اللغة سُلطة تشريعية، قانونها اللسان، كما يعتبرها الفيلسوف والناقد الأدبي الفرنسي «رولان بارت»، ولا نلاحظها كسُلطة لأننا ننسى أن اللسان مُرغَم.
يضرب بارت في ذلك مثلًا من الفرنسية: «أنا مرغم على وضع نفسي كفاعل قبل أن أعبِّر عن الفعل، الذي لن يكون إلا صفة تُحمَل عليّ». وبالميزان نفسه، نحن في العربية مرغمون على الاختيار دائمًا بين المذكر والمؤنث، وعلى تحديد علاقتنا بالآخر عن طريق الضمائر مثلًا، وهكذا تكون اللغة بتعبير بارت «منطوية على علاقة استلاب قاهرة، علاقة إخضاع: اللغة توجيه وإخضاع معمَّمان».
اللغة تمارس حضورها
قد تكون مركزية المذكر في اللغة نابعةً من مركزية الرجل في المجتمعات العربية.
لا يشكل النحو بالنسبة إلى عالم اللسانيات الأمريكي «بنجامين ليي وورف» أداةً تسمح بالتعبير عن الأفكار وحسب، بل يوجه النشاط الذهني للفرد، ويرسم الإطار الذي تظهر فيه تحليلاته وانطباعاته وكل ما تعج به الفكرة، «إننا نجزئ الطبيعة انطلاقًا من الطرق والأساليب المرسومة من قِبَل لغتنا الأم»، أو كما يقول الفيلسوف الألماني هيغل: «نحن لا نفكر إلا داخل الكلمات».
يعترف الباحث إبراهيم محمود في كتابه «جماليات الصمت: في أصل المخفي والمكبوت» بأن اللغة العربية لم تكن حيادية يومًا، فتاريخ اللغة هو تاريخ اجتماعيتها وتاريخ بنائها الاجتماعي، لأنها «لم تكن يومًا فوق الطبقات أو الناس، إنما جسَّدت وعيهم الاجتماعي»، ومن هنا يقول إبراهيم محمود إن تاريخ اللغة العربية تاريخ ذكوري سلطةً وهيمنةً وضبطةً اجتماعيةً، ومركزية الرجل في المجتمع العربي تنبع من مركزية مُشرعَنَة باللغة: «اللغة العربية تمارس حضورها من خلال مركزية الرجل».
اقرأ أيضًا: الحركة النسوية والرجال: لماذا تستمر حرب عمرها 200 عام دون داعٍ؟
قد تكون مركزية المذكر في اللغة نابعة من مركزية الرجل في المجتمعات العربية، وقد يكون القصد من الاختلاف الذي قال به لسان العرب إن «التذكير غير التأنيث، والذكر خلاف الأنثى، والأنثى خلاف الذكر» له مقاصد غير حفظ الاختلاف، وربما يُقصد به ترسيم خارطة الفوارق بين الجنسين، ورسم المجال السياسي والفكري والاجتماعي واللغوي بما يتوافق مع مشيئة السلطان، وهيمنة الرجل، وهامشية المرأة.
أسطورة الأصل المذكر
أعلن النظام النحوي انفصال المؤنث عن جوهره وماهيته وهويته حين كُتب النحو، بزعم أنه فرع من أصل هو الأول والأقوى والأخْيَر.
يقول سيد قطب: «جُردت المرأة من كل الخصائص الإنسانية وحقوقها تحت تأثير رواية الضلع التي لا أصل لها».
يذكر ابن جني في كتاب «المذكر والمؤنث» أن «المذكر هو ما خلا من علامة التأنيث لفظًا وتقديرًا، وهو أصل المؤنث لأن المذكر أول، وهو أشد تمكنًا، وإنما يخرج التأنيث من التذكير. ألا ترى أن الشيء يقع على كل ما أخبَر عنه من قبل أن يُعلم أذَكر هو أم أنثى؟ والشيء ذكر». حتى أصبح هذا «الشيء» جسدًا كُلِّيَّ القدرة، عنه ينشق المؤنث انشقاق الضلع من جسد آدم في «سِفر التكوين»، ومنه يخرج المؤنث إلى الوجود.
