حين يشرد عقلنا في أثناء العمل، لا نجد صعوبة في أن نعزو هذا التشتت إلى أمور مثل وسائل التواصل الاجتماعي، ومتابعة الأخبار وتناقلها، والدردشة مع الزملاء، وهي أمور لا شك تُفقِدنا التركيز. لكن هناك مصدرًا ممكنًا للتشتت المتكرر الذي كثيرًا ما ننسى أن نضعه في اعتبارنا، وهو أن العمل الذي نعكف عليه ليس بالتعقيد الذي يستغرق طاقتنا الذهنية، أو أنه لا يستغرق زمنًا طويلًا.
لكن فكرة أن العمل الذي ننفذه ليس معقدًا بما يكفي، لا تحظى بشعبية كبيرة، وبخاصة بين من يرددون أنهم يبذلون أقصى ما في وسعهم. إضافة إلى أن كثيرين منا منشغلون معظم الوقت حقًّا، لكن هذا الانشغال كثيرًا ما يكون غير منجِز، نؤجل من خلاله عملنا الحقيقي، ونننجز بدلًا منه مهمات تشعرنا بأننا منتجون وندور باستمرار في ساقية العمل.
عمل أعقد.. تشتت أقل
في مقال نُشِر على موقع «The New York Times»، يرى الكاتب «كريس بايلي»، أنه يمكننا تغيير هذا السلوك البشري الطبيعي، بشرط أن يكون لديك الاستعداد لقبول مزيد من العمل وإنجاز أمور أكثر صعوبة.
تتطلب المهمات المعقدة تركيزًا أكبر وجهدًا من ذاكرتنا العاملة (جزء من الذاكرة قصيرة المدى يختص بالاحتفاظ بالمعلومات مؤقتًا لمعالجتها) وانتباهنا، وهذا يترك مساحة أقل للشرود مع أول مصدر تشتيت نواجهه. في كتابه «Flow: The Psychology of Optimal Experience»، يقول عالم النفس «ميهالي تشكزينتهيمالي»، إننا ندخل في تلك الحالة من الانغماس الكامل، حين يكون تحدي الانتهاء من مهمة ما يساوي تقريبًا قدرتنا على الانتهاء منه.
نملُّ حين تفوق مهاراتنا متطلبات العمل الذي ننفذه بشكل ملحوظ، مثلما يكون الحال حين نجري عملية إدخال بيانات لساعات طويلة، وفق كاتب المقال كريس بايلي، وهو استشاري إنتاجية. نشعر بالتوتر حين تفوق متطلبات مهمة ما مهاراتنا، مثلما يكون الحال إذا لم نكن جاهزين لتقديم عرض (Presentation). ما في جعبتك من مهارات ومستواها وإنجاز عمل يتناسب مع تلك المهارات، يجعلك تشعر بالاندماج في عملك بشكل أكبر.
قبول عدد أكبر من المشروعات المعقدة يمثل طريقة قوية للدخول في حالة ذهنية، يسميها كاتب المقال «التركيز المفرط»، وهي حالة من الانتباه تستهلك فيها مهمةٌ ما كامل انتباهك. يشرد ذهنك أقل في حالة التركيز المفرط لأنك أكثر اندماجًا، وتعني هذه الحالة أيضًا أنك أكثر إنتاجية.
إلى جانب التشكك في مدى تعقيد المهمات التي تحققها، فكِّر في ما إذا كان لديك عمل كافٍ لتنفذه. فإن لم يكن لديك، فكأنك تسعى إلى التشتت بنفسك وتطلبه.
قد يهمك أيضًا: كيف تؤثر إشعارات الهاتف على تركيزنا؟
العمل يتمدد ليملأ الوقت
فكِّر في آخر موعد تسليم كان وقت العمل المتاح فيه ضيقًا. هل أعطاك موعد التسليم هذا رفاهية الانتباه لمصادر تشتت، مثل مطالعة الأخبار وتفقُّد تويتر؟ من الممكن أنك لم تستطع، لكن في الأوقات التي لا تكون ملتزمًا فيها بموعد تسليم يصعب الوفاء به، ربما تشعر بأن التركيز على مهمة ما أمر مستحيل.
