«الهوغاه»: سر السعادة والدفء عند الدنماركيين

هشام فهمي
نشر في 2017/01/01

في كل لغات العالم، ثمة كلمات لا يمكن التعبير عنها حرفيًّا حين تُنقل إلى لغةٍ أخرى.

ففي اليابانية مثلًا تعني كلمة (komorebi) نور الشمس الذي يتسرَّب عبر أوراق الأشجار، وفي الإسبانية تعني (sobremesa) الوقت الذي تقضيه بعد تناول الغداء أو العشاء في الكلام مع مَن أكلت معهم، وفي الإندونيسية تعني (jayus) دعابةً غير طريفة على الإطلاق لدرجة تدفعك إلى الضحك من فرط سخافتها، وفي السويدية تعني (mangata) انعكاس القمر على صفحة الماء الذي يبدو كطريق.

Hygge: الكلمة الدافئة

تتناول الكاتبة «آنا ألتمان» في موضوع نشر على موقع مجلة The New Yorker، واحدةً من تلك الكلمات التي لا يمكن ترجمتها بشكلٍ حرفي أبدًا، وهي الكلمة الدنماركية «هوغاه» (Hygge).

قائمة قواميس أوكسفورد للترشيحات النهائية لـ«كلمة العام» في 2016 حفلت بالكلمات والمصطلحات المستحدَثة، التي تجعل المرء يتمنَّى لو لم يكن من الضروري أن يصبح لها وجود.

ومثال ذلك: (alt-right) التي تعني «اليمين البديل»، وتشير إلى مجموعات اليمين المتطرِّف التي ترفض التيار السائد في السياسة المحافظة في الولايات المتحدة، و(Brexiteer) التي تعني الفرد المؤيِّد للخروج البريطاني من الاتحاد الأوروبي، بالإضافة إلى المصطلح الفائز (post-truth) الذي يشير إلى ظروف تشكيل الرأي العام، التي تكون فيها استمالة الناس من خلال مشاعرهم ومعتقداتهم مؤثِّرة أكثر من الحقائق الموضوعيَّة.

كلها كلمات ذات طابع سياسي فرضَته أحداث العام، لكن ثمة شيء من العزاء في أن الكلمات المتنافسة ضمَّت أيضًا الكلمة الدنماركية (hygge)، التي تُنطق (hoo-guh)، ولا توجد ترجمة مباشرة لها إلى الإنجليزيَّة، وتعني «حالة من السَّكينة والإقبال على الاختلاط بالناس، تُولِّد إحساسًا بالرضا والسرور».

في الولايات المتحدة وحدها، نُشرت ستة كتب على الأقل عن «الهوغاه» في 2016.

الكلمة مستمدَّة من مصطلح دنماركي من القرن السادس عشر بمعنى «يُريح» أو «يُواسي»، ومتصلة بكلمة (hug) الإنجليزية. ولكونها مرتبطة بمعاني الاسترخاء والتدليل والامتنان، فإنها تعدُّ منذ زمنٍ طويل جزءًا جوهريًا من شخصيَّة المواطن الدنماركي.

وكما يقول الكاتب روبرت شابلن في مقال له في مجلة The New Yorker عام 1957 بعنوان (Letter from Copenhagen)، فإن «الهوغاه» منتشرة في كل مكان في العاصمة الدنماركية، فالشوارع ملأى بالمبتسمين المسترخين ، الذين يرفعون القبعات تحيةً لبعضهم، ويرمقون الأغراب بنظراتٍ توحي بأنهم يتمنون لو أنهم يعرفونهم أيضًا كي يحيُّوهم بقبعاتهم بدورهم.

ملاذ شخصي للاستمتاع

دفء

تقول ألتمان إن هذا المفهوم الاسكندنافي للسَّكينة شقَّ لنفسه طريقًا إلى الجمهور العالمي خلال العام المنصرم، ففي الولايات المتحدة وحدها، نُشرت ستة كتب على الأقل عن «الهوغاه» في 2016، كما أن هناك كتبًا أخرى في طريقها إلى الصدور في 2017.

