هذا الموضوع ضمن ملف «الثورة والثوار». لقراءة موضوعات أخرى في الملف اضغط هنا.
استيقظ العالم في السابع من مارس 2017 على وقع كشف جديد من «ويكيليكس»، حين نشر الموقع، المتخصص في تسريب تقارير ووثائق سرية مجهولة المصدر، ما يقارب تسعة آلاف وثيقة تكشف خطط وكالة المخابرات المركزية الأمريكية (CIA)، بالتعاون مع مكتب الاتصالات الحكومية البريطانية (GCHQ)، للتجسس على مستخدمي الهواتف الذكية وأجهزة الكمبيوتر، وحتى التليفزيونات الذكية، في الفترة من 2013 إلى 2016.
لم تكن تلك المرة الأولى التي تُكشف فيها وثائق وصور تخص الولايات المتحدة أو غيرها على الملأ، فقد تابع العالم في الأعوام الأحد عشر الماضية مواقع مثل «ويكيليكس» ومؤسسه «جوليان أسانج» (Julian Assange)، والعديد من الناشطين في مجال الشفافية أمثاله، الذين يرون أهمية تسريب معلومات حكومية سرية بغرض إظهار «الوجه الحقيقي» للسلطات الجائرة، وبالتالي محاسبة أصحاب القرار.
عاد مجتمع الاستخبارات الأمريكي إلى قفص الاتهام مجددًا بعد التسريبات الأخيرة، التي تُعدُّ الأكبر منذ ما كشفه «إدوارد سنودن» عام 2013 بشأن برنامج تجسُّس سري يُدعَى «بريزم»، صممته حكومة الولايات المتحدة لمراقبة اتصالات الهواتف والإنترنت، ممَّا فتح أعين العامة على تفاصيل وسائل التجسس التي طالما حاولت حكومات أمريكا وبريطانيا التكتم عليها.
كما شهد العالم نشاطات أخرى مماثلة لأناس مثل «آرون سوارتز» و«تشيلسي مانينغ» وكثيرين غيرهم، ممَّن خاطروا بحيواتهم وأعمالهم وحرياتهم ليكشفوا للبشرية ما الذي يدور في الغرف المغلقة للحكومات، فلماذا يسرب هؤلاء تلك الوثائق السرية؟ وهل يجب أن نعتبرهم أبطالًا أم خونة لدولهم وللنظام العالمي؟
جوليان أسانج.. كيف بدأ كل هذا؟
بدأت علاقة جوليان أسانج بالتكنولوجيا في عيد ميلاده السادس عشر، حين أهدته والدته جهاز كمبيوتر من طراز كومودور 64، فصار من وقتها مولعًا بالحواسيب.
انكبَّ أسانج على تعلُّم كتابة الأكواد البرمجية واستكشاف العالم الافتراضي، بسلاسة مكَّنَته من أن يصير ضليعًا في مجال اختراق أنظمة الكمبيوتر وتصميم برامج التجسس والقرصنة رغم استخدامه جهاز مودم شديد البطء، لأن الإنترنت لم يكن قد ظهر بعد.
هذا ما فعله عندما زرع الديدان الإلكترونية (WANK Worms) مع أصدقائه في حواسيب وكالة الفضاء الأمريكية «ناسا» ووزارة الطاقة الأمريكية عام 1989، لتخريب مهمة إطلاق مكوك فضائي يعمل بوحدات طاقة تعتمد على مادة البلوتونيوم المشعة، معرضًا سكان ولاية فلوريدا للخطر.
اقرأ أيضًا: تجربة عملية تفضح مدى هشاشتنا أمام قراصنة الإنترنت
يحكي أسانج، الأسترالي الذي وُلد عام 1971، في حديثه لصحيفة «الإندبندنت» البريطانية، عن متعة السَّطو على الأنظمة شديدة الحماية: «عندما نجحت لأول مرة في الاختراق كانت متعتي تضاهي ما يشعر به طفل فاز على شخص بالغ في لعبة شطرنج. لا أصدق أن هناك أشخاصًا لا يجدون متعةً في هذا الأمر».
صار جوليان الشاب مخترقًا بارعًا في أوائل تسعينيات القرن العشرين، وكان يتحدى نفسه باكتشاف نقاط ضعف شبكات الحماية لدى أهم وأكبر منظَّمات العالم، التي تمتلك أنظمة يُفترض أن تكون عصيَّة على الاختراق، مثل وزارة الدفاع الأمريكية (البنتاغون) والجامعات والبنوك وشركات الاتصالات والإلكترونيات العالمية.
