنا من تشيكوسلوفاكيا ما بعد الحرب العالمية الثانية إلى أمريكا في سبعينيات القرن العشرين، ثم يرجع بالزمن إلى الوراء كي نجوب البلاط الملكي في فيينا وشوارعها في النصف الثاني من القرن الثامن عشر، وبعدها نذهب إلى إسبانيا لنقف وسط محاكم التفتيش والانتفاضات، ونشاهد في الخلفية لوحات تعبر عن جوهر الرعب الإنساني.
رحل فورمان عن عالمنا في إبريل 2018. وإذا رجعنا خطوة إلى الوراء لننظر إلى مجمل أعماله ومنجزه الفني، ربما سنشعر بضآلةٍ مثل التي استشعرها «أنطونيو سالييري»، موسيقار البلاط الملكي، وهو يقف عاجزًا أمام موسيقى «موتسارت»، كما صور فورمان في رائعته «أماديوس» (Amadeus).
تتنوع الشخصيات والأزمنة والأمكنة في أفلام فورمان، لكنه يرصد تماثل القمع في أزمنة مختلفة. ويرسم بانتقائه لشخصيات من واقعنا، تاريخًا للصراع بين فردية الإنسان والسلطة بكل تمثلاتها وتبدياتها ومؤسساتها وآلياتها المختلفة. وكذلك الصراع بين حرية التعبير والأعراف والتقاليد المحافظة للمجتمع.
يمثل فورمان نموذجًا مغايرًا لـ«المخرج المؤلف» (Auteur) كما يسميه الفرنسيون. لا يمكن اعتباره مجرد «مخرج منفذ» لِمَا يعهدون به إليه من أفلام، رغم أن غالبية أفلامه مقتبَسة عن نصوص أخرى: مسرحيات وروايات.
فورمان مخرج مؤلف، أي صاحب رؤية خاصة للتاريخ والعالم والوجود الإنساني، يعبر عنها من فيلم إلى آخر. لا يعني ذلك أنه يكتب أفلامه أو يتدخل في سياق كتابتها. فورمان يؤلف أفلامه، يجعلها تحمل بصمته وثيماته وأفكاره وسماته المميزة، رغم ما تحويه من شخصيات واقعية، معاصرة أو تاريخية.
نحاول هنا رصد أهم سمات عالم ميلوش فورمان السينمائي، وكذلك السمات الجوهرية للشخصيات التي أبرزها في أفلامه رغم تباينها الظاهري، وتأثير سيرته الذاتية في إبداعه. نعرض أيضًا بعض الثيمات المتكررة في أعماله، وكيف استطاع أن يحافظ على تفرد شخصياته، ويرسم مآسيها ورغباتها وآلامها داخل البانوراما السينمائية الضخمة التي صنعها.
من معسكرات النازية إلى ربيع براغ
ولد ميلوش فورمان عام 1932 في بلدة صغيرة خارج براغ تسمى كاسلاف. فَقَدَ والديه في معسكرات النازية خلال الحرب العالمية الثانية، وقضى معظم طفولته يتيمًا.
درس فورمان السيناريو في أكاديمية براغ للفيلم. في بداية الستينيات، حيث بدأت بشائر التمرد على سيادة الاتحاد السوفييتي على تشيكوسلوفاكيا. تمردت مجموعة من طلبة السينما على الإرث الستاليني والبروباغندا الشيوعية. وظهرت ملامح ما سيُعرَف بـ«الموجة التشيكية الجديدة» التي امتد تأثيرها في أجيال من سينمائيي أوروبا والعالم. ويعد ميلوش فورمان أشهر مخرجي الموجة التشيكية الجديدة، إلى جانب «إيفان باسر» و«غارومير غيرس» و«ييري مينزل»، وآخرين.
تضافر مع الموجة الجديدة بزوغ الوعي السياسي بضرورة الإصلاح، ما أسهم في تخفيف حدة الرقابة والأوضاع الخانقة المكبِّلة لحرية التعبير، وسيسفر في عام 1968 عن محاولة تشيكوسلوفاكيا تقديم تجربة اشتراكية مغايرة «ذات وجه إنساني»، أو ما يُعرَف بـ«ربيع براغ». ربما لم يحدد ربيع براغ بداية الموجة التشيكية الجديدة، لكنه سيرسم نهايتها.
تميزت الموجة الجديدة بالرغبة في الابتعاد عن الإيديولوجيا والاقتراب من الحياة اليومية في تفاصيلها العادية والخاصة. يمكن أن نلحظ تشابهات بينها وبين حركات سينمائية سابقة عليها، مثل الموجة الفرنسية الجديدة عند «فرانسوا تروفو» و«جان لوك غودار» و«إريك رومير»، والواقعية الإيطالية الجديدة عند «روسلليني» و«دي سيكا». لعل أهم السمات المشتركة هي طبيعة الإنتاج المتقشفة، وتقليل الاعتماد على التصوير داخل الاستوديوهات، وكذلك الارتجال والاستعانة بممثلين غير محترفين.
