تتحدث تلك السيدة الجميلة في مقطع يوتيوبي لطيف بأهمية وخطورة وحماس عن عواقب إلغاء قانون حيادية الإنترنت من قِبَل هيئة الاتصالات الفيدرالية الأمريكية (FCC). تتكلم عن أنه صار بوسع شركات الإنترنت الآن أن تتحكم في سرعات الإنترنت تبعًا للخدمة التي تستخدمها، وتختار المواقع التي يسهل عليك تصفحها مقابل أخرى تجعل تصفحها بطيئًا، إنهم حتى صار بوسعهم.. لن تصدق هذا.. صار بوسعهم أن يحجبوا بعض المواقع إن أرادوا.
لوهلة شعرتُ بتعاطف معها ومع قضيتها، كيف جرؤ هؤلاء الملاعين على إلغاء حيادية الإنترنت؟
لكن، ما حيادية الإنترنت أصلًا؟
حيادية الإنترنت
في عام 2015، وفي عهد طيب الذكر الرئيس الأسمر أوباما، الذي لم نعرف قيمته إلا بعد رحيله، وبينما كان الديمقراطيون (حزب أوباما) يتحكمون في هيئة الاتصالات الفيدرالية، أصدرت الهيئة قانون حيادية الإنترنت (Net Neutrality Regulation).
باختصار، يطالب القانون مزودي خدمات الإنترنت أن يعاملوا كل المواقع والتطبيقات والمحتويات على الإنترنت بحياد، كل المواقع سواسية، غير مسموح لأيٍّ منهم بتسريع محتوى معين على حساب محتويات أخرى، أو إبطاء آخر بشكل متعمد مثلًا. يؤكد القانون كذلك أن تقديم الإنترنت خدمة أساسية عامة، مثل الكهرباء والمياه والغاز، ويُسمح للحكومة بالتدخل فيها للتأكد من عدم إساءة استغلال الشركات الخاصة للمستخدم العادي.
انتصر قانون حيادية الإنترنت للأصوات المطالبة باعتبار الإنترنت فائق السرعة حقًّا من حقوق الإنسان.
لتوضيح الفكرة أكثر، دعني أضرب أكثر الأمثلة كلاسيكية: تخيل الإنترنت كطريق سريع تمضي فيه السيارات، السيارات هنا تمثل البيانات المرسَلة من المواقع المختلفة: سيارة حمراء من يوتيوب، وأخرى زرقاء من فيسبوك، وثالثة تحمل طردًا من أمازون، ورابعة صغيرة هي منشور، وأنت، مستخدم الإنترنت، تمثل نهاية الطريق، أو الوجهة التي تُرسَل إليها البيانات.
بتطبيق «حيادية الإنترنت»، صار بوسع كل السيارات أن تمضي جنبًا إلى جنب، بالسرعة التي يستطيع كل صاحب منتَج إرسالها بها، وبالأولوية التي ترغب فيها أنت كمستخدم. يمكن هنا لصاحب موقع جديد وخدمة صغيرة الحجم أن يمضي بجوار خدمات كبرى مثل «Netflix» دون أن يمنعه أحد، بوسع الجميع أن ينافس بمنتهى الحرية.
كان هذا القانون انتصارًا للأصوات المطالبة باعتبار الإنترنت فائق السرعة حقًّا من حقوق الإنسان، بعد صراع طويل وقضايا ونداءات يائسة لإدارتي كلينتون وبوش الابن، اللتين لم تهتما بما يكفي بوضع لوائح بمثل هذه الصرامة. احتفل الأمريكيون والعالم المعاصر بهذا الانتصار الرائع للحقوق والحريات، وكل هذا الأشياء الجميلة الملونة.
إليكَ خريطة لطيفة للعالم وقتها. الدول الملونة بالأزرق تطبق قوانين حيادية الإنترنت، وبالأصفر لا تطبقها، وبالأحمر تفكر في تطبيق القوانين. حاول أن تتجاهل الحفرة المظلمة التي لا يخرج منها أي بيانات بشأن الموضوع (اعمل نفسك من بنها).
