هذا الموضوع ضمن هاجس «الثورة والثوار». اقرأ موضوعات أخرى ضمن الهاجس من هنا، وشارك في الكتابة من هنا.
بعد وفاة الملك/النبي سليمان، دخلت مملكة بني إسرائيل في نزاع داخلي حول وراثة الحكم، ما أدى إلى انقسامها إلى مملكتين: «إسرائيل» في الشمال وعاصمتها السامرة (في نابلس حاليًّا) تحت حكم يربعام بن سليمان، ومملكة «يهودا» وعاصمتها أورشليم، تحت حكم شقيقه رحبعام بن سليمان.
لم يكن الجوار سلميًّا، فقد اندلعت الحروب والمواجهات بين المملكتين، وتناثرت جثث القتلى من الجانبين، حتى تكالبت عليهما الغزوات التي كانت أثقلها وطأة غزوات الآشوريين، الذين دمروا مملكة إسرائيل تمامًا في 709 قبل الميلاد، لتبقى يهودا منفردة تواجه التحديات، ثم تلقى نفس المصير على يد نبوخذ نصر البابلي في 586 قبل الميلاد، ويُسبَى أهلها إلى بابل.
كان على المملكة اليهودية أن تنتظر إلى عام 538 قبل الميلاد، عندما تغلّب الفُرس على البابليين وأمر الملك الفارسي قورش بفتح باب عودة اليهود إلى فلسطين وإعادة ما سُلِبَ من ذهب من هيكلهم.
رجع نحو 50 ألفًا ليعيدوا تأسيس دولتهم بنظام بين الجمهوري والملكي، إذ يحكمها الحاخام الأكبر بمعاونة بعض الموظفين، وأطلقوا على هذه الدولة اسم «يهودا»، وعلى أنفسهم اسم «اليهود»، تمييزًا لهم عن باقي بني إسرائيل ممن لم يعودوا من السَبي، وكانت العاصمة أورشليم.
بقيت يهودا على استقلالها الفعلي تحت حماية الفرس حتى عام 323 قبل الميلاد، عندما هزم الإسكندر المقدوني الفرس واحتل فلسطين ومصر، فخرج له الحاخام الأكبر يقدم فروض الولاء ويبشره بنبوءة أنه سينتصر على الدولة الفارسية، فترفق الإسكندر بيهودا وأعفاها من الضرائب سبع سنين.
بعد وفاة الإسكندر وتقسيم إمبراطوريته بين قادته، دخلت منطقة فلسطين في دائرة الصراع بين السلوقيين في آسيا الصغرى والشام من جهة، والبطالمة في مصر من جهة أخرى، حول السيطرة على الشام.
نشب بالتوازي مع ذلك صراع يهودي-يهودي، بين من جمعوا الثروات عن طريق التقرب من الحكام و«تأغرقوا» (اتخذوا الحياة الإغريقية نمطًا لمعيشتهم)، والطبقة الفقيرة التي حرّضها المتدينون المعادون للثقافة الإغريقية، باعتبارها ثقافة دخيلة، على الثورة، خصوصًا وقد حاول بعض ملوك السلوقيين أن يجبروا اليهود على نصب تمثال للإله جوبيتر في هيكلهم والتضحية له بالخنازير، بحسب رواية الدكتور علي عبد فتوني في كتابه «تاريخ اليهود السياسي».
هنا اندلعت الثورة اليهودية المعروفة بـ«المكابية» ضد القوات الرسمية للسلوقيين والطبقة المتأغرقة من ناحية أخرى، ودخلت يهودا في دوامة دم وصراع بلغ حد تصارع المكابيين في ما بينهم، حتى جاءت الفيالق الرومانية بقيادة بومبيوس (بومبي) لتدهمهم جميعًا سنة 63 قبل الميلاد، وتصبح فلسطين ولاية رومانية.
اليهود تحت الحكم الروماني: البداية
عندما قسّم بومبيوس مستعمرة «اليهودية»، فصل عن الدولة الساقطة كثيرًا من أقاليمها، بحسب فتوني، وضمها إلى ولاية سوريا، وهدم أسوار أورشليم، وذلك بعد أن قتل عديدًا من اليهود باعتبارهم «مشاغبين».
