كاتب هذا الموضوع يتعامل على الإنترنت باسم «Odra»، الذي يعود في الأصل إلى كائن خيالي ابتدعه الكاتب التشيكي «فرانز كافكا» في قصته «The Cares of a Family Man». غموض هذا الكائن كان مغريًا بما فيه الكفاية كي يستخدمه الكاتب على الإنترنت.
كنت مراهقًا يتحسس طريقه في عالم الإنترنت، كما كان يفعل أبناء جيلي من مواليد التسعينيات والثمانينيات. كنا في أوائل الألفية.
أذكر أول مرة اكتمل فيها تحميل صفحة «MSN» الرئيسية، بعد ما يقارب الساعة من محاولة الاتصال بالإنترنت عن طريق «كارت المودم» الموصول بخط التليفون، كان ينبغي عليك شراء كروت مخصصة أو الاشتراك مع أحد مزودي خدمة الإنترنت حينها. تسمح لك الكروت بالوصول إلى الإنترنت لعدد محدد من الساعات. كان هذا قبل أن تتعاقد وزارة الاتصالات مع شركات مزودي الخدمة لتقديم الإنترنت المجاني في مصر (0777) عام 2002.
لم يشتر والدي كروتًا. لم يكن هناك سبب واضح لشراء عدد من الساعات على الإنترنت حينها. أول مرة تمكنت فيها من الاتصال بالإنترنت كان عن طريق كارت يوفر ساعة على الإنترنت، حصلت عليه مجانًا مع عدد مجلة «عالم الكمبيوتر». اعتاد والدي شراء مجلات التقنية التي انتشرت في هذه الفترة حتى قبل أن يشتري كمبيوتر في النهاية عام 2000. لاحقًا ستبدأ مقاهي الإنترنت في الانتشار خلال النصف الأول من العقد الأول من الألفية، بعد دخول الإنترنت ذي النطاق العريض واشتراكات «ADSL» في مصر 2004.
محتوى عربي شحيح
ترددت الشكوى من شح المحتوى العربي على الإنترنت حينها. أذكر كيف كان ينتهي بي المآل، معظم الوقت، حين أبحث عن أي موضوع باللغة العربية، إلى موقع مدحت محفوظ، أحد أوائل من نشروا محتوى مخصصًا ومتعدد الاهتمامات بالعربية على الإنترنت «EveryScreen». كان أشبه بالمدونة الشخصية يكتب فيها آراءه باستفاضة عن كل شيء.
لم تتنشر خدمات التدوين في ذلك الوقت، وإن كانت قد بدأت. كان محفوظ يمينيًّا متشددًا وغير مؤمن، يصنف الأجناس، ويضع العرب في مؤخرة قائمة يتصدرها اليهود. كانت هذه أول مرة أتعرض فيها إلى آراء مختلفة عما يُتداول في الشارع ووسائل الإعلام.
أظن أنه في بداية استكشافي الإنترنت كان واضحًا ثقل وطأة ما تقدمه هذه التقنية الجديدة: إتاحة الوصول إلى المعلومات، أو حتى إمكانية التعبير لمستخدميها.
كنت قد تمكنت حينها من صنع موقع خاص بي على خدمة «Angelfire»، كنت فخورًا جدًّا، وانغمست لوهلة في نشوة حضوري على هذه المساحة المظلمة والواسعة الغريبة المسماة «إنترنت»، لم أنشر أي شيء يُذكَر، وإن رفعت عليها محاولاتي في صناعة ألعاب الفيديو لاحقًا بعد مصادفتي لأحد مقالات «ميشيل حنا» في مجلة «أونلاين» عام 2003، وعثوري على قسم خاص ببرمجة الألعاب في منتديات «المنتدى»، ممتلئ بالمهتمين بصناعة الألعاب وتطويرها من كل أنحاء العالم العربي.
كان هذا هو الإنترنت الذي عرفته وارتبطت به: مساحة مفتوحة تبحث فيها عن أي موضوع، ومن الراجح أنك ستجد آخرين يشاركونك هذا الفضول. في 2006، سأشترك في منصة «Blogspot» ليصبح لي مدونة شخصية أنشر فيها ما أفكر فيه أو يثير اهتمامي.
كان للروابط (Hyperlinks) رهبة وقدسية تتوافق مع المبادئ الأساسية التي بنيت عليها «الشبكة العنكبوتية»: مكتبة مفتوحة ومترابطة. كان يكفي الضغط على رابط ما لتجد صفحة جديدة أمامك تحتوي على معلومات وبيانات أكثر عن الموضوع المطلوب. أصبح هذا هو النشاط الجديد الذي استولى على حياتي وحياة كثيرين ممن استخدموا الإنترنت في تلك الفترة: «التصفح».