خلال المرحلة التشيكية من حياته، قدم ميلوش فورمان عدة أفلام يجمع بينها الحس الساخر الذكي، وتصوير العلاقات اليومية بين الناس العاديين. إلا أنها حملت في طياتها نقدًا اجتماعيًّا غاية في الحساسية والتبصر.
في «بيتر الأسود» (1964)، يتعرض فورمان في أول أفلامه الروائية، لفترة من حياة مراهق يُدعى «بيتر». يتردد على شاطئ البحر في فصل الصيف محاولًا التقرب من فتاة تدعى «باولا». يجبره والده على العمل في متجر لكسب عيشه، فتصبح وظيفته مراقبة الزبائن وضبط المشتبه بهم في السرقة. في المنزل يستمر والده في توبيخه وإعطائه نصائح في كيفية مراقبة الآخرين. يتلصص بيتر في فترات الظهيرة على النساء العاريات من خلال فتحة في حمام الشاطئ.
رقابة الآخرين في فيلم فورمان أصبحت نوعًا من السلوك الشائع بين المواطنين. واقع الناس هو تجسيد لواقع الدولة التي تراقب مواطنيها وتتجسس عليهم، وتنشر بينهم قوات الشرطة السرية.
ينتقد فورمان في فيلم «غراميات الشقراء» الهندسة الاجتماعية التي تهدف إلى تنظيم علاقات الأفراد القائمة على الاختيار الحر والقبول والتوافق.
في فيلم «غراميات الشقراء» (1965)، يستمر فورمان في نقده الساخر ويتناول حكاية عن مدينة صغيرة، أدى سوء تخطيط البيروقراطية بها إلى أن تصبح نسبة النساء أكبر من الرجال. وتعمل غالبيتهن في مصانع الأحذية.
تقرر السلطات إرسال مجموعة من المجندين في الجيش، وينظم المشرف على الإنتاج في المصنع حفلًا راقصًا للتعارف ورفع الروح المعنوية للعاملات بمنحهن رفقة مع الجنود.
تصيب الفتيات حالة من الإحباط وخيبة الأمل بعد رؤيتهن للجنود، لأن غالبيتهم كبار في السن. ويركز الفيلم على «أندولا»، الفتاة الشقراء التي تتعرف إلى «ميلدا»، عازف بيانو شاب من براغ، وتقضي معه الليلة.
تذهب أندولا بعد ذلك إلى براغ لتزور ميلدا في الشقة التي يقيم فيها مع والديه. تأخد أندولا العلاقة بجدية، في الوقت الذي يرى فيه الشاب العلاقة منتهية.
يكشف فورمان من حوار ميلدا مع والديه عن القيم والتقاليد المتزمتة للعائلة، والازدواجية الأخلاقية التي يعاني منها المجتمع، من خلال سيناريو ذكي قائم على المفارقات الساخرة، وواقعية أقرب إلى التسجيلية.
ينتقد فورمان الهندسة الاجتماعية من أعلى، والتي تهدف إلى تنظيم علاقات الأفراد في كل تفاصيل حياتهم، حتى تلك القائمة على الاختيار الحر والقبول والتوافق.
في نهاية الفيلم، ينام ميلدا في منتصف السرير بين أمه وأبيه، ويستمر الجدال بينهم حول عبث الفتاة ومدى معقولية قدومها إلى بيتهم. ترجع الفتاة إلى مدينتها الصغيرة، وتدَّعي دوام العلاقة مع ميلدا، ويستمر عملها في مصنع الأحذية.
تمثل أفلام «بيتر الأسود» و«غراميات شقراء» و«حفل رجل الإطفاء» ثلاثية هجائية في نقد السلطة والبيروقراطية والمجتمع.
«حفل رجل الإطفاء» (1967) فيلم فورمان الثالث. يدور في بلدة صغيرة، حيث يقيم فريق الإطفاء حفلًا كبيرًا احتفالًا بالرئيس السابق للفريق الذي بلغ السادسة والثمانين، وأصبح مشرفًا على الموت بسبب إصابته بالسرطان. يقررون منحه جائزة خاصة، وتنظيم مسابقة لاختيار ملكة جمال.
خلال الحفل الراقص تختفي تدريجيًّا الجوائز المنتظَرة والطعام وزجاجات الخمر. لا أحد يعرف من الذي يسرقها. كل رجال الإطفاء من كبار السن الذين يرتدون ملابس رسمية موحدة شبيهة بملابس الشرطة. يجمعون عددًا من الفتيات لاختبارهن، ومن يقع عليها اختيارهم تُسلِّم الجائزة إلى الرئيس.
عندما تحين لحظة صعود الفتيات على المنصة، يهربن ليختبئن في الحمام. يريد الرجال اقتحام الحمام، لكن حريقًا ينشب في منزل مجاور، فيسرع جميع الموجودين بالحفل إلى الخارج فور سماعهم سرينة الإنذار. يفشل فريق الإطفاء في تحريك سيارة الإطفاء، فتلتهم النيران المنزل. يكتشفون في النهاية أن جائزة رئيسهم سُرِقَت.
