في لقائهما الأول، أُعجب أحمد بذكاء سارة، وأحبت سارة دفء أحمد وابتسامته. تطورت العلاقة، لكن الشكوك كانت تهدد استمراريتها من وقت إلى آخر. كان أحمد يرعى طفلًا له من زواج سابق، وكانت أوضاعه المادية سيئة.
لم تلتفت سارة كثيرًا إلى هذا الأمر، فقد كانت شخصية أحمد الجذابة تعوض أي نقص آخر. رغم هذا، فإن أحمد لم يكن من ذلك «النوع» الذي تنجذب إليه سارة في العادة، إذ كانت تميل إلى الشباب الأصغر سنًّا، ذوي الأجسام الرياضية والملامح الجذابة.
من جانبه، كان أحمد يحلم بامرأة ميسورة الحال، لا سقف لطموحها، ذات وضع اجتماعي متميز وتعليم عالٍ، ويُفضَّل لو كانت تحمل شهادة دكتوراه، فقد جرت العادة أن يتزوج الرجل بامرأة أفضل منه.
هل هذا السيناريو لعلاقة رجل وامرأة منطقي؟ هناك خطأ ما. التصور العام الذي ساد لفترة طويلة، أن النساء تنجذب إلى الرجال ذوي الأوضاع المادية المستقرة، بينما يبحث الرجال عن امرأة جميلة الوجه والقوام.
لكن من يدري؟ لعل هذا يتغير يومًا ما. يسعى مقال نشر على موقع «Aeon» إلى استعراض الأسباب التي رسخت تلك التفضيلات لدى الرجل والمرأة، واستعراض احتمالية تغيير هذه الأنماط الفكرية في المستقبل، بالتزامن مع تحقيق درجة أعلى من المساواة بين الرجل والمرأة.
رأي: تفضيلات الرجل والمرأة فطرية
كثير من علماء النفس التطوري ينسبون هذا الميل في تفضيلات النساء والرجال إلى الدوافع البيولوجية الفطرية، ينطلق هذا التصور من أن لدى المرأة رغبة بدائية تدفعها إلى التعلق بالرجال الأثرياء لإعالة الأطفال خلال فترة الحمل والتربية الطويلة التي تمر بها. على الجانب الآخر، يهتم الرجل بخصوبة المرأة، وهو ما يستدل الرجل عليه من هيئتها وعمرها.
في الماضي البعيد، كان هذا السلوك من الرجل والمرأة غرضه التكيف، ولهذا اختارته عملية التطور وسجلته في جيناتنا «إلى الأبد». لكن الأكيد أن عملية التزاوج في العصر الحالي تختلف كثيرًا عما كانت في زمن أسلافنا.
يؤكد «ديفيد بس»، في كتابه «The Evolution of Desire» الصادر عام 2003، أن الاستراتيجيات الجنسية التي استخدمها أسلافنا هي ذاتها المتَّبَعة اليوم، ويراها «سيكولوجيا التزاوج» الوحيدة التي نمتكلها باعتبارنا كائنات فانية.
اقرأ أيضًا: كيف ننتقل بسلام من الحب الملتهب إلى الود والحنان؟
رأي آخر: تغيُّر الأدوار غيَّر التفضيلات
شهدت الأدوار الجندرية تحولًا كبيرًا خلال الخمسين عامًا الماضية، وفق كاتب المقال، وهو أستاذ في علم النفس. حتى ثمانينيات القرن العشرين، كانت مضيفات الطيران في الولايات المتحدة يتعرضن للفصل من العمل إذا تزوجن. لأن الزواج لا يتماشى مع المعايير المطلوبة في هذه الوظيفة.