يجب هنا التنويه عن أنني حين أذكر «الإنترنت»، أتحدث عن «الشبكة العنكبوتية» (www) التي صممها «تيم بيرنرز لي». لكن لأن هذه التقنية (البروتوكول) هي الأبرز، والأكثر تطبيقًا وتطورًا على الإنترنت، اختلط استخدام المصطلحين: الإنترنت في الأساس شبكة اتصالات سمحت بوصول المستخدمين إلى صفحات مخزَّنة على أجهزة أخرى متصلة بهذه الشبكة «Servers» (الخوادم)، الصفحات نفسها يجري نقلها وفقًا لبروتوكلات أخرى (بروتوكول HTTP وأخوته). هذه البروتوكولات، وما تحمله من صفحات، تمثل «الشبكة العنكبوتية العالمية». استلهم تيم بيرنرز لي فكرة الشبكة العنكبوتية من مقال نُشِر عام 1945، يصف جهازًا تخيليًّا يدعي «ميميكس».
يربط هذا الجهاز التخيلي بين الكتب المخزَّنة فيه بناءً على الكلمات المكونة لكل كتاب، وربطها بالمعلومات المتعلقة بها من كتب ومصادر أخرى، بطريقة مشابهة لما تفعله الروابط (Hyperlinks) على الإنترنت الآن. كانت فكرة الإنترنت (الشبكة العنكبوتية) في الأساس، مكتبة ضخمة ومفتوحة ومترابطة في محتوياتها. كان هذا هو الإنترنت الذي عرفته في أوائل الألفية.
ماذا حدث للإنترنت؟
يلازمني إحساس بافتقاد الإنترنت الذي عرفته وأسهم في صنعي. انحسرت حركة التدوين أو اختفت تمامًا، اقتصرت فرصة الحصول على أي تفاعل أو محتوى جديد على «تويتات» ومنشورات فيسبوك التي تتوسل إليك أن تُعجَب بها. غرقت الروابط التي قد تحيلك إلى أي محتوى حقيقي في روابط الإعلانات أو مزيد من الصور والفيديوهات للقطط والفنانين، ما يدفعني إلى التساؤل عما إذا مات الإنترنت الذي وُعدنا به. حاولت تتبع هذه الخيبة الحاضرة دائمًا في نفسي وأنا أستخدم الإنترنت هذه الأيام.
تحايل فيسبوك على أزمة وجود إنترنت آخر خارجه، بتقديم خدمة «Facebook Instant Articles».
أذكر كيف بدأ الناس الحديث عن فيسبوك وقت ظهوره وانتشاره. كنت قد ترددت في استخدامه وإنشاء حساب عليه، إلى أن أرسَل لي أحد الأصدقاء رابطًا لصورة نشرها عليه عام 2007. لن أتمكن من الاطلاع عليها إلا إذا أنشأت حسابًا، وقد كان.
كانت فكرة ربط المحتوى بالاشتراك، غريبة ورخيصة بالنسبة إليَّ وقتها. مقترنة في تصوري حينها بالمنتديات التي تنشر برامج مقرصَنة، وتحجب عنك روابط التحميل لو لم تكن عضوًا فيها. في البداية لم أمانع كثيرًا في استخدام هذه المنصة الجديدة، فقد وجدت معظم أصدقائي هناك. كانت المشاركات محدودة ومقصورة على التواصل الاجتماعي القصير وتبادل النكات، شجعت آلية التفاعل فيه على هذا النوع من التواصل.
في النهاية أنت تسعى للحصول على الإعجاب هنا، تعجبت في البداية من عدم قدرتي على وضع أكثر من رابط لما أنشره، أو حتى جعل الكلمات روابط. كنت أظنها عجزًا تقنيًّا سيعملون على علاجه في المستقبل. طبعًا سأدرك لاحقًا أنه تصميم واعٍ ومقصود لضمان بقائك. كانت نية فيسبوك من البداية هي التهام الإنترنت، ووجود روابط متعددة تحيل مستخدميها إلى مواقع أخرى لم يكن في مصلحة الإمبراطورية الجديدة.
سيتكرر الأمر بعد ذلك في تويتر، وإن بدت فرضيته الأولية أنه مساحة للخفة والأفكار السريعة التي لا تتعدى 140 كلمة، مجددًا لا يمكن استخدام الروابط بالشكل الذي عهدناه، وإن أردت نشر رابط، فسيُخصَم من رصيدك في عدد الكلمات المسموح بها.