نجح فورمان في رسم حالة من الفوضى والمهزلة التي يتسبب فيها رجال الإطفاء. تعرَّض الفيلم لهجوم شرس من الحزب الشيوعي، وطالب المنتج الإيطالي «كارلو بونتي» باستعادة أمواله لأنه كان يتوقع رؤية فيلم على غرار «دكتور زيفاغو» الذي أنتجه عام 1965. ومُنِع الفيلم من العرض.
تمثل أفلام «بيتر الأسود» و«غراميات شقراء» و«حفل رجل الإطفاء» ثلاثية هجائية في نقد السلطة والبيروقراطية والمجتمع. يقدم فورمان من خلالها تمثيلًا عميقًا لسؤال السياسة، فيراها طريقة تنتظم بها حياتنا الاجتماعية. يكشف عن الطبيعة القمعية لسلطة الدولة والحزب في مختلف الأنشطة الاجتماعية.
من خلال حكايات بسيطة يتناول فورمان السلطة بوصفها تنظيمًا لحياة الأفراد ووعيهم وسلوكياتهم لا مجرد كيان حزبي. يبتعد فورمان عن الإيديولوجيا والمقولات السياسية المباشرة ليقترب من التفاصيل الصغيرة وتأثيرات السلطة في العلاقات الإنسانية بين الأفراد.
ثلاثية فورمان أهم أعمال الموجة التشيكية الجديدة، وسمحت له بالحضور القوي في المشهد السينمائي العالمي. رُشِّح كلٌّ من «غراميات شقراء» و«حفل رجل الإطفاء» لجائزة أوسكار أفضل فيلم أجنبي، وشارك غراميات شقراء في مهرجان فينيسيا.
كان الاحتفاء بأفلام فورمان نتيجة اللغة السينمائية الفريدة الخاصة به، لا كتوظيف سياسي من المعسكر الغربي للأصوات المناوئة للشيوعية خلال سنوات الحرب الباردة، ما تؤكده المرحلة الأمريكية في مسيرة ميلوش فورمان.
الهجرة إلى أمريكا
شارك ميلوش فورمان بفيلمه «حفل رجل الإطفاء» في مهرجان «كان» عام 1968. ضم المهرجان هذا العام، المخرج البولندي «رومان بولانسكي» والممثلة الإيطالية «مونيكا فيتي» والمخرج الفرنسي «لوي مال»، في عضوية لجنة التحكيم. إضافة إلى وجود فرانسوا تروفو وجان لوك غودار وكلود ليلوش وآخرين.
تزامنت أحداث مايو 1968 مع فعاليات المهرجان. الانتفاضات الطلابية والاعتصامات العمالية والصدامات مع قوات الشرطة. في الشهور القليلة التي سبقت أحداث مايو، كان هناك بعض المناوشات بين الحركة السينمائية الفرنسية، ممثَّلة في الموجة الجديدة، والمؤسسة الثقافية الرسمية في البلاد.
مع بدء الإضراب العام في باريس، قرر تروفو وغودار وضع نهاية لفعاليات المهرجان. صعدا إلى المسرح في أثناء أحد العروض، وجذبا الستائر معلنين نهاية المهرجان.
حين اعترض بعض الحضور، صرخ غودار بأنهم يتحدثون عن التضامن مع الطلبة والعمال، بينما يريد بعضهم الحديث عن «اللقطات الطويلة والقريبة». وأضاف: «يا لكم من أغبياء». وصف بولانسكي المطالبة بمنع العروض بأنها «ستالينية»، قائلًا إنه رأى ذلك وعاشه من قبل، والتفت إلى فورمان مضيفًا: «نحن نعلم ماذا يعني هذا. أليس كذلك يا ميلوش؟».
انسحب أعضاء من لجنة التحكيم وألغي المهرجان. كان من المفترض أن يسافر فورمان إلى براغ، لكنه قرر البقاء من أجل البحث عن تمويل لفيلمه الجديد، ومكث مع المخرج الفرنسي «كلود ليلوش» أكثر من شهر ونصف الشهر.
في تلك الأثناء، وتحديدًا في أغسطس 1968، بدأ الغزو السوفييتي لتشيكوسلوفاكيا. اجتاحت دبابات حلف وارسو عاصمة البلاد معلنة نهاية ربيع براغ. قرر ميلوش فورمان ألا يعود إلى موطنه مجددًا، وهاجر إلى الولايات المتحدة ليستقر في نيويورك.
كانت هذه التطورات كفيلة بأن تدفع أي فنان إلى نوع من المباشرة أو الخطابية الزاعقة تعبيرًا عن سخطه، وتماشيًا مع مناخ الحرية والاستقلال النسبي بعد سنوات من الرقابة والمنع. لكن ميلوش فورمان كان مخلصًا للفن والحرية واستقلال الفرد كشرط للوجود الإنساني. هنا يتجلى وعي فورمان باستقلالية الفنان، وابتعاده عن البروباغاندا والخطاب السياسي القاصر أو تصفية الحسابات مع نظام أيديولوجي غاشم.