هذا القياس على رواية الضلع مقتبس في النحو من تفسير النص القرآني «هُوَ الذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا» (الأعرف: 189)، و«يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا» (النساء: 1)، فيورد تفسير الجلالين أن المراد بالنفس الواحدة آدم، (وخلق منها زوجها) حواء، بالمد من ضلع من ضلوعه اليسرى.
قد يعجبك أيضًا: لماذا تحول البشر من عبادة الإلهة الأنثى إلى تذكير الإله؟
يورد سيد قطب في كتاب «في ظلال القرآن» أن «كل الروايات التي جاءت عن خلقها (حواء) من ضلعه (آدم) مشوبة بالإسرائيليات ولا نملك أن نعتمد عليها، وليس للضلع ذكر في أية سورة قرآنية، ولقد تخبطت البشرية في هذا التيه طويلًا، جردت المرأة من كل الخصائص الإنسانية وحقوقها تحت تأثير تصور سخيف لا أصل له، ونسيت أنها إنسان خُلقت لإنسان، ونفس خُلقت لنفس، وشطر مكمل لشطر».
تذكر الباحثة والروائية نزهة براضة في كتابها «الأنوثة في فكر ابن عربي» أن ابن عربي يقول: «يُلغى التمييز بين المرأة والرجل كما يلغى بين الشقيقين» على شرحه لحديث «النساء شقائق الرجال»، وأن «الشِّق» هو النصف من كل شيء، فعلام يعوِّل النحو في فرعية المؤنث إذًا؟
كيف تحكمنا الاستعارة؟
في خصائص ابن جني بابان عن المجاز والحقيقة، أحدهما باب أن المجاز إذا كثُر لحق بالحقيقة. ويعرِّف ابن جني الحقيقة بأنها «ما أُقِر استعماله على أصل وضعه في اللغة». والاستعارة بتعريفها كنوع من المجاز هي تشبيه حُذف أحد طرفيه (المشبَّه أو المشبَّه به)، ويعتبرها ابن جني من اتساع الكلام، ويقيدها بشرط أن لا تكون إلا مبالغة، وإلا فهي حقيقة.
اقرأ أيضًا: كيف شكلت اللغة العربية والإسلام الهوية المصرية؟
يقول أستاذ علم الأعصاب واللسانيات «جورج لايكوف»، وأستاذ الفلسفة والآداب «مارك جونسون»، في كتابهما «الاستعارات التي نحيا بها» أن «النسق التصوري العادي الذي يُسيِّر تفكيرنا وسلوكنا له طبيعة استعارية بالأساس»، بمعنى أن النسق التصوري يلعب دورًا مركزيًّا في تحديد حقائقنا اليومية.
إذا كانت الاستعارة التي بنى عليها النحو فرعية المؤنث هي فرعية حواء من ضلع آدم، فلا يكون المؤنث فرعًا وحسب، بل وجودًا منقوصًا قاصرًا بطبيعته.
حين يستغل ابن جني باب لحاق المجاز بالحقيقة فيقول إن الاستعارة تلحق بالحقيقة متى اتسعت وشاعت، وحين تكون الطبيعة الاستعارية للغتنا جزءًا فعليًّا من حقيقتنا اليومية، حينها تغلب الاستعارة الحقيقة.
هل من المنطق في شيء أن يستنبط النحاة قاعدة الأصل والفرع في باب التأنيث والتذكير على أساس استقراء باطل؟
تقول الأديبة اللبنانية يسرى مقدم في كتاب «الحريم اللغوي»: «هكذا تنجح الاستعارة في إبدال الحقيقة، وتُقنع بما ينقضها، لا على مستوى تجميل الكذب، بل بما يؤصل مفهومًا أو عرفًا أو شريعة».
فاستبدلت الاستعارة حقيقة المؤنث، وأصبحت بديلا أبديا يحل محل ماهية المؤنث الأولى. أصبح المؤنث ضلعا لا إنسانا.
هكذا حكمت الاستعارة المؤنث، حكمت ماهيته وحكمت واقعه.
