الملاكمة رياضة تزدهر وتمضي قدمًا في جو من التنافس. ولا يمكن أن يوجد قتال في المقام الأول دون نوع من الخصام والمنازعة بين إنسانين.
كان ذلك، ولا يزال، أحد أهم السمات التي تجذب الناس إلى هذه الرياضة. ولعله لم يوجد تنافس يجسد روعة الملاكمة وجمالها ووحشيتها أكثر من الثنائي محمد علي كلاي وجو فريزر (تُنطق فريجَر بتعطيش الجيم). ملاكمان قاتلا بأسلوبين مختلفين تمامًا، لكن بالشراسة ذاتها. أحدها صاحب لسان لاذع، رآه كثيرون متعجرفًا، والثاني ملاكم كتوم لم يتراجع من نزال قط. ارتقت مواجهاتهما بالملاكمة إلى مستوى لم يحلم به أحد، مستوى قد لا تبلغه مرة أخرى أبدًا.
مهارات محمد علي العالية في الملاكمة، وسامته، وبراعته في الحديث أمام الكاميرات، إلى جانب امتلاكه مفاتيح الدخول إلى قلوب الناس، رفعته إلى مكانة عالية وجعلته بطلًا أمام أنظار العالم. لكن علي كان كل شيء عدا «البطل» في علاقته بجو فريزر.
علي في زمن يُفتقد فيه الأبطال
كان علي ابن زمانه. فبعد اغتيال الرئيس «جون كينيدي» عام 1963، أصبحت هذه البلاد المفجوعة في أمسِّ الحاجة إلى أبطال. في البداية وجدتهم في البيتلز، وخصوصًا بعد أدائهم الأسطوري على التلفزيون الأمريكي قبل شهرين من الاغتيال. لكن بعدها بأسبوعين ظهر «كاسيوس كلاي»، البالغ من العمر 22 سنة، ليهزم «سوني ليستون» في نزال على لقب بطولة العالم للوزن الثقيل، وينتزع اللقب منه.
فاجأ هذا النصر كثيرين، لكنه كان فوزًا مقنعًا، فكاسيوس كلاي أطول وأرشق وأكثر شبابًا وسرعة من ليستون. علَّق علي بعد فوزه قائلًا: «لقد أحدثت زلزالًا في العالم».
سرق كلاي الأضواء بشخصيته المتهورة ومظهره الجذاب، وقد أعطت شهرته ونجاحه دفعة إضافية إلى الأمريكيين الأفارقة في وقت بلغت فيه حركة الحريات المدنية أوجها، وجيل أصبحت عبارة «الأسود جميل» شعاره. عندما انضم إلى حركة أمة الإسلام غيَّر اسمه إلى محمد علي، ورفض تجنيده في الجيش الأمريكي باعتباره معارضًا مبدئيًا. أصبح علي محور اهتمام مشترك بين عدد من الثقافات. بطلا لليبراليين المعارضين للنظام والمحتجين على حرب فيتنام، وشخصًا منبوذًا بين المحافظين.
كانت أمريكا تمر بتغيرات سريعة. ففي البداية احتقر الجمهور كاسيوس كلاي، لكن عبقرية علي تجلت في إدراكه السريع أن البلد بحاجة لأبطال، ورأى نفسه على الفور مناسبًا للعب هذا الدور. كان قد سبقه في ذلك «جورجوس جورج» المصارع الذي لمع نجمه في الأربعينيات، فقد تفطن جورج إلى أن المصارعة تعتمد على الأبطال والأشرار، مفهوم يعود إلى تراجيديات الإغريق القديمة: كل بطل يحتاج إلى غريم.
قد يهمك أيضًا: «فلويد مايويذر»: الملاكمة على طريقة عازفي الجاز
لا بطل دون أشرار
ما إن أصبح علي بطلًا حتى انهمك في خلق الأشرار طيلة مساره المهني.
خارج الحلبة، سهَّلت الحكومة الأمريكية مهمته عندما أدانته بتهمة التهرب من التجنيد، وسحبت منه رخصة الملاكمة التي كان يكسب بها عيشه. داخل الحلبة، عرف كيف يجعل من خصومه أشرارًا: «ليستون» و«إيرني تيريل» و«جورج فورمان» و«ليون سبينكس» و«كين نورتون». فقط عندما رحل عن الحلبة إلى الأبد بلسان متثاقل وجسد مرتعش، انتفت الحاجة لوجود أشرار.