وفي عهد يوليوس قيصر، كان اليهود يتمتعون بحكم ذاتي كهنوتي، ثم بعد اغتيال القيصر نالوا استقلالًا جزئيًّا، بعد أن عيّن الحليفان آنذاك (قبل تحولهما إلى عدوين) أوكتافيانوس ومارك أنطونيوس، «هيرودس» ملكًا على «اليهودية» سنة 39 قبل الميلاد. لكنه كاد يفقد العرش نتيجة مؤامرة داخلية، فوفقًا لكتابي «أطلس الكتاب المقدس وتاريخ المسيحية» و«تاريخ اليهود السياسي»، تآمر بعض الطامعين في السلطة من اليهود، وتواصلوا مع البارثيين (أول أسرة فارسية حاكمة) الذين اجتاحوا المنطقة، وعيّنوا على اليهودية ملكًا من اليهود يُدعَى متياس أنتيجونس، لكن الرومان سرعان ما طردوهم وأعادوا هيرودس، فانتقم من أعدائه بمجازر قاسية.
يقول الدكتور أبو اليسر فرح، في كتابه «الشرق الأدنى في العصرين الهيللينيستي والروماني»، إن هيرودوس تعرض لمحنة عندما تصارع الحليفان السابقان أوكتافيانوس وأنطونيوس، وانتصر الأول، وكان هيرودوس قد أبدى الولاء لأنطونيوس، فسارع حين علم بانتصار أوكتافيانوس بمقابلته في رودس، وخلع التاج أمامه، وقال له إنه قَدّم ولاءه لأنطونيوس كولاء للدولة الرومانية، وإنه خادمها أيًّا كان من يحكم، فأقره أوكتافيانوس على منصبه، واستمر فيه حتى العام الرابع الميلادي.
لم يكن هيرودس محبوبًا من شعبه رغم تجديده بناء الهيكل، وفقًا لـ«أطلس الكتاب المقدس والمسيحية»، ليس لقسوته فحسب، بل لأن أمه لم تكن يهودية، ولأنه كان مواليًا للسياسات الرومانية بشكل كامل، إلى حد بنائه مزارات ومعابد وثنية في مملكته. ولشعوره الدائم بالخوف، بنى هيرودس القلاع والحصون حول عاصمته ومملكته.
على هذا الشكل كانت بدايات الدولة اليهودية تحت حكم الرومان.
مقدمات التمرد: دعونا نُحصي اليهود
انقسمت مملكة هيرودس بين أبنائه، فحكم الأول منطقة «اليهودية» وأورشليم، وحكم الثاني الجليل وجزءًا من الأردن، أما الثالث فحكم المناطق الشمالية.
يقسِّم الدكتور عبد الوهاب المسيري، في موسوعته «اليهود واليهودية والصهيونية»، طبقات المجتمع آنذاك إلى قسمين:
- الملك وحاشيته وكبار التجار والكهنة، وهي طبقة ثرية مترفة متأغرقة
- صغار الكهنة والفقراء والحرفيين والفلاحين
أي أن الوضع لم يختلف عما كان عليه خلال الحكم السلوقي. ويشير المسيري إلى استمرار الصراع الداخلي بين الفرقتين اليهوديتين «الصدوقيين» و«الفريسيين»، فالأولى كهنوتية منحدرة من الكاهن «صدوق»، وتُنكر البعث والقيامة والحساب، وتمثل «الأرستقراطية الكهنوتية»، بينما الأخرى تمثل ما يمكن وصفه بـ«السلفية اليهودية»، المتمسكة بحَرفية الشريعة وفكرة الثواب والعقاب.
كانت الفئتان تتنافسان حول السيطرة على مجلس «السنهدرين»، وهو مجلس الحكم الكهنوتي أو المحكمة اليهودية. ومع الوقت، صار الفريسيون المتشددون هم الفئة الغالبة على مقاعده.
بعد وفاة هيرودس الكبير، انقسمت مملكته بين أبنائه الثلاث، وفقًا لـ«أطلس الكتاب المقدس»، إذ حكم ابنه هيرودس إثنارك أرخيلاس منطقة «اليهودية» التي تضم أورشليم، وذلك حتى العام السادس الميلادي عندما خلعه الرومان لسوء إدارته، وعينوا محله واليًا رومانيًّا، بينما حكم أخوه هيرودس أنتيباس «الجليل» وجزءًا من الأردن، أما أخوهما الثالث هيرودس فيليبس فقد حكم المناطق الشمالية.
خلعُ ابن هيرودس عن «اليهودية» خلق حالة من التذمر بين اليهود، الذين أحسوا في ذلك انتزاعًا لاستقلالهم. كذلك، فإن الوالي الروماني كان قد مُنِحَ بعض صلاحيات الكاهن الأكبر رغم تعيين هذا الأخير بالفعل، إلى حد ارتداء عباءته، فمثّل هذا إهانة لهم.