يقول: «الأمر يشبه أن تنقل نفسك لحظيًّا إلى وسط البنتاغون، وتمشي في ممرات البناية وتتحكم في أنظمتها وأنت في مكانك».
الدرس الذي أدركه أسانج.. حتى حين
رغم ولع جوليان أسانج بهذا العالم الافتراضي منذ مراهقته وتفانيه في تعلُّم كل جديد فيه، فإنه على أرض الواقع كان غير منتظم في مدرسة واحدة بسبب تنقل والدته الدائم بين المدن الأسترالية، بعد أن تركت والده وتزوجت رجلًا آخر، وعزز ذلك عدم إيمانه بأهمية الدراسة، فلم يُنهِ المرحلة الثانوية لأنه لم يرَ ضرورةً لذلك بالأساس.
مع بلوغه عامه العشرين، استبدل أسانج بتحصيل الدراسة ممارسةَ هوايته المفضلة في اختراق الأنظمة، حتى إنه تعاون عام 1991 مع مجموعة من أصدقائه للتجسس على مقر أجهزة شركة الاتصالات الكندية «نورتيل» في مدينة ملبورن الأسترالية، فوجد نفسه فجأةً يواجه 31 تهمة إلكترونية.
كان جوليان معرَّضًا لعقوبة تصل إلى السجن لعشر سنوات، لكنه اعترف بـ25 تهمة فحُكم عليه بغرامة مالية بسيطة قدرها 1200 دولار وأُخلِيَ سبيله.
قلبت هذه الحادثة طريقة تفكيره، فتوقف تمامًا عن الاختراقات العشوائية وقرر توظيف مهاراته في القرصنة لغرض نبيل، فساعد الشرطة الأسترالية عام 1993 في القبض على مجموعة من المشتبه بهم في قضية أفلام أطفال إباحية، وطوَّر منذ 1996 بعض البرامج الإلكترونية مثل «Strobe»، الذي يُسهم في كشف التنصُّت على المواقع عن بُعد عبر تحديد منافذ الاتصالات (TCP) في تلك المواقع.
قد يهمك أيضًا: نضال القراصنة: بين الصراع من أجل الخير والعدالة أو الفوضى التامة
في عام 1997، بدأ أسانج يهتم ببروتوكول التشفير (Cryptographic Protocol) أو أسلوب ترميز البيانات إلكترونيًّا، لاعتقاده في قوة التشفير كأداة للتصدي للدول القمعية، التي اعتادت احتكار أساليب فك الأكواد البرمجية للتجسس على الآخرين. تحدى جوليان قدراته بتعلُّم أساليب التشفير وأمن الشبكات بنفسه، وكسب الرهان وصار أحد أهم خبراء التشفير في بلده، وتسلم إدارة منتدى «AUCRYPTO» الأسترالي الخاص بتداول الشفرات بين محترفي الاختراق الإلكتروني.
بعدها بعام، افتتح أسانج شركة «Earthman Technologies»، المتخصصة في تطوير تقنيات كشف اختراق الشبكات، معتمدًا على خبرته الطويلة في مجال القرصنة وبرمجة شفرات الكمبيوتر، لكن الشركة لم تستمر طويلًا، فبعد سنتين من الافتتاح تخلى عنها سعيًا وراء شغفه الجديد، الذي كان على وشك تغيير حياته والعالم إلى الأبد.
«ويكيليكس»: أزمات دبلوماسية متتالية
في 1999 كان أسانج قد بلغ الثامنة والعشرين، وكانت شبكة الإنترنت آخذة في الانتشار حول العالم لتعلن بداية عصر رقمي جديد. في ذلك العام، قرر الرجل إنشاء منصة ينشر عبرها ما يكتشفه من نتائج في أثناء عمله على أمن الشبكات والتشفير وإدارة منتدى «AUCRIPTO»، فسجَّل موقعًا جديدًا تحت عنوان IQ.org.
وضع جوليان على موقعه أول نتيجة صادمة عثر عليها وهو يتحقق من متانة دفاعات شبكة وكالة الأمن القومي الأمريكية (NSA)، إذ عرف أنها اخترعت تقنية جديدة تسمح لها بالتنصُّت على جميع المكالمات الهاتفية الدولية، عن طريق استغلال شبكات تجسس موجودة في أماكن متفرقة من العالم منذ أيام الحرب العالمية الثانية تُدعى «Echelons»، وفق اتفاقية قديمة مع الدول الحليفة للولايات المتحدة.