الجنون والتمرد على السلطة
بإيقاع رشيق وصاخب، وفي أجواء من الكوميديا السوداء، يصنع فورمان تحفته السينمائية الأمريكية «طار فوق عش المجانين» (1975) عن رواية تحمل الاسم نفسه للكاتب «كين كايسي».
يصل «ماكمرفي» (جاك نيكلسون) إلى مصحة للأمراض العقلية، بعد أن أحالته إليها إدارة السجون لتقييمه والبت في حالته العقلية.
يعيش نزلاء المصحة ضمن نظام خاص تشرف عليه رئيسة فريق التمريض «راتشيد»: مجموعة من الأوامر والنواهي والعادات تحدد الإطار اليومي للنزلاء الذين يمتثلون في إذعان.
تنقلب الأمور رأسًا على عقب بعد وصول ماكمرفي الذي يشيع حالة من الهرج والتمرد، ويؤثر في النزلاء ويحرضهم على التمرد من أجل تحسين ظروف إقامتهم.
شغف ماكمرفي بالحياة يلهم بقية النزلاء، ويعلمهم فضيلة الرفض. تسري فيهم عدوى التمرد نتيجة مشاغباته المستمرة. إلا أن راتشيد التي تخفي ملامحها الهادئة قدرًا هائلًا من الانضباط القمعي العنيف، تعمد إلى ضبط التمرد واتِّباع أساليب متنوعة من العقاب.
ينكشف الوجه السلطوي للفريق الطبي، وقدرته على تدمير الأسوياء، وإدامة وهم مرضهم. تنجح الممرضة راتشيد مع معاونيها في تدمير ماكمرفي، وتحويله إلى حطام إنسان. لكن خَلاصه يتحقق على يد أقرب زملائه الذي يقتله بدافع الرحمة، لأنه يعلم أن ماكمرفي ما كان ليرضى بمثل هذه الحياة.
يموت ماكمرفي، لكنه يترك بين زملائه أملًا دائمًا: ربما عادت أيامهم إلى سيرتها الأولى، إلى الخنوع والإذعان، إلا أنه أعادهم إلى الحياة مرة أخرى، أو بالأدق، أعاد الحياة إليهم وبثها في أرواحهم.
يبتعد فورمان عن الثنائيات البسيطة المتمثلة في الخير والشر، والسجين والجلاد.
حقق الفيلم الجوائز الخمسة الكبرى في أوسكار: أفضل فيلم وأفضل مخرج وأفضل سيناريو مقتبس وأفضل ممثل وأفضل ممثلة. وهو ما لم يحدث قبلها سوى مرة واحدة. وصار واحدًا من كلاسيكيات السينما الأمريكية، ومن الأكثر حضورًا في قوائم التفضيلات الجماهيرية.
يقدم الفيلم أداءات تمثيلية مذهلة من جاك نيكلسون ولويز فليتشر، إلى جانب عدد من الأدوار الثانوية التي لا تُنسى.
ربما يرى بعضهم في شخصية الممرضة المستبدة راتشيد مجازًا عن الحزب الشيوعي، لكن فورمان يذهب إلى ما هو أبعد من ذلك بكثير.
يبتعد فورمان عن الثنائيات البسيطة المتمثلة في الخير والشر، السجين والجلاد، ويمكن ملاحظة غياب مثل هذه الثنائيات السطحية، عند مقارنة فيلم فورمان بفيلم جماهيري آخر يدور حول القمع والأمل، هو «The Shawshank Redemption»، للمخرج «فرانك درابونت». فشخصية ماكمرفي لا تشبه شاوشنك السجين البريء، وراتشيد لا تشبه حراس السجن في فسادهم المالي والأخلاقي. وإنما هي فقط تؤدي عملها، وتعبر عن قيم مثل «المهنية» و«الانضباط» و«العقلانية» داخل المؤسسة العلاجية.
ينطلق الفيلسوف الفرنسي «ميشيل فوكو» من الأسئلة عينها، ويتساءل عن معنى الجنون وكيف توضع تجربة الجنون في الممارسة العملية.
يوضح فوكو أن مبدأ الخوف بالغ الأهمية في علاج المريض داخل المصحة العقلية، ويبين أنه رغم تحرير المجنون من العقاب الجسدي والعزل والمعاملة كحيوان، كما حدث قبل القرن الثامن عشر، فإن المجنون صار أقل حرية لأن ذهنه خضع للعلاج وتعرض للاستلاب.
في واحدة من حلقات العلاج التي تجمع ماكمرفي والنزلاء مع الممرضة راتشيد، يكتشف أن غالبية النزلاء يمكثون في المصحة طواعية، دون إجبار أو إلزام من جهة معينة. إن عقولهم تعرضت للأسر، أو كما يشرح فوكو: «أصبح الجنون فشلًا اجتماعيًّا أكثر منه سقوطًا، وتعكس المصحة العقلية نظام السلطة البرجوازية».