وعندما قرر الرومان إجراء التعداد، اعتبر اليهود أنها بداية لفرض العبودية والضرائب الثقيلة عليهم، فوقعت اضطرابات في العام السادس الميلادي، لكن الرومان قمعوها وألزموا ولاية يهودا بدفع الضرائب الفادحة.
بقي الوضع على تلك الحال حتى وقعت اضطرابات في أورشليم في العام 36 من الميلاد، ما اضطر الحاكم الروماني إلى خلع الكاهن الأكبر وتعيين آخر، لكن تلك الاضطرابات اضطرته أيضًا إلى إعادة الصلاحيات المنتزعة سابقًا من صاحب هذا المنصب، وكان ذلك بأمر من الإمبراطور تيتوس، الذي يسجل المؤرخ تاكيتوس في عهده واقعة أن «الحاكم الروماني بيلاتوس قد أمر بصلب رجل يُدعَى خريستوس بسبب الاضطرابات التي أثارها بين اليهود».
الثورة الأولى تندلع: سنهدم الهيكل
منذ ذلك الوقت استعادت السلطة اليهودية جزءًا كبيرًا من استقلالها، لكن التوترات مع الرومان عادت عندما تجدد الصراع بين الفرق والأحزاب اليهودية.
اندلع كذلك صدام حاد في بلدة يامينا على الساحل الفلسطيني بين اليهود والأهالي اليونانيين، إذ أنشأ الأهالي معبدًا للإمبراطور الروماني جايوس الذي كان يؤمنون بألوهيته، فسارع اليهود إلى هدمه، فأمر الإمبراطور بوضع تمثاله في قلب هيكل أورشليم، لكن وفاته حالت دون ذلك.
تبع هدم الهيكلة فرض ضريبة عقابية باسم «الضريبة اليهودية»، أسهمت في إحساس اليهود بالإهانة.
وفي عهد الإمبراطور كاليغولا، نَصّب هذا الأخير الأمير «أجريبا»، حفيد هيرودس، ملكًا على اليهودية والسامرة، أي على كل حدود المملكة القديمة. وبعد وفاته، كاد الإمبراطور يعين ابنه خلفًا له، لكن مستشاريه نصحوه بتعيين ولاة رومانيين، فتعاقب على يهودا سبعة ولاة كانوا كلهم فاسدين مرتشين، ما أدى إلى اندلاع الثورة اليهودية الأولى سنة 66 ميلادية في عهد الإمبراطور نيرون.
كان السبب المباشر في تلك الثورة، كما يذكر المسيري، نزاع بشأن حقوق اليهود وغيرهم في بعض المناطق السورية، وكان الحاكم الروماني قد انحاز إلى غير اليهود بتحريض من أثرياء اليهود، فاندلعت اضطرابات واقتحم الرومان أورشليم وصلبوا بعض كبار رجالها، ثم بعد خروج القوات الرومانية عاد التمرد، فاحتل المتمردون الهيكل، وأعدموا الكاهن الأكبر المتهم بموالاة الرومان، واختاروا كاهنًا بالقرعة من عامة الشعب.
هذه المرة كانت الثورة دموية بحق، فقد ظهرت من عباءة الفريسيين فرقة «الغيورون» التي تنادي بالكفاح المسلح، وانبثقت عنها فرقة «حَمَلة الخناجر»، الذين كانوا يستهدفون الرومان والموالين لهم من اليهود، فأشاعوا الرعب والدم والفوضى في الولاية، فضلًا عن أعمال التمرُد العلنية.
وسارع أهل الطبقة العليا إلى مراسلة الرومان للاستغاثة بهم، فأرسل نيرون القائد فيسباسيانوس لقمع الثورة، فاتخذ هذا القائد من قيصرية (في سوريا حاليًّا) مركز عملياته، وتقدم بقواته التي ضمت بعضًا من العرب، الذين كانوا يعادون اليهود ويريدون التنكيل بهم.
ونتيجة انقسام الثوار وسيطرة غير ذوي الخبرة على قرارهم، فضلًا عن تواطؤ قائد قواتهم مع الرومان، استولى فيسباسيانوس، في العام 68 من الميلاد، على كل أرض يهودا عدا أورشليم، التي ضرب عليها حصارًا قاسيًا في العام التالي، وعندما بلغه خبر مقتل نيرون توجه إلى روما لتولي الحكم، وترك ابنه تيتوس على رأس الجيش المُحاصِر.
بقي تيتوس يحاصر أورشليم لمدة ستة أشهر، ثم دخلها في العام 70 من الميلاد، وأشاع فيها التخريب ودمر الهيكل اليهودي.
