تخيل إنسانًا في غيبوبة، ثم فجأة يستيقظ هذا الإنسان. ما الفرق بين حالة الغيبوبة وحالة الاستيقاظ؟ تخيل أنه في مكان واسع دون أبعاد، تخيل أنه لا جسد له، ما معنى استيقاظ هذا الإنسان؟ الإجابة أنه موجود، لكن أي شيء تغير في هذا الكائن حين كان نائمًا في سبات ثم استيقاظه؟ ما الأشياء التي تولدت فيه، التي غمرته، حتى نتعرف إليه على أنه إنسان، واحد منا وليس ميتًا؟
«مارتن هايدغر»، الفليسوف الألماني، اعتقد أن السؤال الأهم، أي السؤال عن الوجود، صار طيَّ النسيان.
يرى هايدغر في كتابه «الكينونة والزمان» أن الانشغال بأي شيء حولنا، كقصص الحوادث، هذا وجود زائف. الوجود الحقيقي هو استذكار الحقيقة الكبرى، أنك موجود، وفي أي لحظة قد يُسلب منك هذا الوجود كله. في هذا الكلام نغمة قريبة من الصوفية، وفعلًا، اتَّهم عدد من المفكرين فلسفة هايدغر بالغموض والتصوف. لكن، أليست مهمة الفلسفة العودة إلى الوراء، إلى البدايات الأولى لأصول الأشياء؟
ليس من الغريب اهتمام مارتن هايدغر في كتاباته بحالة الوعي أو الشعور أو الوجود، ورغبته في مساءلة هذه الحالة كي يستطيع أن يفهم بعد ذلك أي شيء، فـ«الوجود هو أكثر ما في الوجود غموضًا»، كما يقول نجيب محفوظ في رواية «ليالي ألف ليلة».
الوعي أو الشعور من الظواهر المحيرة في الحياة، لو عرَّفنا الوعي على أنه إدراك الأشياء وفهمها، وأعطينا روبوتًا القدرة على الفهم والتمييز، فهل يصير الروبوت إنسانًا؟
بالطبع ستكون الإجابة لا، الروبوت ينقصه شيء في هذه الحالة، شيء يجعله يختلف عن أي واحد من أصدقائنا، وسيكون من السذاجة أن أتعامل مع روبوت كما لو كنت أتعامل مع صديقي.
اعتقد «باروخ سبينوزا» أن ما يُبعث بعد الموت هو العقل المجرد، العقل الخالي من الذات والأشياء، عقل الفرد في هيئته البحتة.
يقول علماء النفس التطوريون إن الشعور هو استعداد وجاهزية عند الإنسان لمواجهة محيطه وتلبية احتياجات بقائه. فمثلًا، الشعور بالخوف يغمرنا حين نواجه أسدًا مفترسًا، أو عند خشية السقوط من مكان مرتفع، وكذلك باقي المشاعر كالقلق والتوتر واللذة والفرح.
كل هذه المشاعر تؤدي وظيفة تنبيه وتحذير الإنسان من محيطه، ترسل إليه إشارات ونداءات للتحرك والتصرف، أو تكافئه على فعل صحيح حتى يكرره في ما بعد. المشاعر هي الملاك الحارس لنا، أو شخص أكبر في السن موجود داخلنا، شخص أكثر حكمةً ودرايةً بالحياة يساعدنا على اتخاذ الخطوة الصحيحة.
ينظر هؤلاء العلماء إلى المشاعر كغريزة في الإنسان، آلية طورناها مرةً بعد أخرى كي يعمل الإنسان بكفاءة بصورة أوتوماتيكية دون الوقوع في أخطاء، دون الحاجة إلى أن يبدأ الحياة كما لو أنه أول إنسان يظهر على الأرض.
هذه الأشياء موجودة أو يوجد شبيه لها في الحيوانات كالكلاب والقطط، التي تشعر بالجوع فتتحرك للبحث عن الطعام، أو تشعر بالرغبة في الجنس فتلتفت حولها بحثًا عن قرين يناسبها، لكن كل هذه المشاعر لا تجعل منها بشرًا رغم ذلك.