وتعدَّدت أوصاف الكُتَّاب للكلمة، فمثلًا تقول الصحافية البريطانية هيلين راسل، صاحبة كتاب (The Year of Living Danishly)، إن «الهوغاه هي الاستمتاع بوجود الأشياء الصغيرة المريحة، ككوب من القهوة الطازجة أو الشاي ».

وتربط الدنماركية سيجني جوهانسن، صاحبة كتب الطهي الأعلى مبيعًا، في كتابٍ لها، بين «الهوغاه» والأطعمة والمشروبات الوطنية العريقة في بلادها، وتصفها بأنها نوع صحِّي من الاستغراق في اللذة. أمَّا الإنجليزية الدنماركية لويزا تومسن بريتس، صاحبة كتاب (The Book of Hygge)، فتسمِّيها «طريقة عملية لخلق ملاذ شخصي للمرء في قلب الحياة الحقيقيَّة».

الهوغاه قد يكون لها وقع من التعالي على الأذن الأمريكية؛ فغالبًا ما تُقال في عبارات تذكِّر الأمريكيين بأن الاسكندنافيين أسعد شعب في العالم.

الشتاء أنسب وقت في العام للإحساس بـ«الهوغاه»، فهو الفصل المرادف للملابس الدافئة والطعام والشراب الساخن والاسترخاء أمام المدفأة ، لهذا تُستخدم الكلمة كاسم أو فعل أو صفة، أو كاسم مركَّب كما في الكلمة الدنماركية (hyggebusker)، التي تعني «السراويل الواسعة عليك للغاية ولا تجرؤ على ارتدائها على الملأ، ومع ذلك تعتزُّ بها سرًّا».

ويمكن الشعور بـ«الهوغاه» عند الخبَّاز أو خلال الجلوس في حرارة الساونا الجافة، ويوصي الأطباء الدنماركيون بـ«الشاي والهوغاه» علاجًا للبرد. ومن الممكن أن يشعر المرء بـ«الهوغاه» بمفرده، على أن الكاتبة تشير إلى أن التعبير الحقيقي عنها يكون من خلال الانضمام إلى الأحبَّاء والاسترخاء معهم في جوٍّ هادئ.

كيف وصل الدنماركيون إلى السعادة؟

أطفال دنماركيون سعداء

تشرح ألتمان مدلول الكلمة عند الأمريكيين، فتقول إنها، كالعديدٍ من أفضل الأشياء القادمة من الثقافة الاسكندنافية، قد يكون لها وقع من التعالي على الأذن الأمريكية؛ إذ غالبًا ما تُقال في العبارات التي تذكِّر الأمريكيين بأن الدنماركيين (أو النرويجيين أو السويديين، حسب الإحصاء السنوي) أسعد شعب في العالم على الإطلاق.

ولعلَّ الدنماركين قادرون على الإحساس بـ«الهوغاه» في الأشياء الصغيرة في الحياة لأنهم قد حقَّقوا الأشياء الكبيرة بالفعل ، كالتعليم الجامعي المجاني والأمن الاجتماعي والرعاية الصحيَّة والبنية التحتيَّة القويَّة والإجازات مدفوعة الأجر، بالإضافة إلى الحصول على عطلة سنويَّة تبلغ شهرًا كاملًا على الأقل.

هكذا، طبقًا لمايك فايكينج، رئيس مجلس إدارة «معهد أبحاث السعادة» الدنماركي، فإن تأمين هذه الضرورات الحياتيَّة يُتيح للمواطن الدنماركي حريَّة إدراك الفاصل بين الثروة والرخاء، فـبعد تحقيق الاحتياجات الأساسية كلها، لا يعني المزيد من المال مزيدًا من السعادة ، وبدلًا من هذا يبرع الدنماركيون في التركيز على ما يُحسِّن حياتهم.

احتفاء بالجماعة أم خوف من المتفرِّدين؟

الحرس الملكي في الدنمارك
الحرس الملكي في الدنمارك

تتَّسق هذه الرؤية الخاصة بالمتعة المنضبطة لدى الدنماركيين مع مفهوم سويدي قريب هو الـ«لاغوم» (lagom)، ويشير إلى نوعٍ من الاعتدال في كل شيء. يُفترض أن الكلمة مستمدَّة من عبارة شعب الفايكينج (laget om) أو «حول المجموعة»، وتعني أن عليك الاكتفاء برشفة واحدة من الشراب الذي يمرَّر على أفراد مجموعتك، من أجل أن يكفي الجميع.