يلقي ماكمرفي بظلاله على الشخصيات الواقعية والتاريخية التي قدمها فورمان بعد ذلك. إذ يتشارك مع كل من «موتسارت» و«لاري فلينت» و«آندي كوفمان» في عدد من السمات المميزة.
أنشودة الثقافة المضادة
بزغت حركة «الثقافة المضادة» (Counterculture) في أمريكا كاحتجاج من الشباب على المجتمع ومؤسساته وأعرافه. وتحققت من خلال الموسيقى الشبابية الصاخبة كما في «وودستوك»، وتجاربهم مع المخدرات والتحرر الجنسي ورفضهم منظومة العمل، ومعارضتهم حرب فيتنام ومقاومة التمييز العنصري ضد ذوي الأصول الأفريقية.
كان فورمان مندهشًا من قدرة أمريكا على النظر إلى نفسها في المرآة، ورؤية جانبها المظلم، والذي يحاول الشباب مقاومته.
مثلما تزامن وصول فورمان إلى فرنسا مع بدء الاحتجاجات والتظاهرات هناك، تزامن وصوله إلى الولايات المتحدة الأمريكية مع بداية اضطرابات سياسية كبرى، وفضيحة «ووترغيت» بعد ذلك، وحركات الحقوق المدنية، والمظاهرات ضد حرب فيتنام وثقافة الهيبز وانتشار المخدرات.
من خلال كوميديا غنائية مقتبسة من عرض مسرحي قُدِّم على «برودواي»، يصور فورمان فترة الاضطرابات السياسية التي شهدتها البلاد، ويتناول دعايا وسائل الإعلام لحرب فيتنام، وحكاية الشاب «كلود» الذي يتجه إلى نيويورك ليلتحق بالتجنيد. لكن عند وصوله يتعرف إلى مجموعة من الهيبيز يقودهم شاب يدعى «برغر». يكتشف كلود عبر مخالطته تلك الجماعة الثائرة، حقيقة الوعي الزائف الذي خلقته بروباغاندا الحرب.
وجهت الأغاني انتقادًا ساخرًا للسياسة الأمريكية. إذ تناولت أغنية «L.B.J» اغتيال «جون كينيدي»، وانتقدت الاستخبارات المركزية ومكتب التحقيقات الفيدرالي، وعبرت أغنية «I got life» عن الرفض للدولة التي ترسل أبناءها إلى الموت المجاني في فيتنام.
لم يكن ميلوش فورمان من المناهضين لحرب فيتنام وقتها، ولم يكن على وفاق مع المنطلقات الإيديولوجية للثقافة المضادة، لكنه يقول إن فيلمه «Hair 1979» كان يمثل له «فعل» الحرية. كان فورمان مندهشًا من قدرة أمريكا على النظر إلى نفسها في المرآة، ورؤية جانبها المظلم، والذي يحاول الشباب مقاومته.
يكشف فورمان في التناقض بين رأيه الشخصي وفعله الفني عن وجهه كفنان أصيل، ينتصر لحرية التعبير، لا للآراء التي يتبناها فقط، بل إنه يدافع عن الحرية لتلك الآراء التي يعارضها أو يختلف معها كذلك.
الانتقام من الإله
في عام 1984، يقدم فورمان فيلمه «أماديوس». تحفة سينمائية عن مسرحية الكاتب «بيتر شافر»، تجمع بين الكوميديا والتراجيديا، مزيج فريد من الجمال والألم والمعاناة، وتساؤلات عدة عن الفن والميتافيزيقا والطبيعة الإنسانية.
في سرد استرجاعي يعتمد على صيغة الاعتراف، يتحدث أنطونيو سالييري الكهل من داخل مصح للمجانين عن شغفه بالموسيقى منذ الصغر، وعن عهوده مع الإله. كان يبتهل في صلوات صادقة، ويسأل الرب أن يمنحه مستقبلًا حافلًا بالمجد الموسيقي، وأن يكون موسيقارًا عظيمًا، وفي سبيل ذلك يعاهد الرب على العفة، وأن يمضي حياته صالحًا يكرسها ليتمجد اسم الرب في كل مكان.
اعتقد سالييري أن صلواته استجيب لها، حين أصبح موسيقار البلاط الامبراطوري، وأنه سائر على درب الخلود والعظمة، لكنه يكتشف أن ثمة شابًّا ماجنًا مستهترًا وأخرق يستطيع أن يؤلف أعذب موسيقى سمعها في حياته، هو موتسارت. لم يفهم سالييري لماذا منح الإله موهبة فذة إلى موتسارت، لماذا اختار هذا «الولد الفاحش» ليتجسد من خلال موسيقاه.
كان سالييري يسمع صوت الإله في جُمَل موتسارت الموسيقية. اختار الإله موتسارت، أما سالييري، فمنحه «القدرة على تمييز الجمال واللحن الإلهي»، ثم حرمه الخيال اللازم لخلق جمال مماثل.