في دوائر الإنتاج، تُعرَف هذه الظاهرة بـ«قانون باركينسون» الذي يرى أن العمل الذي ننفذه يتمدد ليملأ الوقت المتاح لإتمامه. المهمات الصغيرة التي ينبغي أن تنجَز في ساعتين، ستستغرق يومًا كاملًا لو أتيح لنا الوقت، ومصادر التشتت هي السبب في حدوث هذا.
لذا، اقطع الطريق على ما يشتتك
الأبحاث التي تتناول الانتباه تقترح أن أدمغتنا مصممة لتركز على كل ما هو جديد وممتع، أو ما يمثل مصدرًا للتهديد، ومصادر التشتت ربما تمثل مزيجًا مغريًا من هذه الأمور الثلاث. لهذا السبب يدعونا الكاتب إلى قطع الطريق على مصادر التشتيت قبل البدء في العمل. هناك كثير من الطرق والأدوات التي قد تساعدك في هذا، مثل تحميل برنامج لحجب مصادر التشتيت على جهاز الكمبيوتر، أو ضبط الهاتف على وضعية عدم الإزعاج، أو تركه في غرفة أخرى.
بمجرد أن نزيل مصادر التشتت، نصبح مجبَرين على العمل، وحينها فقط ندرك حجم العمل الحقيقي الذي ينتظرنا. ساعة واحدة من التركيز المفرط دون مصادر تشتيت تساوي أمسية كاملة من العمل الذي يتخلله تشتيت.
يقول الكاتب إنه بصفته خبيرًا للإنتاجية، يعتقد بعضهم أنه لا يقع فريسة للتشتت كالآخرين. قبل بضع سنوات، انتهى الكاتب من مخطوطة تحتوي على نحو 80 ألف كلمة، كان الوقت المتاح للعمل عليها ضيقًا. بعد تسليمه، ظل الكاتب مشغولًا، رغم أنه أصبح لديه عمل أقل بكثير، فما تبقَّى من مشروعات تَمدَّد ليملأ الوقت المتاح لديه.
وجد الكاتب نفسه يدخل على حساباته بوسائل التواصل الاجتماعي، في الوقت الذي كان ينبغي عليه العمل فيه. ظل يتابع البريد الإلكتروني، ووافق على حضور اجتماعات لم يكن عليه أن يكون جزءًا منها في المقام الأول. شعر بالذنب وهو غير منشغل، فتخلص من ذلك الشعور عن طريق ملء وقته بما يجعله منشغلًا.
ابحث عن غاية
إذا كنت تقع فريسة للتشتت، وجه جهدك لأمر يتطلب منك جهد ذهني أكبر ويتحدى إمكانياتك، من أجل إنجاز مشروعات تملأ وقتك وتثري حياتك.
أدرك الكاتب في ما بعد أن شعوره بالذنب مصدره ذلك الشعور بأنه يعمل دون غاية. الغاية مفتاح الإنتاجية، فإذا ما كان لديك وقت أكثر مما يلزمك لإنجاز عملك، فإن اختيار ما تنجزه مقدمًا يصبح أمرًا ضروريًّا. بمجرد أن تخلص مما يشغله دون جدوى حقيقية، أدرك الكاتب أن هناك مساحة لإنجاز عمل له معنى، وبدأ في قبول مزيد من المهام المعقدة، بما في ذلك التفكير في الكتاب الذي استوحى منه هذا المقال.
يدعو الكاتب إلى ممارسة تمرين بسيط: أن تقيِّم مساحة الوقت التي تقضيها في أعمال تشغلك دون طائل، وتتأمل كيف يصبح صعبًا أن تنغمس حينها في مهمات حقيقية ذات جدوى. في نفس الوقت، تأمَّل مستوى طاقتك. قد يكون الانشغال الذي لا طائل من ورائه علامة على احتياجك للراحة، فحين تقل الطاقة الذهنية ينجذب دماغك إلى أسهل المهمات المتاحة أمامك.
إذا كنت ما تزال تقع فريسة للتشتت، فكِّر في إمكانية أنك تحتاج إلى العمل بجد أكبر، أو أن توجه جهدك لأمر يتطلب منك جهدًا ذهنيًّا أكبر ويتحدى إمكانياتك، من أجل إنجاز مشروعات تملأ وقتك وتثري حياتك.