سنجد هذه السياسة في احتكار مستخدمي المنصات تتوحش على منصات أخرى مثل إنستغرام، حيث ألغي دعم اضافة الروابط تمامًا حتى وإن حاولت وضع عنوان الرابط مباشرة، فور نشره لن يؤدي إلى أي مكان، لن تتمكن من الضغط عليه. يحاول فيسبوك أيضًا التحايل على أزمة وجود إنترنت آخر خارجه، بتقديم خدمة «Facebook Instant Articles» في 2015، وتسعى إلى فكرة بسيطة: حتى لو أردت قراءة المقالات عليك أن تقرأها على فيسبوك، لا على الموقع نفسه.
كيف انقطع الإنترنت؟
في بداية ظهور هذه المنصات، كانت طريقة عرض المحتوى أشبه بالمدونات الشخصية: الترتيب زمنيًّا من الأحدث إلى الأقدم، ما جعلها أشبه بمنصات تدوين سريعة (Fastfood). لكن الآن، وبعد أن بدأ فيسبوك في تضمين الإعلانات بين المشاركات المعروضة على المنصة، اختلف ترتيب المشاركات. يعدك فيسبوك الآن بتجربة أفضل وأولوية عرض المشاركات التي «تهمك» بناءً على خوارزميات معقدة يمكنها معرفتك، وفهمك أكتر من عائلتك، وحتى أمك.
أصبحت أنت المشاهَد فجأة. ومرة أخرى، بعد أن كان الإنترنت مكتبة مفتوحة أصبح تلفازًا، ومن غير المقبول أن تغير القناة. يريحك فيسبوك وأمثاله من الخدمات، من عناء الاختيار أو المعرفة، لن يصل، لكن أي محتوى جديد أو مختلف عما استهلكته أو أعجبت به من قبل.
أين يُدفن المحتوى؟
انهالت شركات الإعلانات على الإنترنت بعد أن لاحظوا قوته كوسيط جديد فعال، وفي طريقه إلى استبدال التلفزيون والوسائط المطبوعة. بدأت هذه المؤسسات الخبيرة في استلاب انتباه الجموع ونشر محتواها الخاص، زحفوا بالتدريج للاستحواذ على النصيب الأكبر لتنتج لنا موضوعات من نوعية «10 رواد فضاء كانت حياتهم أسوأ من حياتك» أو «بالفيديو.. لحظة التهام قرش لسباطة موز كاملة، لن تتوقع ما حدث بعدها». إمبراطوريات إعلام عجوز وعتيقة محمَّلة بخبرات تمتد إلى قرون بدأت (ونجحت) في غزو الإنترنت والسيطرة على وقتك وانتباهك.
نجحوا حتى في تعديل توقعاتك تجاه هذه الشبكة المهولة التي كان الغرض من بنائها خلق مساحة تسمح بتداول المعلومات والوصول إليها دون عناء. الآن أصبح عليك عبور هذا الهراء كله، والذي يتصدر قوائم البحث، إلى أن تصل إلى أي معلومة مفيدة.
كيف ماتت حرية التواصل والمشاركة على الإنترنت؟
أسهم الإنترنت «القديم» في نضج جيل كامل تعرَّض في بداية وعيه إلى هذه الشبكة المفتوحة المكدسة بالمحتوى، بيئة تسمح بالانغماس في الحوار والنضج الجماعي. لكن الآن ضاقت المساحات التي كان يسمح بها الإنترنت بعد ما حدث وما زال يحدث من محاولات السيطرة على الإنترنت، وما يجري تداوله من معلومات. صنعت الصين نسختها الخاصة من الإنترنت، به خدمات «Google» وغيرها محجوب، وإلغاء هيئة الاتصالات الفيدرالية لقوانين حيادية الإنترنت في أمريكا، وأخبار عن تعاقد بعض الدول مع شركات متخصصة في تطوير تقنيات لإدارة ومراقبة الشبكات.
يومًا بعد يوم، يصبح من الصعب اعتبار الإنترنت المساحة المفتوحة التي عرفناها. لحق العالم الحقيقي بالإنترنت، والتزم تباعًا بقوانينه ومشكلاته. يشترط فيسبوك على مستخدميه وضع بياناتهم الحقيقية ليبيعها لامبراطوريات الإعلان والحكومات، أو يغض البصر عن إساءة استخدامها أحيانًا، كما حدث في فضيحة «Cambridge Analytia»، التي جرَّت مؤسس فيسبوك للاستجواب أمام الكونغرس.
ربما قد نجد أي بصيص من الأمل في إنقاذ الإنترنت أو حتى الحصول على إنترنت جديد وأفضل بعد تصاعد الاهتمام بتكنولوجيا «سلسلة الكتل» (Blockchain) وبروتوكولاته، التي تواجه المركزية وما يحمله هذا البناء من سلطات.