رأى سالييري أن الإله يعذبه بتفضيله موتسارت. فقرر أن يعاديه ويعترض مشيئته ويضر بمحبوب الإله. كان سالييري يُضيِّق سبل العيش على موتسارت، حتى تكاثرت الديون على الموسيقار الشاب الموهوب.
يقدم أماديوس تجليات بصرية للجمال الموسيقي، كأن كل لقطة معادل بصري للعبارة الموسيقية، في محاولة لمحاكاة عذوبة موسيقى موتسارت.
سالييري بطل تراجيدي، تكمن مأساته في عاديته، وعدم قبوله لموقعه المحدود من الزمان والمكان. لا يكتفي بمكانته الاجتماعية كموسيقار البلاط، بل تستمر محاولاته نحو اكتساب موقعه المأمول من التاريخ.
يحلم سالييري بالخلود، لكنه يستمر في الحياة 32 عامًا بعد وفاة موتسارت، فيزداد بؤسه وهو يشهد فناء موسيقاه التي لم يعد يعزفها أحد. أما موتسارت الذي مات مفلسًا ودُفِنَ في مقبرة جماعية، يختاره الإله ليصعد بجواره، وتُكتب لموسيقاه الخلود.
يقول الكاتب الأمريكي «آرثر ميللر» إن الجرح المميت للبطل التراجيدي هو «جرح الذل»، و«النقمة تكون دافعه القاهر». التراجيديا، حينئذ، هي «العاقبة الشاملة لاضطرار الإنسان إلى أن يُقيِّم نفسه تقييمًا عادلًا»، بتعبير ميللر.
يعلن سالييري في نهاية الفيلم أنه «بطل العاديين»، عراب «المديوكرز» (محدودي الموهبة) في العالم. حصل الفيلم على ثماني جوائز أوسكار. وفاز ميلوش فورمان بجائزة أفضل مخرج للمرة الثانية.
يقدم أماديوس تجليات بصرية للجمال الموسيقي، كأن كل لقطة معادل بصري للعبارة الموسيقية، في محاولة لمحاكاة الجمال والعذوبة في موسيقى موتسارت. ويدمج ببراعة عناصر الأوبرا داخل الفيلم. وخلافًا للطبيعة المقتصَدة لأفلامه التشيكية، فإن فورمان يقدم صورة باذخة الثراء في أماديوس. مَشاهد عامرة بتفاصيل الأزياء والعمارة في الحقبة الزمنية للأحداث.
يتناول فورمان الخلق الفني، ويعيد من خلاله سرد القصة الأصلية للخلق، في نوع من التناص مع قصة الإله وآدم والشيطان.
يظهر موتسارت شخصية لا تعبأ بأصول اللياقة والأعراف البالية وبروتوكولات النبلاء. في أحد المشاهد، يحاول موتسارت إقناع الملك بالموافقة على عرض أوبرا «زواج فيغارو». يخبر الملك: «أنا بذيء ووقح، لكن موسيقاي ليست كذلك».
يقارن المفكر الأمريكي الفلسطيني إدوارد سعيد أوبرات موتسارت مع أوبرات بيتهوفن وفيردي، فيقول: «يصور موتسارت عالمًا إباحيًّا متسيبًا أخلاقيًّا، حيث للقوة منطقها الخاص، لا تدجنه ظروف التقوى أو احتمال الحقيقة».
تتشابه نظرة موتسارت للعالم مع نظرة ماكمرفي، وبخاصة في التحرر والبذاءة والتمرد. ينتقي فورمان بعدها من التاريخ الأمريكي المعاصر شخصية «لاري فلينت»، وهي تبدو للوهلة الأولى بعيدة تمامًا عن عملاق الموسيقى الكلاسيكية، لكنها في الحقيقة مشابهة لشخصية موتسارت ومكملة لها. وتعكس تصورات فورمان عن الحرية الفردية والصراع الأبدي من أجلها.
الصفة الثورية للبذاءة
حرية التعبير هي الإرث الأمريكي الأهم. يبدو ميلوش فورمان متيقنًا من ذلك، لكنه يختار شخصية إشكالية ليعبر عن هذا اليقين في فيلمه «الشعب ضد لاري فلينت» (1996).
لاري فلينت، رئيس تحرير المجلة الإباحية «Hustler»، التي أسسها عام 1974، بعد أعوام من عمله مالكًا لأحد أندية التعري. يسعى إلى منافسة مجلة «بلاي بوي» الشهيرة. لذلك لا يكتفي بالبورنوغرافيا، وإنما ينشر مقالات ورسومات كاريكاتيرية هجائية وبذيئة. تحقق المجلة مبيعات ضخمة، لكنها تؤدي في الوقت نفسه إلى غضب فئات كثيرة في المجتمع. يخوض فلينت عدة معارك قضائية.