نجح علي في أن يقلب عددًا من الأمريكيين السود على فريزر، ما تسبب في أن تصل جو تهديدات مجهولة تنذره بقتله وقتل عائلته.
لكن خلال سنوات ملاكمته، عامَل علي رجلًا واحدًا أسوأ من الآخرين مجتمعين: جو فريزر.
أصبحت منافسة علي-فريزر إحدى أعظم المناسبات الرياضية في القرن العشرين، وكانت بالنسبة إلى أمريكا المكافئ في عالم الملاكمة «لليانكيز-ريد سوكس» أو «اللايكرز-سيلتيكس»، أما الآن فهي أقرب ما يكون إلى مباراة ريال مدريد مع برشلونه.
انطلق علي في حملته المسعورة وشيطنته لفريزر الذي أصبح أسوأ شرير على الإطلاق. لكن محمد علي هو الشرير الحقيقي في هذه القصة. لقد نعت فريزر بألقاب عنصرية مروعة، مثل العم توم (شخصية خيالية من رواية هيريت ستو أصبحت رمزًا للشخص الأسود الخاضع للبيض أو الذي يشارك في قمع بني قومه).
بينما صوَّر نفسه بطلًا للأميركيين الإفريقيين، كان فريزر في قصته مجرد بيدق لأمريكا البيضاء.
نجح علي في أن يقلب عددًا من الأمريكيين السود على فريزر، ما تسبب في أن تصل جو تهديدات مجهولة تنذره بقتله وقتل عائلته. الصحفي «بريانت غمبل» الذي انضم إلى حملة علي كتب مقالًا جاء فيه: «هل جو فريزر بطل أبيض ذو بشرة سوداء؟».
لكن الواقع كان مختلفًا كل الاختلاف. فقد ترعرع فريزر في ريف كارولينا الجنوبية رفقة 11 أخًا وأختًا، في ظروف أشد فقرًا بكثير من ظروف نشأة محمد علي، قبل أن ينتقل إلى فيلاديلفيا. كان فريزر كل شيء عدا العم توم. عُرف بأنه رجل متواضع وفخور بأصوله وانحداره من الطبقة العاملة. عندما حاولت الحكومة تجميد رخصة محمد علي في حملتها لتدميره، وقف فريزر بجانبه وسانده ومعنويًّا، وأعطاه المال كي يستطيع النجاة، وشهد لصالحه في الكونغرس، وتوجه إلى مكتب الرئيس «ريتشارد نيكسون» ملتمسًا منه السماح لعلي بالعودة إلى الحلبة.
علي وفريزر: مباراة القرن
قبل المباراة التي سُميت «نزال القرن» وصف علي جو فريزر بأنه مجرد أداة تافهة تستعملها مؤسسات البيض..
خلال فترة توقيف علي تُوِّج فريزر بلقب بطل العالم للوزن الثقيل في الملاكمة عام 1970، عقب تفوقه على الملاكم «جيمي أليس» في نيويورك. كثيرون رأوا محمد علي البطل الحقيقي بما أنه خسر اللقب على نحو تعسفي وغير عادل، وهكذا أصبحت مباراة جو فريزر ومحمد علي مطلبًا جماهيريًّا ونزالًا لا مفر منه.
عقب رجوع محمد علي إلى الحلبة، خاض نزالين قبل أن يتقرر خوضه لمواجهة ضد فريزر في الثامن من مارس عام 1971، في حلبة «Madison Square Garden»، سُميت «نزال القرن» بسبب التشويق الذي أحاط بها، مباراة القمة بين مقاتلين لم يخسرا أي مباراة خلال مسارهما الاحترافي. كتب «جون كوندون» عن تلك الأجواء قائلًا: «إنه أعظم حدث عملت عليه في حياتي». بثت المباراة في 35 بلدًا، ووفر مروجو المباراة 760 بطاقة دخول للصحفيين من جميع أنحاء العالم.
قبل المباراة، وصف علي جو فريزر بأنه مجرد أداة تافهة تستعملها مؤسسات البيض، وقال إنه «أكثر بشاعة من أن يصبح بطلًا»، وردد مصطلح العم توم في عدد من المناسبات، بحسب ما ينقله كتاب «Muhammad Ali: His Life and Times».