في سويسرا، لم يُطبَّق حق المرأة في الانتخاب في كل أنحاء البلاد قبل عام 1990. هل كان لتغير أدوار الرجل والمرأة أي تأثير في تفضيلاتهما الخاصة بالتزاوج؟ أم إننا ما زلنا تحت رحمة طبيعة المهمات البيولوجية لكلٍّ من الرجل والمرأة وفق ما يقوله علماء النفس التطوريون؟
نتائج الأبحاث واضحة في ما يتعلق بهذه المساحة. إنها تشير إلى أن تفضيلات التزاوج لدى الرجل والمرأة أصبحت متشابهة بشكل متزايد. هذا المَنحى يرتبط بتزايد المساواة بين الرجل والمرأة، إذ أصبحت المرأة أكثر نفاذًا إلى الموارد والفرص في مجالات العمل والتعليم والسياسة.
في البلدان التي تعاني من مستوى أقل من المساواة، مثل تركيا، تعطي النساء قدرة الرجل على الكسب ضِعفَي درجة الأهمية مقارنة بأقرانهن في الدول التي تتمتع بمساواة أكبر.
في فنلندا مثلًا، والتي تتمتع بمساواة أكبر من تركيا، ربما تكون درجة التعليم التي حصلت عليها المرأة، عنصرًا مهمًّا يضعه الرجل الفنلندي في اعتباره عندما يختار شريكته.
يعترف علماء النفس بأن العوامل الثقافية والعادات المحلية يمكنها أن تؤثر في اختيار الأشخاص لشركاء حياتهم.
التعصب الجنسي أمر يتفاوت داخل المجتمع نفسه، وربما لا تترجَم المساواة بين الرجل والمرأة في المجتمع بشكل عام، إلى سلوكيات تطبق المساواة بين الأفراد في حياتهم الاجتماعية بالضرورة.
لكن إذا كانت تفضيلات التزاوج أمرًا تحدده البيولوجيا بشكل مسبق، وفق الرأي الأول الذي سبقت الإشارة إليه، فليس متوقعًا أن تؤدي سلوكيات التعصب الفردية إلى أي تأثير في اختيارات الطرفين في التزاوج وتفضيلاتهما.
لكن أبحاثًا جرت في تسع دول تثبت العكس. كلما كانت سلوكيات الرجال لا تعترف بفكرة المساواة بين الرجل والمرأة، فضَّلوا صفات مثل صغر السن والجاذبية الجنسية في النساء. وبالمثل، كلما كانت سلوكيات النساء لا تعتمد على فكرة المساواة، فضَّلن صفات مثل الغنى والوضع الاجتماعي المتميز في الرجال.
هذه الأدلة تشير إلى وجود أخطاء جسيمة في ما يدعيه علماء النفس التطوريون. فإذا كانت الجينات تحدد تفضيلاتنا في التزاوج، فكيف لهذه الغرائز التي يُفترض أنها راسخة، أن يتآكل أثرها أمام المساواة الجندرية على مستوى الأفراد والمجتمعات؟
علماء النفس التطوريون يعترفون بأن العوامل الثقافية والعادات المحلية يمكنها أن تؤثر في اختيار الأشخاص لشركاء حياتهم. لكنهم لا يرون المساواة أحد هذه العوامل، ذلك لأنه حتى في تلك المجتمعات التي حققت مساواة نسبية، تتقلَّص الفجوة بين الجنسين، غير أنها لا تتلاشى تمامًا.
المثير أن استمرار هذه الفجوة رغم كل شيء يعزز الرأي الثاني، وفق الكاتب، لأن الفوارق بين الرجل والمرأة ضاقت على نحو يحقق المساواة بينهما، لكن رأب هذه الفجوة تمامًا يتطلب مساواة كاملة بين الرجل والمرأة، وهو ما لم يتحقق حتى الآن. مجرد تغيير التفضيلات التزاوجية أصلًا، هو مؤشر مهم في رأي الكاتب على أن تفضيلاتنا ترتبط في كثير منها بالمناخ العام الذي نعيش فيه.