منذ هذا العهد صارت يهودا تحت حكم موظف من السناتو (مجلس الشيوخ الروماني)، شحن مدينة أورشليم بالجُند، فتحولت إلى ما يشبه «المنطقة العسكرية».
ووفقًا لموسوعة اليهود واليهودية والصهيونية، فإن هدم الهيكل قد تبعه فرض ضريبة عقابية تحت اسم «الضريبة اليهودية»، كانوا يرسلونها إلى معبد جوبيتر في روما، ما أسهم في إحساس اليهود بالإهانة.
وهكذا أُلغِيَت تمامًا الدولة اليهودية.
الماسادا وحصار القلاع: دعاية صهيونية؟
بعد سقوط أورشليم، استسلمت كل المدن اليهودية عدا قلعة «ماسادا» (يذكرها الدكتور أبو اليسر باسم «مسعدة»، بينما يترجمها الدكتور المسيري إلى «القلعة»)، وتقع على مرتفع قرب البحر الميت.
تحصّن في تلك القلعة عدد من «الغيورين»، جناح الاغتيالات المسلح للتمرد اليهودي، وكانوا قد احتلوها وذبحوا حاميتها. ويذكر «أطلس الكتاب المقدس» أنهم كانوا نحو 960 إنسانًا، استطاعوا التحصن بها ومعهم كميات من الطعام والشراب حتى العام 73 من الميلاد.
أرجأ الرومان مداهمة الماسادا إلى حين انتهائهم من أمر أورشليم. وبعد تدمير الهيكل ونهب ثرواته، توجهوا للقضاء على جيوب التمرد، فاستسلمت لهم قلعة «ماكيروس» (شرقي الأردن)، ثم قلعة «هيروديام»، وأخيرًا بقيت الماسادا، فنصب عليها الرومان المجانيق وأبراج الحصار، وعندما بدا واضحًا أنها ستسقط لا محالة في أيديهم، انتحر المحاصَرون في القلعة بشكل جماعي في ليلة واحدة.
يشكك المسيري في تلك القصة، ويقول إنها مشكوك فيها أثريًّا، ولا مصدر لها سوى المؤرخ يوسفوس فلافيوس (نفس القائد العسكري الذي تواطأ مع الرومان)، ويؤكد المسيري أنها ليست إلا «دعاية صهيونية».
الثورة الثانية والدمار الأخير: قتل المسيح المخلِّص
بعد الثورة اليهودية الثانية أصدر الإمبراطور أمرًا بتدمير أورشليم لتقوم مكانها مدينة إيليا كابيتولينا، وطَرد اليهود منها، لكنه سمح لهم بزيارتها مرة في العام.
أحكم الرومان سيطرتهم على يهودا وأورشليم خصوصًا، وإن لم يستطيعوا إنهاء حالة التذمر اليهودية جراء ذلك، وكانت السلطة الرومانية على موعد مع ثورة يهودية ثانية في عام 132 من الميلاد في عهد الإمبراطور هادريان.
كان قائد تلك الثورة رجلا يُعرَف باسم «بركوخبا»، ويذكر المسيري أن بركوخبا هذا كان بمثابة الابن الروحي لكاهن اسمه أليعازر، قدّم بركوخبا باعتباره «المسيح المخلِّص المنتظر»، وبناء على ذلك التف الثوار، وبخاصة فقراء الريف، حول زعيمهم، واحتلوا أورشليم ونحو 50 قرية أخرى.
داهمت القوات الرومانية الثوار في عام 133 من الميلاد، واستمر القتال عامين، نجح الرومان خلالهما في احتلال أورشليم واجتياح الأراضي اليهودية، وحاصروا بركوخبا وأعوانه في قلعة «بيتار»، ثم قتلوهم خلال المعارك، ومن نجا من القتل في المعركة أُعدِمَ بعدها.
نهاية الوجود اليهودي في فلسطين
أصدر الإمبراطور أمرًا بتدمير أورشليم تمامًا، وهو ما حدث بالفعل، لتقوم مكانها مدينة جديدة هي إيليا كابيتولينا (إيلياء بالعربية)، وطَرد اليهود منها، لكنه سمح لهم بزيارتها مرة في العام.
وحين ألغى الإمبراطور اسم المنطقة «اليهودية/Judaea»، وحوّلها إلى جزء من ولاية سوريا يحمل اسم «ولاية سوريا الفلسطينية/Syria Palestina»، كانت هذه كلمة النهاية على الدولة اليهودية، بل والوجود اليهودي كله في فلسطين. ومن حينها بقيت أورشليم/إيليا/بيت المقدس ولاية رومانية، ثم بيزنطية، حتى استيلاء العرب عليها في عهد عمر بن الخطاب.