«ديف وولف»، أحد أعضاء طاقم جو فريزر، قال: «كان علي يردد أن الوحيدين الذين يناصرون جو فريزر هم الرجال البيض ذوو البدلات، ومأموري آلاباما، وأعضاء منظمة كو كلوكس كلان. أما هو، فيقاتل لأجل ناس الأحياء الفقيرة. كان جو يجلس هناك ويضرب راحة يده بقبضته، ثم يقول: ماذا يعرف هذا الرجل عن الأحياء الفقيرة؟».
ردًّا على تلك التصريحات العنصرية، أشار فريزر إلى نفاق علي قائلًا: «لا أفهم كيف له أن ينعتني بالعم توم ومدربه رجل أبيض؟».
سواء كان كلام علي مثالًا مبكرًا عن التلاسن الترويجي، الذي أصبح في ما بعد مكونًا تقليديًّا للرياضات القتالية، أو حقدًا ينبع من مشاعر حقيقية، فقد جرحت تلك الكلمات فريزر الذي تعرض للعنصرية والتمييز في الصميم خلال أيام شبابه.
في سيرة جو فريزر، الصادرة عام 1996، يصف تصريحات علي بأنها «محاولة يائسة لجعلي أشعر بالانعزال عن بني قومي (...) ظَنَّ أنه سيضعفني عندما يحين الوقت لمواجهته داخل الحلبة. حسنٌ، لقد كان مخطئًا. لم يضعفني، بل جعلني أدرك كم أنه خسيس».
بدأ النزال قويًّا، ووُضِعت سرعة علي وطول ذراعيه أمام اختبار قوة تحمل فريزر ولكماته اليسارية الثقيلة. لكن فريزر هيمن على الجزء الأخير من المباراة، وجاءت لكمة الانتقام التي طرحت علي أرضًا في الجولة الخامسة عشرة، قبل أن تنتهي المباراة بانتصار لفريزر بالنقاط، وبإجماع الحكام.
في الحلقة الخاصة بجو فريزر من السلسلة الوثائقية «Beyond the Glory»، عام 2005، يتذكر المباراة قائلًا: «أخبر علي الصحافة بأنه لو خسر سيزحف بطول الحلبة، ويخبرني بأني أعظم ملاكم في العالم، لكنه لم يفعل. أعتقد أنه كان مشغولًا بالذهاب إلى المستشفى سريعًا».
العدَّاء الذي ظهر في نزالهما الأول صار سمة مميزة لعلاقة علي وفريزر بعدها.
اقرأ أيضًا: سيناريو صحفي: الطريق إلى النزال الأخير لمحمد علي كلاي
نزال الإثارة في مانيلا
بعد نزال ثانوي بينهما، فاز به علي عام 1974، سَلَك خطابه منعطفًا أكثر بشاعة في التمهيد لمباراة الإثارة في مانيلا عاصمة الفلبين، وركز على مظهر جو فريزر، فشبَّهه عدة مرات بالغوريلا.
«يجدُر بفريزر أن يتبرع بوجهه لمحمية طبيعية. إنه بشع لدرجة تجعل العميان يشيحون بوجوههم عندما يلتقونه. وليت الأمر يقتصر على مظهره البشع وحسب، بل يمكنك أن تشم رائحته من بلد آخر. ماذا سيعتقد الناس في مانيلا؟ أن الإخوة السود حيوانات وجَهَلة ومناظرهم بشعة ورائحتهم قذرة؟». هكذا أخبر علي الصحفيين.
ظهر أيضًا وهو يتناوش مع رجل يرتدي بدلة غوريلا، ومرة أخرى وهو يوجه عدة لكمات لدمية غوريلا مطاطية قائلًا: «هكذا يبدو جو فريزر عندما تلكمه».
وفقًا لمروج اللقاء «دون كينغ»، فإن هذه الأحداث أغضبت فريزر الذي رآها «اغتيال شخصية» و«هجومًا شخصيًّا». وقبل ليلة من اللقاء، لوَّح علي بمسدس بلاستيكي خارج غرفة الفندق الذي يمكث به فريزر. وعندما خرج جو إلى الشرفة، وجَّه علي المسدس إليه، وصرخ قائلًا إنه سيطلق عليه النار.
جرى النزال في ظروف قاسية أثرت في الطرفين، إذ قاربت الحرارة 49 درجة مئوية في الداخل، وبدأ اللقاء في العاشرة صباحًا لأغراض تسويقية.