في عام 1978، يتعرض فلينت ومحاميه إلى إطلاق النار بعد خروجهما من قاعة المحكمة. يصاب فلينت بالشلل، ويقضي بقية حياته على كرسي متحرك، فيُكثر من تعاطي المخدرات.
يستمر فلينت في مشاغباته وعناده مع السلطات، وبخاصة السلطة الدينية، ورأسمالها الرمزي الممثل في القس «جيري فالويل». يزج به إلى السجن بتهمة ازدراء المحكمة.
يصل فلينت إلى الحضيض. تصاب زوجته بالإيدز، ويجدها منتحرة داخل الحمام.
يستمر فلينت في نضاله ضد القس. ويقرر الذهاب إلى المحكمة العليا، الجهة القضائية الأعلى في البلاد. صورت وسائل الإعلام المواجهة بين فلينت والقس، بالمواجهة بين الإله والشيطان، بين رجل الدولة والقَواد إمبراطور الدعارة. حاجج «آيزاكمان»، محامي فلينت، بأنه من المصلحة العامة أن تظل حرية الرأي مكفولة لجميع الناس، ومن الجيد أن تتعرض الشخصيات العامة، مثل القس فالويل، للتهكم والسخرية بهدف إظهار حقيقتها.
حين يسأل مراسلو الصحف فلينت: لماذا أنت موجود هنا؟ يجيب: «لأنه إذا استطاع التعديل الأول للدستور حماية تافه مثلي، فسيحميكم كلكم. لأنني الأسوأ».
ويربح لاري فلينت القضية في النهاية.
حاز ميلوش فورمان على جائزة «الدب الذهبي» من مهرجان برلين. ورُشِّح الممثل المخضرم «وودي هارلسون» لجائزة أوسكار كأحسن ممثل عن أدائه لشخصية لاري فلينت.
تخلق لغة مجتمع السيطرة عالمًا مغلقًا من الإنشاء أو التعبير، تدور في فلكه مؤسسات البحث والإعلام والدعاية ومكاتب الإدارة وخطب الساسة، وتحدد تلك اللغة ما يجب أن يُكتب أو يُقال، وما يجب إقصاؤه أو تهميشه.
تتجلى البذاءة في أعمال ميلوش فورمان بوصفها أداة نفي. وما تفعله التعابير العامية والبذيئة هو التصدي بسخرية مثيرة للكلام «الرسمي». وكما يوضح «هربرت ماركوز»، في كتابه «الإنسان ذو البعد الواحد»، بعبارات دالة:
«وكأن الناطق الغافل بلسانه يؤكد إنسانيته في لغته بوضعه إياها على قطب معارض للسلطات القائمة. وكأن الرفض والتمرد اللذين تمت السيطرة عليهما، على الصعيد السياسي، ينفجران في مفردات تسمي الأشياء بأسمائها».
شخصيات فورمان أروع تعبير عن «الناطق الغافل بلسانه». تطلق شخصياته السباب واللعنات. كانت تهمة خطيرة أن تكون غاضبًا، وأن تنطق بألفاظ نابية في مجتمع شيوعي. لكن لاري فلينت، وبقية شخصيات فورمان، تلجأ إلى أقسى لغة ممكنة كي تستنكر وتسخر من ممثلي السلطة.
ينتقل فورمان بعدها إلى شخصية «آندي كوفمان»، ممثل كوميدي أمريكي، ليصور حياته وتقلباته، وهي شخصية مشابهة لفلينت في كراهية المجتمع لها.
جوهر الرعب الإنساني
في فيلمه الأخير «أشباح غويا» (2006)، يضع فورمان الرسام الأسباني «فرانشيسكو غويا» في أجواء دراماتيكية، في أثناء حملات محاكم التفتيش التي أزهقت أرواح آلاف الأبرياء لمجرد قراءة كتب فولتير وفلاسفة الأنوار، أو السخرية من ادعاءات رجال الكنيسة الكاثوليكية. كأن فورمان يعود بهذا الفيلم إلى المنابع الأصلية للقمع والوحشية.
«آنيس»، ابنة أحد النبلاء، تلقى مصيرًا قاسيًا وسط حملات رجال الدين الأجلاف وملوك البلاط الفاسدين، تتعرض للاستجواب القسري، وتتهمها الكنيسة بأنها يهودية. تجد الكنيسة في آنيس كبش الفداء الذي ستجعله أمثولة للمتطاولين على سلطتها.
تحت التعذيب تقر آنيس بأفعال لم تقترفها، وتطول فترة حبسها لتتعرض لاحقًا للاغتصاب على أيدي الأب «لورينزو» الذي يزورها في السجن عدة مرات.
منذ المَشاهد الأولى نتعرف إلى ضجر رجال الدين من تخطيطات غويا الشهيرة المعروفة بـ«الكابريخوس» لما فيها من سخرية لاذعة من مفاهيم الكنيسة ورجالها. لاحقًا، نرى غويا يرسم في منزله صورة شخصية للأب لورينزو (خافيير بارديم) الشخصية الرئيسية التي تتمحور حولها أبرز أحداث الفيلم. يشير فورمان إلى المأزق الذي يحيط بالفنان في العصور المظلمة، واضطراره إلى المهادنة.