اقرأ أيضًا: استشراف المستقبل: ما يميز الإنسان حقًّا عن غيره من الكائنات
لو نظرنا إلى طفل يستيقظ من نومه، أو رجل يجلس في حديقة، أو امرأة تجلس على السرير وتشرب كوب شاي، ما هذا الشيء السائل داخل كلٍّ منهم الذي يجعلنا لا نتردد في القول بأنهم كائنات تعيش تجربة الحياة كإنسان، ونتأكد من نظرة واحدة إلى عينيه أو حركة يديه أنه إنسان؟
أريد أن أركز على الشعور بالحياة، فقط هذا الشعور، شعور أنك حي وموجود في الزمن، شعور أنك مقيد بالحياة تتمرغ فيها غائص في بحورها.
ما أن تستيقظ حتى تتعرف إلى الحياة، تحس بشيء تعرفه، فأنت لم تتحول اليوم إلى حجر أو خشبة أو عصفور أو طبق استقبال على السطح. منذ أول ثانية تفهم أنك حي وأنك إنسان، وأنك موجود في العالم. ما الذي حدث فجأةً وجعلك تنتقل من السبات إلى الحياة؟ ما هذه الحالة؟ ما عناصرها وخصائصها؟ ما الشيء الذي لو نقص ستدرك أنه «لا، ليست هذه هي الحياة»، بل شيء آخر لم تجربه من قبل؟
وفقًا لـ«ويل ديورانت» في كتابه «قصة الفلسفة»، اعتقد الفيلسوف الهندي «باروخ سبينوزا» أن ما يُبعث بعد الموت هو العقل المجرد، العقل الخالي من الذات والأشياء، عقل الفرد في هيئته البحتة.
في نفس الوقت، قارن سبينوزا مفهوم الإرادة الحرة عند الإنسان بصخرة مقذوفة في الهواء ثم إذ بهذه الصخرة تعتقد أنها حرة في اختيار مسارها وفي اختيار المكان الذي ستسقط فيه. كل هذه الأسماء، الشعور أو النفس أو العقل المجرد أو الإرادة، كان هدفها الإمساك بهذا الشيء الذي ندرك أنه فينا.
هل ربما تكون وظيفة الشعور عند الإنسان هي جلب معلومات من الخارج؟
ردًّا على هذا السؤال، هناك قصة وردت في كتاب «أقدِّم لك الشعور» عن فتاة عاشت طول عمرها في غرفة لا ألوان فيها سوى الأبيض والأسود، لم ترَ أبدًا في حياتها ألوانًا أخرى، كل معرفتها عن الألوان أتت من كتاب عن الألوان، لكنه لا يحتوي أي صورة ملونة.
ذات يوم، خرجت الفتاة من المنزل ورأت وردة حمراء. الفتاة كانت تعرف كل المعلومات عن ماهية اللون الأحمر والطول الموجي له، ورغم كل هذا دخل شيء جديد في نظامها، اقتحمها شعور لا يُنسى برؤيتها اللون الأحمر لأول مرة.
قسَّم «جان بول سارتر» الحياة إلى لحظتين فقط: لحظة «الوجود في ذاته»، ولحظة «الوجود لذاته».
يقدم الفليسوف «فرانك جاكسون» هذه القصة ليقول إن الفتاة تعلمت شيئًا جديدًا، شيئًا يختلف عن المعلومات أو الفهم، بمعنى أن الشعور حالة ذهنية تختلف عن تجميع المعلومات ووضع الأشياء في خانات وجداول، ومن هذه القصة يستنتج جاكسون أن الشعور هو شيء آخر.
لعل الغباء، أو «نسيان الوجود» بتعبير هايدغر، هو الاستجابة للنظام الذي يحركنا دون الانتباه إلى دوافع وأسباب ما نفعله، الانجراف مع التيار دون التوقف للتأمل والاندهاش، بل ربما اعتبرنا هذا الانجراف نفسه عنوانًا للذاتية والإرادة الحرة.
