لم تعُد حسرة جيل الآباء والأجداد على حال جيل أبنائهم مجرد تمجيد لأيام الزمن الجميل الذي ترك فيه الشيوخ ذكرياتهم وأوقاتهم السعيدة، فعندما يخبر الأب ابنه الشاب في هذه الأيام أنه يعيش أيامًا صعبة، وأن الأب منذ عقدين أو ثلاثة كان يعيش شبابًا أكثر متعةً ممَّا يعيشه ابنه هذه الأيام، لعله لا يبالغ، إذ أثبتت إحصائيات جديدة أن الجيل القديم مُحِق في نقطة واحدة على الأقل، هي الحياة الجنسية.
نشر موقع «سايكولوجي توداي» تقريرًا يعرض نتائج عديد من الدراسات التي أكدت أن جيل الألفية الجديدة والتسعينيات هم الأقل حظًّا في ممارسة الجنس، رغم أنه من المفترض أن يكون العكس هو الصحيح، في ظل اتجاه العالم نحو مزيد من الانفتاح والحرية في العلاقات الشخصية.
جيل الألفية مظلوم جنسيًّا
في عام 2015، تبين أن 41% فقط من طلاب المدارس الثانوية الأمريكية مارسوا الجنس، في حين كانت النسبة 54% عام 1991.
تقول الباحثة «جين توينج» إنها أجرت دراسة عام 2017 مع زملائها، وجدت فيها أن الجيل الحالي من الشباب، الذين وُلدوا خلال الفترة بين عامي 1980 و1994، لا يجدون شريكًا لعلاقة جنسية مثلما كان الحال بالنسبة لمواليد الستينيات والسبعينيات، وهو ما يثير القلق حول مستقبل العلاقات الجنسية للأجيال من مواليد الفترة بين 1995 و2012.
أشارت دراسة أخرى إلى أن 15% ممَّن تتراوح أعمارهم بين 20 و24 عامًا، أي مَن وُلدوا في التسعينيات، لم يمارسوا الجنس منذ أن بلغوا سن 18 عامًا، مقارنةً بنسبة 6% فقط من مواليد الستينيات، وهو ما دفع الباحثين إلى التطرق للأسباب المؤدية إلى تلك النتائج الباعثة على القلق.
نشرت صحيفة «واشنطن بوست» الأمريكية تقريرًا استطلعت فيه آراء الشباب حول أسباب عدم ممارستهم علاقات حميمة كأجيال آبائهم، وتفاوتت الآراء ما بين انشغالهم بأهداف وأنشطة أخرى، أو مجرد عدم رغبتهم في دخول علاقات جنسية دون ضوابط.
حتى في المجتمعات التي تنتشر فيها ثقافة ممارسة الجنس دون ضابط، تبيَّن انخفاض نسبة الشباب المنخرط في تلك العلاقات، وهو ما أكدته بيانات استقصائية نصف سنوية أصدرها مركز أمريكي لمكافحة الأمراض، أشارت إلى أنه في عام 2015 تبيَّن أن 41% فقط من طلاب المدارس الثانوية مارسوا الجنس، في حين كانت النسبة 54% عام 1991.
من الجاني، الدراسة أم التكنولوجيا؟
يصعب الحصول على إجابة مباشرة حول أسباب عزوف جيل الألفية عن نصيبهم من ممارسة الجنس، إلا أن النظر إلى تغيُّر الظروف المحيطة بالجيل الحالي يمكن أن يعطينا لمحة عن تلك الأسباب، ومن بين تلك التغيرات التي قد يراها بعضنا ذات تأثير في هذا الصدد: انشغال الشباب بتحقيق أهداف دراسية والتقدم في مراحل البحث العلمي بعد الحصول على الشهادة الجامعية، لكن هذا غير صحيح بحسب التقرير.
لا يمكن اعتبار الدراسة في حدِّ ذاتها سببًا لعزوف الشباب عن ممارسة الجنس، لأن شباب اليوم في سن العشرينيات أقل انهماكًا في استذكار دروسهم مقارنةً بعشر سنوات مضت، فقد ثبت أن طلاب المدارس الثانوية في العقد الحالي يقضون وقتًا أقل في أداء واجباتهم المدرسية مقارنةً بطلاب تسعينيات القرن العشرين، ونفس الحال بالنسبة لطلاب الجامعات.
لا بد أن نذكر ثورة التكنولوجيا الحديثة على مدار العقدين الماضيين، فقد أصبح الشباب اليوم أكثر التصاقًا بهواتفهم الذكية وأكثر انشغالًا بكتابة الرسائل النصية ومشاهدة مقاطع الفيديو ومتابعة تحديثات التطبيقات المختلفة معظم أوقات يومهم، فهذه الطريقة في التواصل مع الآخرين تحجب عنهم فرصًا كبيرة للتواصل على أرض الواقع، وبالتالي تحرمهم فرص الدخول في علاقة قد تتطور إلى ممارسة للجنس لاحقًا.