سلطان السيد المفرد
بحسب القرآن، النفس هي أصل النوع البشري، والنفس مؤنثة، وتوجه يسرى مقدم سؤالًا إلى الفقه النحوي: لِمَ أنَّثت الآية اجتماع النوع الإنساني بينما غلبت على الأحكام النحوية صيغة التذكير في شتى أشكال اجتماع الذكر والأنثى، حتى لو ضم اجتماعها ذكرًا واحدًا وما لا يحصى من الإناث؟
لِمَ أهمل المفسرون النص وارتجعوا في تأويله إلى حديث الضلع؟ وكيف تقدم التأويل على المرجع؟ وهل من المنطق في شيء أن يستنبط النحاة قاعدة الأصل والفرع في باب التأنيث والتذكير على أساس استقراء باطل، أو في الحد الأدنى ضعيف؟
هل هذا تجاهل/تحريف بقصد أو بغير قصد للقاعدة التي تقول في كتاب «في أصول النحو» لسعيد الأفغاني: «القرآن هو النص الصحيح المجمَع على الاحتجاج به في اللغة والنحو والصرف وعلوم البلاغة»، أو الواردة في «تاريخ النحو العربي في المشرق والمغرب» أن «النص القرآني يتضمن جميع أُسُس القواعد النحوية، وكل قاعدة نحوية ليس لها أساس في القرآن ليست من العربية في شيء».
هل لنا أن ندَّعي على علماء النحو انحيازًا ذكوريًّا حوَّل الإنسان إلى ذكر كلي فاضت عنه الأنثى الناقصة بما ينعكس على المجتمع من سلطة ذكورية؟ وكيف للغة أن تتأنث ما دامت تخضع لإمرَة نظام فوارقي صريح يكبلها بقواعد وثوابت صنمية، هي ترجمة حرفية لمشيئة الفكر الذكوري التفاضلي المنتِج لكل البِنَى المعرفية السائدة؟
ربما بدأ الفارق الاجتماعي العربي بين الذكر والأنثى من هذا الانتهاك للمؤنث، حتى صار «المذكر الأصل والمؤنث الفرع» مفهومًا اجتماعيًّا، و«ثبت سلطان السيد المفرد الواحد المذكر الرجل».
قد يهمك أيضًا: تاريخ الصراعات الداخلية للحركة النسوية
الإنسان المثنى
طرح مقال لأستاذ العلوم اللغوية في الجامعة اللبنانية، الدكتور عصام نور الدين، نُشر في جريدة «السفير» عام 1997 الموضوع نفسه.
يقول نور الدين إننا إذا توسَّمنا في المقولة الأفلاطونية عن الأنفُس المقسومة اقترابًا من تفسير النفس الواحدة لآية سورة النساء المنشقة نصفين متكافئين، يختلف أحدهما عن الآخر لكنهما ليسا متضادين، ولا ينطبق عليهما ما تسميه علوم البلاغة «الطِّباق» لأنهما متتامان ومتكاملان ويشكلان مجتمعين: الإنسان (المثنى- إنس + إنس). وقد يكون في ذلك سبقٌ للعرب وتجسيد لعبقريتهم وأصالتهم.
تقول النسوية سوزان هيكمان إن الحل أمام المؤنث يكمُن في مراوغة اللغة واستغلال الثغرات لزحزحة الخطاب اللغوي الفوارقي بخطاب ينقضه.
لكن نظام السيد المفرد استهان بالقرين الشق المؤنث، مفرِّطًا بالمثنى، ومختزلًا الإنسان في واحد مفرد مذكر، نظام موثق بقواعد الصرف والنحو.
تتساءل يسرى مقدم: «هل يُجدي بعد الآن أي حديث فخري بعربية ما عادت هي نفسها اللغة الأم، إذ لم تعد أمومة اللغة تمثيلًا يصنع أمومة المؤنث الإنسان؟».
هل تستعيد اللغة المؤنث؟
تقول النسوية «سوزان هيكمان» إن الحل أمام المؤنث يكمُن في مراوغة اللغة، واستغلال الثغرات «لزحزحة الخطاب اللغوي الفوارقي المهيمن بخطاب ينقضه»، وكشف الحقائق ودحض اللغط. وبتعبير بارت: «لا يتبقى لنا إلا مراوغة اللغة وخيانتها، هذه الخيانة الملائمة، هذا التلافي والهروب، هذه الخديعة العجيبة، التي تسمح بإدراك اللغة خارج سُلطتها، في عظمة ثورة دائمة للغة، هذا هو ما يطلَق عليه الأدب».