خلال القتال قال علي لفريزر: «أخبروني بأنك انتهيت يا جو». ورد فريزر: «لقد كذبوا». خلال النزال أمسك علي رقبة فريزر عدة مرات لإيقاف هجمات فريزر القاسية، ولم يعاقب الحكم هذه المخالفة. بعد 14 جولة، أوقف مدرب فريزر النزال بعد أن تورمت عينا فريزر، وفقد القدرة على الرؤية بوضوح، إضافة إلى جرح بارز على وجهه.
غيرِ عالِمٍ بما يجري في زاوية فريزر، طلب علي من طاقمه أن ينزعوا قفازيه (ما يعني الانسحاب)، لكن مدربه تجاهله. لاحقًا، أخبر علي كاتب سيرته «توماس هوزر» بأن «فريزر انسحب قبل أن أفعل ذلك بلحظات. بعد الجولة الرابعة عشرة لم أكن أقوى على القتال (...) كانت هذه أكثر لحظة اقتربت فيها من الموت». كثير من الصحفيين حول الحلبة سجلوا أن النتيجة كانت متعادلة، أو متقاربة من ناحية النقاط حتى تلك اللحظة.
بعد القتال، تحدث علي مع «مارفيس»، ابن فريزر، في غرفة تغيير الملابس، وأخبره بأنه لا يعني الأشياء التي قالها عن والده. عندما أخبر مارفيس أباه، رد فريزر قائلًا: «لماذا لم يعتذر لي شخصيًّا؟».
لم يكسب فريزر القتال، لكنه كسب احترام علي والعالم. ومباشرة بعد نهاية المباراة، أخبر علي الصحفيين بأن «جو فريزر أعظم مقاتل في جميع الأزمنة، بعدي أنا». وأضاف: «لا أريد أن أسمع أن أحدهم يسيء إليه بعد الآن، إنه أكثر الرجال صلابةً في العالم».
دخلت المباراة التاريخ نظرًا للمستوى العالي الذي قدمه الرجلان. وفي عام 1996، صنفت مجلة «The Ring» مواجهة مانيلا أعظم نزال في تاريخ الملاكمة.
بعد نهاية الملاكمة
مضت السنين، واحتفظ جو بمرارته تجاه علي، وأعلن أن صراع محمد مع مرض باركنسون كان «جزاء ربانيًّا» على تصرفاته في الماضي.
في عام 2001، اعتذر علي لفريزر عبر مقال في جريدة «نيويورك تايمز»: «بطريقة ما، جو محق. لقد قلت عددًا من الأشياء في غمرة انفعال، ولم يكن يجدر بي قولها. أطلقت عليه أسماء لم يكن عليَّ أن أستعملها. وإنني أعتذر على ذلك. أنا آسف، كان قصدي الترويج للمباراة وحسب».
تَقَبَّل فريزر الاعتذار بعض الشيء عند قراءته، غير أنه عاد لاحقًا ليردد أن علي اعتذرَ لصحيفة، وليس إليه شخصيًّا، وأنه لا يزال ينتظر اعتذارًا لائقًا. رد علي لم يكن مستغربًا: «إذا رأيتم جو فريزر، أخبروه بأنه لا يزال غوريلا».
في 2009، أعلن فريزر أنه لم يعد يحمل أي ضغينة تجاه علي، فكل ذلك أصبح من الماضي. بعد وفاة فريزر في نوفمبر 2011، كان علي ضمن حضور الجنازة في فيلاديلفيا. وحين طلب القس «جيسي جاكسون» من الحاضرين الوقوف و«إظهار حبهم»، وقف محمد مع الحضور وصفق بحرارة طويلًا.
لا علي دون فريزر، ولا فريزر دون علي، ولا ملاكمة دونهما
لم يبلغ جو فريزر مستوى نجاح علي، لكنه كان دون شك أحد أعظم الملاكمين في التاريخ. وعلى الرغم من أنه خسر نزالين من أصل ثلاثة نزالات ضد كلاي، فإنه أعطى أفضل ما يمكن لملاكم أن يقدمه. إثر نزالهما الثالث، بدأت حالتهما البدنية في الانحدار، بعد ثلاثية أعطتهما كثيرًا وسلبت منهما كثيرًا، لكن العالم حتمًا سيتذكرهما وما قدماه من نزالات.