بعض الاسكندنافيين يقولون إنه بدلًا من الدعوة إلى فضيلة التواضع والاعتدال، يشجِّع مفهوم الـ«لاغوم» على نوعٍ من التطابق الماسخ.

الترجمة المناسبة لكلمة «لاغوم» هي «كافٍ» أو «ملائم تمامًا» أو «متوازن»، ويقال إنها مترسخة في الوجدان الجمعي للشعب السويدي إن لم يكن الشعوب الاسكندنافية كلها، إذ يشجِّع مفهومها على التواضع والعمل الجماعي، وينهى عن الانغماس المتطرف في الملذات، ويرتبط دائمًا بالعدل والحاجة إلى الإجماع والمساواة.

وكثيرًا ما يُجيب المواطن السويدي حين تسأله مثلًا عن قَدر الحليب الذي يريده في شايه، أو عن أخباره، بأن يقول: «لاغوم». هكذا يشترك مفهوم «اللاغوم» مع «الهوغاه» في التعبير عن التجارب الممتعة الصغيرة، كالاستمتاع بقطعةٍ من الكعك لكن دون شراهة، أو تناول العشاء مع الأصدقاء في المنزل دون إسراف وترف.

تذكر الكاتبة أن بعض الاسكندنافيين يجادلون بشأن المفهوم المفترض لكلمة «لاغوم»، ويقولون إنه، بدلًا من الدعوة إلى فضيلة التواضع والاعتدال، يشجِّع على نوعٍ من التطابق الماسخ، كثيرًا ما تُتَّهم به شعوب الدول الاسكندنافية.

ففي رواية (A Fugitive Crosses His Tracks) المنشورة عام 1933 للكاتب الدنماركي النرويجي «آكسل ساندموز»، نتعرَّف إلى العقليَّة الجمعيَّة الإجباريَّة في بلدةٍ خياليَّة صغيرة اسمها يانتي، ويسرد الكاتب في الرواية عشر قواعد قاسية يحيا بها أهل البلدة؛ منها «لا تحسب أنك متميِّز»، و«لا تحسب أنك بارع في أي شيء»، و«لا تتصوَّر أنك أفضل منا».

وفي مقالٍ كتبه لمجلة TIME عن أحلام الشهرة في شبابه، يحكي الكاتب النرويجي «كارل يوف كناوسغار» تجربته مع شيءٍ يُعرف في الدول الاسكندنافية باسم «قانون يانتي».

يقول: «لم يكن الأمر يستدعي أكثر من قبعة أو سراويل غريبة المنظر بعض الشيء، حتى يطردك الناس من بينهم أو يضحكوا منك أو يتجاهلوك في أسوأ الحالات، وكان أسوأ ما يمكن أن يقوله أحدهم عنك هو: إنه يحسب نفسه مميزًا».

هكذا يقدِّم مفهوم «اليانتي» الجانب المخادع من مفهوم «اللاغوم»، فبدلًا من الاحتفاء بالتواضع، يصبح التفرُّد تهديدًا للمجموعة، ما يؤكِّده روبرت شابلن في مقاله (Letter from Copenhagen)، حين اقتبس كلام مواطن دنماركي قال: «لا ينبغي أن يكون الأجنبي مختلفًا عنا أكثر من اللازم إذا أراد أن نحبَّه. إننا نريد أن يكون الجميع مثلنا، لأن هذا يمنحنا ثقةً في أنفسنا ».

تصف الكاتبة لويزا تومسن بريتس «الهوغاه» بأنها حالة من اليقظة والانتباه، تجعل المرء قادرًا على العثور على البهجة والجمال في أكثر الواجبات الحياتيَّة بساطةً، وتتيح له أن يمارس حياته مندمجًا مع أحبابه.