قد يعجبك أيضًا: كن متطلبًا في الحب: لا تستنزف نفسك في علاقة غير ناجحة
ربما لن تتطابق تفضيلات الرجل والمرأة أبدًا
لكن حتى في أكثر المجتمعات مساواة في الأدوار بين الرجل والمرأة، تظل الأدوار التقليدية للرجل والمرأة مستمرة. في دراسة دنماركية، وُجد أن هناك زيادة في معدل استهلاك الرجال أدوية تعالج الضعف الجنسي، في حالة حصول شريكتهم على معدل دخل أكبر.
أحد التفسيرات لنتائج هذه الدراسة رأت أن الرجال في هذه الحالة، كانوا واقعين تحت ضغط إظهار فحولتهم المترتب على فشلهم في أداء دور «العائل» للأسرة، فيما أشار رأي آخر إلى أن خسارة الرجل وضعية العائل أدت إلى ظهور هذه المشكلة.
التغييرات في طبيعة أماكن العمل، ومشاركة الآباء بشكل أكبر في رعاية الأطفال، قد تخفف من أثر الضغوط التي تدفع المرأة إلى التخلي عن بعض طموحها.
في دراسة أخرى في الولايات المتحدة، لجأت النساء غير المتزوجات إلى خفض سقف طموحاتهن المهنية والظهور بشخصية أضعف من حقيقتهن، لكي يصبحن مرغوبين من الرجال بشكل أكبر. رغم ما قد تثيره هذه الدراسات من قلق، فإن الكاتب يرى أن استمرار الرجال في إعطاء أهمية لتعليم النساء وقدرتهن على الكسب بشكل متزايد، ربما يدفع النساء إلى الكف عن اتباع هذه الأساليب لجذب الرجال.
هل ستكون تفضيلات الرجال والنساء عند اختيار الأزواج متطابقة لو تحققت المساواة الكاملة في مجتمع ما؟ لا يرى كاتب المقال أن اختيارات النساء والرجال ستتطابق بشكل كامل يومًا ما.
الفرق سيكون سببه أساسًا ودائمًا، متطلبات رعاية الطفل الملقاة على عاتق المرأة بعد الولادة، وهي عملية تستهلك نشاط المرأة ووقتها، ويصعب دمجها مع متطلبات العمل، على الأقل في ظل منظومة العمل بهيكلها الحالي.
قد تدفع متطلبات الأمومة المرأة إلى اختيار زوج صاحب دخل أفضل لتعويض هذا النقص المتوقع في دخلها. لكن لن يكون قرارها هنا مدفوعًا برغبة أولية في إيجاد زوج يتولى دور الحامي لها، فسيكون قرارًا مبنيًّا على حسابات منطقية خاصة باختياراتها المستقبلية المستقلة وتفضيلاتها الخاصة.
إضافة إلى ذلك، فإن السياسات الاجتماعية التقدمية، والتغييرات في طبيعة أماكن العمل، ومشاركة الآباء بشكل أكبر في رعاية الأطفال، قد تخفف من أثر هذه الضغوط التي تدفع المرأة إلى الإقدام على تنازلات مهنية والتخلي عن بعض طموحها.
يقول كاتب المقال إن طلابه يسألونه أحيانًا إذا كان الوصول إلى نقطة يتساوى فيها الرجل والمرأة، في ما يريدونه من الطرف الآخر في العلاقة، أمرًا مرغوبًا في الأصل، وسؤالهم يعكس تخوفًا من أن يأتي تحقيق المساواة على حساب مشاعر الحب. ثمة تخوف آخر من أن مساواة كتلك ربما تؤدي إلى تزاوج الأشخاص المتساوين، ما يؤدي بدوره إلى ترسيخ الفوارق الاقتصادية في المجتمع.
لكن تقرير الفجوة بين الرجل والمرأة، الصادر في عام 2017، يشير إلى أنه لا داعي للقلق، فوتيرة التغيير الحالية تشير إلى أنه علينا أن ننتظر مئة عام أخرى قبل أن نحقق مساواة كاملة.