لكن، لم يكن الجميع يشعرون بذات السعادة بهذا القرار..
لا حيادية في البيزنس
حجبت شركة الإنترنت الأمريكية «AT&T» برنامج اتصال الفيديو «Apple’s FaceTime»، وحاولت حجب «Skype» لصالح خدماتها المنافسة.
شركات خدمات الإنترنت الكبرى في الولايات المتحدة، مثل «Comcast» و«AT&T»، اعترضت بشدة على القانون، وحجتهم كانت أن التدخل الحكومي في تقديم الخدمة غير ضروري، ويمثل عائقًا أمام خِططهم كمؤسسات كبرى لتطوير وتحسين الخدمة، مما سيؤدي في النهاية إلى انحدار مستوى الإنترنت بشكل عام، واستياء المستخدم الذي تهدف القوانين إلى إرضائه.
تاريخ شركات الإنترنت مع «حيادية الإنترنت» ليس ناصع البياض على أي حال.
مستخدمو «نتفيلكس» لاحظوا في 2014 انخفاضًا ملحوظًا في سرعة خدمة البث. شركات الإنترنت ادّعت أنْ ليس لها شأن بما حدث، وأنّ المشكلة في نتفليكس نفسها، وهي من أكثر الشركات استهلاكًا للباندويث (معدل نقل البيانات) على الإنترنت. وكي نفهم معنى «باندويث»، دعنا نرجع إلى مثال السيارات والطريق السريع، وتخيل أن 30% من السيارات على الطريق تتبع نتفليكس، بما تحمله من برامج ومسلسلات وأفلام وخلاصة إنتاجات صناعة الترفيه.
وهناك أيضًا حجب شركة «AT&T» لبرنامج اتصال الفيديو «Apple’s FaceTime» عام 2012، وكانت قد حاولت حجب «Skype» لصالح خدماتها المنافسة. وهناك محاولات شبكات المحمول لحجب تطبيق «محفظة جوجل» (Google wallet) لنفس السبب.
لدوافع كهذه يمكننا فهم لماذا قوبل قانون حيادية الإنترنت بهذا الاحتفاء، واعتُبر انتصارًا عظيمًا، لكنه كان انتصارًا مؤقتًا..
لا مزيد من الحيادية
في 14 ديسمبر 2017، صوتت لجنة الاتصالات الفيدرالية لصالح إلغاء قوانين الحيادية، وبهذا تعود القوة إلى شركات الإنترنت لتغيير شكل الخدمة التي تقدمها إلى المستخدم الأمريكي كما تشاء. يعكس القرار الجديد رؤية اللجنة بشكل خاص وإدارة ترامب بشكل عام تجاه حرية البيزنس والمؤسسات الكبرى في إدارة الأعمال دون تدخلات حكومية، وأن هذا سيؤدي في النهاية إلى مزيد من الازدهار ومساعدة الاقتصاد.
بإلغاء قرار حيادية الإنترنت، صار بوسع مزودي الإنترنت أن يُرغموا المواقع على دفع أكثر لتسهيل خدماتهم، ومن لا يدفع لا ينال السرعة التي يحتاجها.
دافع «آجيت باي»، رئيس الهيئة المنتمي إلى الحزب الجمهوري الذي عيّنه ترامب، عن القرار بعنف، قال إن «التراجع عن حيادية الإنترنت قرار سيصب في النهاية في مصلحة المستخدم، لأن مزودي الخدمة سيتمكنون أخيرًا من تقديم خدمات أكثر تنوعًا وثراءً». رفيقاه الجمهوريان أيداه في التصويت الذي حدث تاليًا، مما أعطاهم أغلبية: ثلاثة مقابل العضوين الديمقراطيين الآخرين.
سيحتاج الأمر إلى أسابيع قبل أن يرى المستخدمون أي تغييرات فعلية على الإنترنت، لكن المعركة السياسية والقانونية بدأت فور إلغاء القرار، نواب الكونغرس الديمقراطيون أعلنوا أنهم سيسعون إلى إصدار قانون يعيد تفعيل حيادية الإنترنت، ومنهم من بدأ في تجهيز قضايا لوقف تنفيذ القرار.