ترتكز بعض المدارس النسوية إلى أن أصل التفرقة بين المرأة والرجل كامن في اللغة.
العمل الأدبي تمثال لغوي في جوهره وفقًا للفيلسوف «جان بودان»، فنحن لا نعبِّر عن أفكارنا وحسب، لا نتكلم اللغة وحسب، بل إن اللغة تتكلمنا كما قال أستاذ اللغة الإنجليزية «جان جاك لوسركل» في كتابه «عنف اللغة». فاللغة ليست بناءً منضبطًا منتظمًا مطلقًا، وعلينا أن نعرف أن عالمنا بكل ظواهره وخفاياه، وتناقضاته وفوضويته، هو لغتنا.
قد يصبح الأدب ثورة المؤنث إذا فهمنا كلام الشاعر السوري أدونيس: «العالم في تغير دائم، في تجلٍّ دائم، والهوية إنما هي خلق، وأن نكتب العالم لا يعني أن نصِفَه كما هو، بل يعني أن نخلق علاقات جديدة مع الكلمات ومع الأشياء».
ما يُضفي أهمية فريدة على الكتابة أنها تهدم وتعيد البناء، وتنزع أقنعة الزيف. علينا أن نكتب من أجل تدمير كل كذب بغية تجاوزه، أن نمارس كل الكتابة، في كل الأوساط التي قد تغير بنية التفكير، على الجدران والورق، والمساحة الرقمية، من أي مكان يطل على فرصة لاستعادة المؤنث من العقل المنحاز إلى السيد المذكر.
ترتكز المدرسة النسوية ما بعد البنيوية إلى أن أصل التفرقة بين المرأة والرجل كامن في اللغة، لأن اللغة هي التي تقوم بالتأنيث والتذكير، منتجةً قسمة لغوية ثقافية جائرة، تُذَكر على سبيل المثال «الذكاء» وتؤنث «الحساسية»، تحكر المؤنث والمذكر على حد سواء في زاوية ضيقة، فلا يبكي الرجال، ولا تفكر النساء. تدعو هذه المدرسة إلى تحرير المفرد من قهر التفرقة.
إحدى ممثلات هذه المدرسة، الناقدة اللسانية «إلين شوالتر» التي يعدها بعض الناس مؤسِّسة النقد النسوي، تصف الأدب النسوي بأنه «نقش الأنثى واختلافها على اللغة والنص».
تمثل الكاتبة الكويتية ليلى العثمان في قصتها «لعبة في الليل» نموذجًا ذكوريًّا في شخصية امرأة، في شخصية زوجة الأب المستبدة في الحكاية، فالمسألة ليست مسألة ذكر وأنثى بالتحديد، بل مسألة طبيعية ذكورية مستبدة، وطبيعة نسوية مقاومة عن حقها الشرعي في المفرد.
وللأديبة المصرية رضوى عاشور ملحوظة في دراستها النقدية في أعمال غسان كنفاني عن رواية «أم سعد»، أنها رأت منه قصورًا في تقديم صورة المرأة الثورية، مركزةً أنها لا تعني في ملحوظتها بناء الشخصية الروائية لأم سعد، لكنها تعتب على غياب نموذج حقيقي.
لأم سعد في الرواية ولدان: سعد وسعيد، أحدهما فدائي والآخر شبل، فهل لو استبدل غسان بنتًا أنثى بأحد الأخوين لكان قد أعطاها الدور الذكوري نفسه؟ أم اكتفى بتنصيبها أخت الأخ الثوري؟ ولماذا لا نجد نموذجًا للمرأة في صفوف الكفاح المسلح للثورة الفلسطينية في روايات غسان مع أنه موجود في الحقيقة فعلًا؟
الأدب النسوي والنقد النسوي قادران على مواجهة الذكورية في الأدب واللغة ومنهما إلى المجتمع. أدب ليلى عثمان وفاطمة المرنيسي وغادة السمان وغيرهن، وكلنا. «ما من شك في أن ثورة جديدة أضحت ضرورية إذًا، ثورة تضع إبداعية الإنسان في المركز، وترى الكون والعالم بوصفه مجتمعًا إنسانيًّا واحدًا».