قد يكون الشخص العبقري في التاريخ هو الذي يكتشف الدوافع أو النُّسق التي تحرك البشر، والسلسلة التي تربط كلامهم وأحاسيسهم. الشخص العبقري هو من يفلت من هذه الدائرة ويقرر عدم التحرك، فيكتشف سر الحركة، أو على الأقل يعطينا أحد مفاتيح حل هذا السر.
«أنطونيو بورشيا»، الشاعر الأرجنتيني، واحد من هؤلاء العباقرة وأعطانا أحد المفاتيح في ديوانه «Voices» وهو يتحدث عن الناس: «يظنون أن الحركة هي الحياة فيتحركون، لا ليحيوا، بل ليظنوا أنهم يحيون»، ومفتاحًا آخر: «كلما لمستُ الأشياء بيدي شعرت أني أموت قليلًا».
قد يهمك أيضًا: الوعي: محاولات اصطياد شبح
إدراك الإنسان للزمن هو ما يميزه عن باقي الكائنات، ربما الشعور هو الإحساس بأن شيئًا قد حصل في السابق وشيئًا آخر سيأتي، التعامل مع الزمن كشيئ منفصل غير مترابط هو حالة الطفل الرضيع أو المجنون، إدراك الإنسان للزمن يولِّد عنده الحزن والحنين والتعاطف والتوتر والخوف، كما يقول «ديفيد هيوم» في كتاب «مبحث في الفاهمة البشرية»، إذ يضع الإنسان افتراضًا أوليًّا أن كل شيء رآه سيتكرر، والرهان أن «الأشياء ستتكرر» هي الفرضية الأولى للمعرفة.
في كتابه «الوجود والعدم»، يقسِّم «جان بول سارتر» الحياة إلى لحظتين فقط: لحظة «الوجود في ذاته»، ولحظة «الوجود لذاته».
لحظة الوجود في ذاته هي اللحظة التي يعمل فيها الإنسان ويختلط بالآخرين ويقابل أصدقاءه ويشترك في الحديث، ولحظة الوجود لذاته هي اللحظة التي يلغي أو يعدم الإنسان كل هذا، يفكر عندها في كل شيء فعله في الماضي ويفكر في ما سيفعل بعد انتهائه من هذه اللحظة.
«الوجود لذاته» لحظة هَمّ، لحظة غربة، «الوجود في ذاته» قفز بالباراشوت نحو العالم والبشر وكل شيء هناك، يسقط الإنسان من سحابة الأفكار ليقع في إحدى الشخصيات على الأرض.
الوجود لذاته بفهم سارتر مصطلح أكثر حريةً من مفهوم أرسطو عن الوجود بالقوة أو صيرورة الإنسان نحو غاية وجوده، أي من الجوهر إلى الصورة، لكن سارتر اتبع هو الآخر المدرسة الوظيفية في علم النفس، التي تقوم على أن كل شيء في نفس الإنسان له وظيفة ويؤدي غرضًا ما.
دعنا نفرِّغ مفهوم الإنسانية حتى من لحظة التأمل هذه، من وظيفة لحظة الوجود لذاته، سنجد أن الشعور شيء مدهش في صورته الأولى دون أي غطاء، الشعور في اللحظة الأولى للاستيقاظ، الشعور الذي نكتسبه دون أي حيلة من جانبنا. لو أعيد سارتر إلى الحياة سنصنع له حفلًا ونقول له: أنت حي يا سارتر مرةً أخرى، أنت موجود في الزمن، الزمن لم يتركك وراءه، الوجود الذي وصفته في رواياتك انطلق فيك مرةً أخرى.
تختلط الأزمان ببعضها فتنتج الحالة الإنسانية. لو رأيتُ قطي يتذكرني سأحبه لأني رأيت فيه الآن شيئًا إنسانيًّا، ولو رأيت هذا القط مثلًا يقفز ويموء ليشير لي نحو فتاة أنا معجب بها، سأعامله كصديق، ولو وجدت قطي يبتعد عني لأني صِحت فيه بالأمس، سأفهم على الفور أن القط يشعر بالحزن. لعل الشعور بالاستيقاظ، الشعور بالإنسانية، الشعور بالحياة، هو إدراك هجوم الزمن الجديد، متحالفةً معه وإلى جواره كل الأزمنة التي عاشها الإنسان.