يحاول غويا التوسط لدى الأب لورنزو من أجل إطلاق سراح آنيس.
يدعو والد آنيس الأب لورينزو إلى منزله، وتدور مناقشة بينهما حول معنى البراءة والاعتراف تحت ضغط التعذيب. الكاهن لورينزو يعتقد أن الرب في مواقف كهذه يكون إلى جانب الإنسان المؤمن، ويعينه على تحمل الألم والصمود أمام قسوة معذبيه. فينفِّذ والد الفتاة حركة مباغتة لإخضاع الكاهن إلى تجربة لها دلالتها، ويربطه بحبال تمنع حركته، ويعلقه بمساعدة أبنائه في سقف الغرفة، ويستجوبه.
هنا نرى كيف تتبدل الأدوار. تصير معتقدات الكاهن تحت الاختبار الواقعي، والأهم أن لورينزو الذي يؤمن بأن الله لن يتخلى عن أمثاله، يعترف تحت وقع الألم الشديد بأشياء مضحكة منافية للحقيقة والعقل. هنا يبرهن والد الفتاة على أن المرء من الممكن أن يعترف بأي شيء تحت التعذيب.
يتناول الفيلم فترة الغزو الفرنسي لأسبانيا عام 1808. حينها تتغير أوضاع البلاد، إذ تعصف بها للمرة الأولى مبادئ الثورة الفرنسية التي توقف محاكم التفتيش وتحاكم أعضاءها. المفارقة أن لورينزو الذي خلع رداء الكهنوت في منفاه بفرنسا، يعود مع المحتلين الفرنسيين هذه المرة، بوصفه أحد رجال الثورة الفاعلين في الأحداث السياسية الجارية، والمقرِّرين لمصائر أعضاء محكمة التفتيش والحكم عليهم: نوع من الثأر وتصفية الحسابات.
يطرد الجيش الإنجليزي الفرنسيين، ويعيد أوضاع البلاد إلى سابق عهدها، فيخرج كبار الكهنة من سجونهم وتعاد إليهم السلطة ثانية، فيقع الأب لورينزو مجددًا تحت رحمة أعضاء المحكمة الذين سبق لهم أن أصدروا عليه حكمًا بالإعدام.
يطلب كبير الكهنة من لورينزو الاعتراف بذنوبه وطلب المغفرة، حتى يكون بإمكانه العودة إلى دين الكنيسة الكاثوليكية، مقابل إطلاق سراحه والعفو عنه. لكن لورينزو يرفض الاعتراف وطلب الغفران. ويقاد إلى منصة الإعدام صامتًا. تتعالى حوله صرخات العامة الناقمة عليه بوصفه رمزًا للفكر المهرطق، بينما تهيم آنيس في الطرقات نصف مجنونة، بعد خروجها من السجن في أثناء الغزو الفرنسي.
الاستلاب والخضوع والتضحية بالفرد هي الأفكار التي قاومها ميلوش فورمان في أفلامه.
يصف المخرج الروسي «أندريه تاركوفسكي» تخطيطات غويا (الكابريخوس)، في كتابه «النحت في الزمن» قائلًا: «وحده، من غير مساعدة، ومن غير عون من أحد، تحدَّى غويا سلطة الملك الوحشية والعقيمة، ووقف في وجه محاكم التفتيش. إن «Caprichos» أصبحت مثالًا على قوى الظلام التي تتقاذفه من الحقد الضاري إلى الرعب الحيواني، من الازدراء الشديد إلى معركة دون كيشوتية ضد الجنون والظلامية».
«في نهاية هذا القرن المجرم، دعونا نلعن أعداء الفردية»
بهذه الكلمات، يصف الشاعر الأمريكي الصربي «تشارلز سيميك» أيديولوجيات القرن العشرين. يؤكد سيميك، المهاجر من شرق أوروبا هو الآخر، أن الإيديولوجيات من القومية إلى العنصرية ليست معنية بالأفكار، بل كل اهتمامها «تكتل مدعي التجديد تحت سقفها». والمهمة الثقافية الوحيدة عند مفكري أنظمة كهذه هي «كيف يجعلون الاستلاب والخضوع جذابًا». ويضيف سيميك: «يقولون في حماسة: سنجد السعادة الداخلية والانسجام، عبر التضحية بالفرد».
الاستلاب والخضوع والتضحية بالفرد هي الأفكار التي قاومها ميلوش فورمان في أفلامه. لعل المصائر المأساوية لشخصياته هي التعبير الأمثل عن إنسان القرن العشرين، والقرون السابقة واللاحقة. لكن فورمان لم يكتف بالمأساة، وحاول أن يستغل فجوات التاريخ في رسم هذه المصائر، وأن ينتزع ضحكاتنا الساخرة، ولعناتنا كذلك.