قد يعجبك أيضًا: كيف يمكن للإنترنت أن يُحدث ثورة حقيقية في حياتنا؟
يقول أسانج في حوار سابق له مع صحيفة «الغارديان»: «كلما كانت المنظَّمة سرية وغير عادلة، أحدث التسريب وقعًا أكبر بين القيادات وزُمرة التخطيط، ويرجع ذلك بكل بساطة إلى كَوْن الأنظمة غير العادلة ميَّالة بطبيعتها إلى قمع المعارضين، ومِن ثَمَّ فإن التسريبات تترك تلك القيادات في وضع مهزوز أمام الذين يرغبون في أن يستبدلوا بها أنظمة شفافة ومنفتحة أكثر».
سبَّبت تسريبات أسانج عن السعودية وأمريكا أزمات دبلوماسية عالمية ضخمة.
تَحوَّل موقع IQ.org إلى ما بِتنا نعرفه اليوم باسم «ويكيليكس»، الذي أطلقه أسانج رسميًّا عام 2006، وبدأ عبره في نشر وثائق ومواد شديدة السرية والحساسية لعديد من الكيانات المعروفة.
كانت أشهر تسريبات الموقع التي اهتم بها العرب هي ما يتعلق بتفاصيل حرب العراق وأفغانستان عام 2010، التي كشفت جرائم ارتكبتها الولايات المتحدة بحق مدنيين عُزْل.
وفي العام نفسه، سرَّب الموقع البرقيات الدبلوماسية الأمريكية التي أُطلق عليها اصطلاحًا «US Cables»، وهو ما تسبب في أزمة دبلوماسية عالمية وتوتُّر في العلاقات الدولية، بسبب حساسية بعض البيانات المذكورة. الأمر نفسه تكرر بعد نشر «ويكيليكس» ما سُمِّي «تسريبات السعودية»، التي احتوت على برقيات سفارات المملكة حول العالم، ممَّا أثار علامات استفهام حول كثير من المواقف التي اتخذتها السعودية في ما يتعلق بالقضايا والتهم المذكورة في الوثائق.
هل ينجو جوليان أسانج؟
بعد نجاح مهمة جوليان أسانج في نشر تلك الوثائق، والوقع الكبير الذي خلَّفته التسريبات على علاقات الدول والحكومات، التي وجدت نفسها مُساءَلةً أمام العالم أجمع، وجد الرجل نفسه ملاحَقًا من حكومة الولايات المتحدة، التي رأت في «ويكيليكس» تهديدًا لأمنها الوطني.
وبالتوازي مع ذلك، برز إلى السطح هجوم جديد ضد أسانج لكن من جانب الحكومة السويدية، التي اتهمته عام 2010 بالاعتداء جنسيًّا على امرأتين في العاصمة ستوكهولم.
كانت التهم الجديدة أشبه بمواجهة الفضيحة بالفضيحة، وهو ما رفضه المبرمج الأسترالي ونفاه مرارًا، وذكر أنها كانت علاقات عابرة حدثت بتراضي الطرفين، وأن الأمر برُمَّته ادعاء كاذب بهدف ترحيله إلى الولايات المتحدة.
اقرأ أيضًا: 3 مشاهير احتقروا النساء وعظَّمتهم الجماهير
ظلَّ أسانج وقتها في بريطانيا ورفض الذهاب إلى السويد من أجل الخضوع للمحاكمة، لشعوره بالتهديد وبأن هناك أمرًا يُحاك ضده. كانت خياراته محدودة: إما تسليم نفسه للمحاكمة وإما الهرب من الإنتربول، ممَّا اضطره إلى تقديم طلب لجوء إلى سفارة الإكوادور في بريطانيا عام 2012، مستغلًا علاقته القوية بالرئيس الإكوادوري «رافاييل كوريا»، الذي وافق على منحه اللجوء.
الآن وقد اقتربت فترة رئاسة كوريا من الانتهاء، أصبح أسانج مهددًا مع بدء التحضير للانتخابات في الثاني من إبريل 2017، إذ تعهد المرشح اليميني لرئاسة الإكوادور، «لينين مورينو»، بأن يطلب من أسانج الرحيل عن السفارة التزامًا بالمواثيق الدولية، وهو ما يعني ترحيله إلى السويد ثم تسليمه للولايات المتحدة بتهمة التجسس، وإيداعه السجن.
واليوم، ورغم الضغط السياسي الرهيب الذي يتعرض له جوليان أسانج من كل جهة، لا يزال متمرد الإنترنت الأسترالي قابعًا بين جدران غرفة صغيرة في مقر السفارة، يدير منها أعمال «ويكيليكس» ويتواصل مع العالم بالصوت والصورة. لقد صار حُرًّا في العالم الافتراضي الذي أحبَّه، لكنه حبيس جدران العالم الحقيقي الذي يسعى لجعله أفضل.