في الوقت الذي تفرق فيه السياسة بين أفراد الشعوب، يعتقد كثير من الناس أن العلم يغدو قوة موحدة تعمل على تجميعهم، إذ تشير الإحصائيات في بلدان مثل بريطانيا وكندا والولايات المتحدة الأمريكية إلى أن العلماء من بين أصحاب المهن الأكثر احترامًا، ويقدر معظم المواطنين إسهامات العلوم في حيواتهم، في ظل فقدان الثقة المعتاد بالسياسيين والصحفيين.
لكن من المدهش أن هذه النظرة السطحية تثبت قصورها عند تحليلها، إذ أثبت الباحث في علم النفس «أليكس فراديرا»، في بحث عرض نتائجه على موقع «The British Psychological Society»، أن طبيعة الكتب التي يبتاعها الليبراليون تختلف اختلافًا كبيرًا عن التي يشتريها المحافظون، ممَّا يدفعنا إلى إعادة النظر في تصورنا عن العلم كقوة موحدة تتجاوز الخلاف السياسي.
منهج الباحثين
يقول فراديرا إن مقالًا منشورًا في إبريل 2017 في مجلة «Nature Human Behaviour» ناقش اختلاف الأفراد بشأن القضايا الاجتماعية المختلفة، في الوقت الذي يتفقون فيه جميعًا على العلم، غير أن النتائج التي توصل إليها المقال لم تكن بهذه البساطة، فرغم تقدير الأشخاص من مختلف التوجهات السياسية للنشاط العلمي، فإن أصحاب هذه التوجهات كانوا يقصدون على الأرجح علومًا مختلفة.
بحسب فراديرا، حاول باحثون من جامعة شيكاغو دراسة عادة شراء الكتب عند عشرات الملايين من الأمريكيين، عن طريق تحليل مجموعتين من البيانات تنتمي إلى موقعي «أمازون» و«بارنز آند نوبل»، وتوضح هذه البيانات أنماط شراء المستخدمين، وتساعد في تقديم ترشيحات لمنتجات أخرى مماثلة.
يهتم المحافظون بالفروع الأكثر تطبيقيةً في الكيمياء، فيما يتجه الليبراليون نحو علوم الحيوان، وفي علم الجريمة يقرأ كلٌّ منهم لمؤلفين مختلفين.
تتبع الباحثون أكثر من مليون كتاب في قواعد البيانات، في قرابة نصف مليون موضوع تشمل الفن والأدب والرياضة، بالإضافة إلى أكثر من 400 ألف كتاب علمي، وأخيرًا كتب سياسية.
استطاع الباحثون تصنيف الكتب السياسية إلى قرابة 600 كتاب ليبرالي بوضوح، و700 كتاب محافظ، ثم طرحوا السؤال: هل يجتمع قراء الكتب الليبرالية والكتب المحافظة على قراءة الكتب العلمية ذاتها؟
الكتب التي يفضلها اليسار واليمين
كانت الكتب العلمية عمومًا أكثر قراءةً من قِبَل قراء الكتب السياسية، قياسًا بقراء الأدب مثلًا، بغض النظر عن الأيديولوجية.
وكانت كثير من تخصصات العلوم، مثل الكيمياء والاقتصاد، ذات أهمية مماثلة لكلٍّ من القراء الليبراليين والمحافظين، غير أن عديدًا من التخصصات الأخرى كانت أكثر تفضيلًا من قِبَل فصيل واحد، فانصب اهتمام الليبراليين على الهندسة والأنثروبولوجيا والأحياء والفلك، وبدرجة قليلة الفيزياء، فيما اهتم المحافظون بالتخصصات التطبيقية مثل الطب والقانون وعلم المناخ.
بالتدقيق في العلوم التي يهتم بها الفصيلين بنفس الدرجة نجد الاستقطاب لا يزال يحدث، وفقًا للكاتب. ففي الكيمياء مثلًا، يهتم المحافظون بفرعها الأكثر تطبيقية، أي الكيمياء العضوية، بينما يتجه الليبراليون إلى علوم الحيوان، وفي علم الجريمة مثلًا، يقرأ كلٌّ منهم لمؤلفين مختلفين، غير أن علم الحفريات هو أحد استثناءات هذه القاعدة.
اقرأ أيضًا: 7 أسئلة تشرح أثر التحولات الثقافية في المجتمع
انتقاء الحقائق
تميل الكتب العلمية التي يقرأها المحافظون إلى تنوع أقل بحسب فراديرا، إذ تكرر مثلًا عدد ضئيل من كتب علم المناخ في قراءات المحافظين، في حين يميل الليبراليون إلى القراءة على نطاق أوسع، وتحتوي الخيارات المحدودة للمحافظين على نصوص هامشية لا تتعمق في الموضوع بدرجة كبيرة، ممَّا يفسر اهتمامهم بدرجة كبيرة بتغير المناخ، إذ كانوا يطلعون غالبًا على النسبة القليلة من الكتب التي تشكك في حدوثه، غير أنهم لا يقرؤون الأدبيات الأساسية للعلم.
توفر أنماط الشراء المجهولة الوصول إلى التفضيلات الحقيقية، ومعرفة معتقدات الآخرين التي لا تُظهرها الدراسات الإحصائية. ومع ذلك، قد تعكس النتائج الجديدة صورة غير واقعية عن اهتمامات الناس، لأن الخوارزمية التي يستخدمها «أمازون» و«بارنز آند نوبل» تدفع المستهلكين نحو شراء خيارات مماثلة لما اشتروه قبل ذلك.
قد يهمك أيضًا: كيف يُقمَع الإبداع في العالم العربي؟
توفر هذه البيانات دليلًا على الطريقة التي نتعامل بها مع العالم، إذ يرى الكاتب أن الألغاز العلمية جذابة لليبراليين، فيما يجذب حل المشاكل العملية المحافظين، في إشارة إلى تفضيلهم العلوم البحتة والتطبيقية على التوالي.
العلم سبيل لإيجاد الحقيقة، غير أن البحث بمنهج انتقائي لا يؤدي إلى حقيقة، مثل الأيديولوجيات السياسية المختلفة التي يرى كلٌّ منها صورة جزئية للعالم، ممَّا يعني أن هناك عالمًا غير مرئي دائمًا من الحقائق الجديدة التي تنتظر انتباهنا.