اقرأ أيضًا: حرب مجلس «الفضاء الافتراضي» في إيران: حجب وتشويه وإنترنت حلال
إليك نظرة على خريطة العالم الآن، الدول التي تطبق حيادية الإنترنت والدول التي لا تطبقها. لاحظ تحول أغلب الدول الملونة بالأحمر في الصورة السابقة (التي كانت تفكر في تطبيق حيادية الإنترنت) إلى الأزرق (بمعنى أنها طبقتها)، وتحول الولايات المتحدة إلى الأصفر بعد إلغاء القرار (وحاول أن لا تنظر إلى الحفرة السوداء، انسَ أمرها).
العواقب المحتملة؟
بوسع غوغل وفيسبوك ونتفليكس دفع المال لتحسين سرعة تقديم خدماتهم، لكن ماذا عن الشركات الصغيرة والناشئة؟
بإلغاء القرار، صار بوسع مزودي الإنترنت التحكم في تدفق البيانات كما يحلو لهم، تسريع خدمة معينة وإبطاء أخرى، يمكنهم أن يُرغموا المواقع على دفع أكثر لتسهيل خدماتهم، ومن لا يدفع لا ينال السرعة التي يحتاجها.
قد يهمك أيضًا: هل تتلاعب إعلانات فيسبوك بالعالم؟
يستطيع مزودو الخدمة الآن أن يقدموا للمستخدمين عروضًا غير عادلة، فلا يوجد قانون يمنعهم، مثل عروض رخيصة تشتمل استخدام إنترنت قليلًا وفتح البريد الإلكتروني بصعوبة، عروض أغلى قليلًا تعطيك بعضًا من فيسبوك وتويتر، ادفع أكثر تنَل بعض البث الرقمي مثل نتفليكس ويوتيوب، أو ادفع مبلغًا ضخمًا ويصير لديك إنترنت غير محدود يفتح كل شيء في كل وقت، وهو ما كان عليه الأمر قبل إلغاء الحيادية في الأصل (لماذا أشعر أن هذه العروض مألوفة بشكل ما؟).
بل والأسوأ، صار بوسعهم حجب المواقع التي لا تعجبهم، وهو أمر يبدو غريبًا على أسماع المواطن الأمريكي، لكنه محتمل بشدة، خصوصًا عندما تتعارض مصالح المؤسسات الإلكترونية مع مصالح مزودي الخدمات، مثلما تحدثنا قبل قليل عن حوادث قديمة مشابهة.
ربما بوسع المؤسسات الكبرى الحالية أمثال غوغل وفيسبوك ونتفليكس الدفع، كما دفعت نتفليكس لكومكاست في 2014 لتحسين سرعة خدماتها، لكن ماذا عن الشركات الصغيرة والناشئة؟ كيف يكون بوسعها المنافسة وتقديم خدماتها بميزانيات محدودة وسط عمالقة ينفقون الملايين يمينًا ويسارًا؟ لاحظ أن كل هؤلاء العمالقة كانوا شركات ناشئة قبل سنوات، فيسبوك مثلًا لم يكن لينافس ويتخطى العملاق القديم «Myspace» لو كان هذا هو الحال وقتها.
وحدث ولا حرج عن الخدمات المجانية التي تقدمها آلاف المواقع على الإنترنت، التي ستُلغى إلى الأبد لو اضطرت إدارات تلك المواقع للدفع في مقابل إعطائهم مساحة من الباندويث. تخيل أن تضطر إلى دفع اشتراك شهري لتسمع من «Soundcloud» مثلًا..
غضبتُ بشدة لإلغاء حيادية الإنترنت في أمريكا، يا لَهُ من أمر حزين، كيف سيعيش الأمريكيون في عالم دون حيادية إنترنت؟ لا أكاد أتصور معاناتهم. تخيل، عزيزي القارئ، أن مواقعهم قد تتعرض لخطر الحجب؟