ويركِّز كتابها (How to Hygge) على الركائز الفلسفية والروحانية لهذا المفهوم، قائلةً إن كثيرًا من العائلات الدنماركية لا تزال تحتفظ بنُسخ من كتب الأغاني الشعبية القديمة، يستعينون بها لتوكيد أفكار البساطة والبشاشة والمشاركة والترابط المجتمعي والانتماء، وتضيف أن الدنماركيين يحبُّون التجمُّع في مجموعاتٍ صغيرة على سبيل تقوية وحدة علاقاتهم الأقرب.

غير أن بريتس تعترف كذلك بأن هذه الصفات بالتحديد هي ما يشوب «الهوغاه» بالتناقض؛ فـما قد يبدو للبعض شيئًا لطيفًا متواضعًا الغرض منه تقوية الصلات المجتمعية، يبدو للبعض الآخر دلالةً على الانعزال والرفض لكل ما هو مختلف أو غير مألوف. ومع أن الدول الاسكندنافية الثلاث معروفة بالتسامح، فهناك توتُّر لا شك فيه هذه الأيام تجاه المهاجرين الجدد.

وحدث بالفعل أن سعى أهل هذه الدول إلى دعم مجموعات اليمين المتطرف. وتدلِّل كاتبة المقال على هذا بحوار المؤرِّخ الدنماركي بو ليديغارد مع The New York Times في سبتمبر 2016، الذي قال فيه: «لدى الدنماركيين اعتقاد قوي بأننا شعب متعدِّد الأعراق، لكننا لسنا ولا ينبغي أن نكون شعبًا متعدِّد الثقافات».

نعم، نحن برجوازيون

الاستمتاع بالوقت في كوبنهاجن
مواطنون يستمتعون بوقتهم في العاصمة الدنماركية كوبنهاجن - حقوق الصور: Pixabay - faverzani

لعلَّ أبرز ما يميِّز «الهوغاه» أن أنصارها يعتبرون الرخاء شيئًا مسلَّمًا به ، فالتشجيع الدائم على اللجوء إلى منتجات الحرف اليدويَّة الأرفع من غيرها والتصميمات الاسكندنافية، والحكي عن التجمع اليومي للأصدقاء أو الأهل عند المدفأة مع المخبوزات الطازجة، يعطي المرء تصوُّرًا عن مستوى معيَّن من الثروة والكثير من وقت الفراغ.

كفلسفة حياتيَّة، لا تخجل «الهوغاه» من الاعتراف ببرجوازيَّتها، وثمة قرَّاء أمريكيون معيَّنون يألفون صورها المميَّزة، كيدٍ ممسكة بكوب مشروبٍ دافئ، أو الشموع المضاءة على طاولة نزهة خلويَّة عند الغروب، أو الدرَّاجات ذات السلال المجدولة، أو مقاعد الأطفال المستندة إلى جدار من القرميد الملوَّن.

أهم درس نتعلَّمه من الشتاء الاسكندنافي القارس أنه لا يوجد طقس سيئ، بل ملابس غير ملائمة فقط.

تقول ألتمان إن الأمريكيين يدركون هذه الأشياء بالفعل، فقد تطلَّعوا إليها لزمنٍ طويل، أمَّا ما لا يتطلَّعون إليه فهو الضرائب المرتفعة أو الأفكار الاشتراكيَّة كما في الدول الاسكندنافية؛ فعند نقل العادات التي يعتبرها الاسكندنافيون طابعًا قوميًّا إلى الولايات المتحدة، يصبح أسلوب الحياة هذا ما هو إلا مجرد تعبير عن الحالة الاقتصاديَّة، وهي الفكرة التي سعى الاسكندنافيون للتخلص منها بالأساس.

في النهاية، ثمَّة أشياء يستطيع الأمريكيون، ويمكننا جميعًا، الاستفادة بها من «الهوغاه»؛ كإصرار أهل الدول الاسكندنافية على الإلمام بممارسة المهام المفيدة وإجادتها، والعناية بالصحَّة البدنيَّة عن طريق قضاء بعض الوقت خارج المنزل بصفة يوميَّة، أمَّا أهم درس نتعلَّمه من الشتاء الاسكندنافي القارس فهو أنه لا يوجد طقس سيئ، بل ملابس غير ملائمة فقط، وأن ما نحتاجه لتجاوز الأوقات الصعبة هو المأوى والمأكل والأهل والأصدقاء لا أكثر.

مواضيع مشابهة