من ناحية أخرى، ربما يؤدي إدمان استخدام التكنولوجيا والعثور على المتعة فيها إلى تقليل جاذبية العلاقة الجنسية في نظر الشباب، فضلًا عن أن التكنولوجيا دخلت بقوة أيضًا في مجال توفير المواد الإباحية بسهولة ودون تكلفة، حتى أصبح بعض الشباب يكتفي بمشاهدة البورن، بل تعدى تأثيره إلى من يمارسون العلاقة الحقيقية، ليصيب بعضهم الإحباط عندما يفشلون في إيجاد متعة واقعية توازي ما وجدوه في الأفلام الجنسية.
قد يهمك أيضًا: لماذا يشاهد الرجال البورن؟
مِن بين التغيرات التي طرأت على الجيل الحالي تغيُّر التفكير في السن المناسب للزواج وإنجاب الطفل الأول، إذ يرتفع سن الزواج في كل جيل عن الذي يسبقه، حتى أصبح جيل الألفية يؤجل فكرة دخول علاقة جنسية بصورة غير مسبوقة، ويرضى أفراده بالعيش مع أُسَرهم حتى مرحلة متأخرة من العمر دون أن يجدوا حرجًا في ذلك.
اقرأ أيضًا: لماذا يصعب على جيل الألفية العثور على شريك حياة؟
جيل مستقل يعتمد على نفسه
يعزف بعض الشباب عن دخول علاقة حميمة لأنهم يخشون الأذى المعنوي أو الجسدي، ويفضلون حياة حرة تمامًا.
انتشر مؤخرًا مصطلح «Strong Independent Woman» لوصف النساء والفتيات اللاتي يخترن حياة العزوبية ويفضلنها على الانخراط في مشاكل الارتباط والتبعية المصاحبة للزواج، لكن انتشار ذلك المصطلح لا يعبر عن مجرد فكرة خطرت لأحد مستخدمي وسائل التواصل الاجتماعي، بل أصبحت تعبيرًا صريحًا عن ميل الجيل الحالي إلى مذهب فكري يُدعى الفردية.
يركز معتنقو فكر الفردية، بحسب التقرير، على أهدافهم ورغباتهم لتصبح قِيَمًا مستقلة عن القواعد والأعراف الاجتماعية، وتشمل مبادئ هذا المذهب الفكري: الحق في عدم ممارسة الجنس، وكذلك الحق في ممارسته.
يعني هذا اعتبار الجنس مثل غيره من التجارب الحياتية التي قد يستغني الإنسان عن خوضها أو يؤجلها إلى أجل غير مسمى، في حين كانت الأجيال الأقدم أكثر احترامًا لهذه التجربة، واعتبرتها مسارًا طبيعيًّا لحياة الإنسان ولن يكتمل مستقبله و«دينه» بدونها.
إضافةً إلى ذلك، يقتضي فكر الفردية المحافظة على سلامة الفرد الجسدية والعاطفية من الأذى، وهو ما يؤدي إلى عزوف الكثير عن الدخول في علاقة حميمة لأنهم يخشون الأذى المعنوي أو الجسدي، ويفضلون حياة حرة تمامًا من جميع العلائق التي قد تأتي مع التجارب الجنسية.
قد يعجبك أيضًا: العالم يتجه إلى العزوبيَّة
الجنس لمن يدفع أكثر
رغم أن مجتمعاتنا العربية ترفض بشدة ممارسة الجنس خارج إطار الزواج، فإن أنظمتنا المجتمعية بما تحمله من تشوهات فكرية جعلت الزواج الذي أحله الله ودعا إليه أشبه بالدعارة المقننة، عن غير قصد، لمَّا أصبح المستوى المادي للمتقدم للزواج هو المتحكم الأول في مصير علاقته الشرعية التي يمارس من خلالها الجنس.
اقرأ أيضًا: الزواج في مصر لمن يدفع فقط
حتى إن تلاشت أسباب عزوف الشباب عن الزواج في المجتمعات الغربية، فإن الأحلام المشروعة للشباب العربي تتحطم على صخرة الالتزامات المالية، ممَّا يؤدي في نهاية المطاف إلى نفس النتيجة، التي تتجلى في ظهور شعارات مثل «لا تتزوج.. اجمع المال وسافر» وغيرها، وهي شعارات لا تعبر عن قناعة فكرية بقدر ما تقدم مبررًا سطحيًّا لعجز شريحة كبيرة من المجتمع عن الوصول إلى هدف بات بعيد المنال.