الوعي: محاولات اصطياد شبح

الصورة: Getty/Xuanyu Han

محمد جمال
نشر في 2017/11/01

«لماذا نحن هنا؟ لماذا نحن هنا، أظن أن هذا بشكل ما سيظل لغزًا، لكن..

لماذا الحياة ممكنة؟ هذا سؤال ربما ستكون إجابته أوضح بشكل ما، أظن أنه كذلك بالفعل، لأن كثيرًا من الأسباب التي تجعل الحياة ممكنة صارت أكثر وضوحًا في القرنين الأخيرين بفضل الكيمياء والفيزياء، ومزيد من هذه الجوانب، على ما أظن، سيصير جليًّا مع الوقت، أما الوعي.. أميل إلى الاعتقاد أن الوعي سيظل لغزًا، نعم، هذا ما أظنه.

أظن أن الكيفية التي يعمل بها المخ الواعي ستتضح بشكل كبير. علماء البيولوجيا، وربما الفيزيائيون أيضًا، سيفهمون أكثر كيف يعمل المخ، أما لماذا يوجد هناك شيء نسميه الوعي، أظن هذا سيبقى لغزًا.

يسهل عليَّ تخيل أننا سنفهم الانفجار الكبير، أكثر مما أتخيل أننا سنفهم الوعي».

- «إدوارد ويتن».

تساؤلات ما بعد منتصف الليل

الصورة: SplitShire

تقدم الأديان تفسيرًا لحقيقة الروح، أما الفلسفة فتأتي لتزيد الأمر تعقيدًا، وتتأكد من أن الراحة من هذا التساؤل لن تحدث.

هل شعرت يومًا أنك تنظر إلى العالم عبر نوافذ؟ وكأنك، أنت، تسكن داخل مسكن، رداء، قشرة خارجية هي جسدك؟

من أنت؟ لا أتساءل عن اسمك أو وضعك الاجتماعي والوظيفي، ربما يكون السؤال الأدق هو «ما» أنت؟ ما الجزء أو الشيء أو الكيان الذي يجعلك أنت، أنت؟ وأنا أنا؟ وكل فرد هو ذاك الفرد تحديدًا وليس أي شخص آخر؟

غالبًا تساءلتَ أيها القارئ مثل هذه التساؤلات يومًا، الجميع فعل في لحظة أو أخرى. ربما هذا السؤال بالذات، بصورة أو بأخرى، قَديم قِدم قُدرة الإنسان على التفكير أساسًا، فالأديان تأتي لتقدم تفسيرًا عن حقيقة الروح الموجودة داخل كل منا، وهي تفسيرات قاطعة نهائية بالنسبة إلى المؤمنين، تريح من التساؤلات، أما الفلسفة فتأتي لتزيد الأمر تعقيدًا وتتأكد من أن الراحة من هذا التساؤل لن تحدث، وسيظل السؤال عن حقيقة الوعي داخل الإنسان قائمًا منذ أرسطو حتى هذه اللحظة.

لن أحاول الخوض في مفهوم الوعي في الفلسفات والأديان، لأن الأمر متشعب بشكل مريع، وأنا ببساطة أحمق كبطة في مثل هذه الأمور. إن رغبت أن تفعل، عليك بالروابط المتضمَّنة في الفقرة السابقة، ستقدم لك طرف خيط سيقودك إلى متاهة قد تبتلعك إلى الأبد، وعندها تصير فيلسوفًا أو كاهنًا أو سيكولوجيًّا، وفي جميع الأحوال مجنونًا، فحظًّا سعيدًا.

بدلًا من هذا، سأحاول الحديث عن المنهاج العلمي في البحث عن آثار فيزيائية ملموسة، فربما يكون هذا أيسر في الفهم.

اقرأ أيضًا: كيف تطور الوعي البشري عبر التاريخ؟

عن ماهية الوعي، ومحاولات تجسيد ذلك «الشبح»

«أنطونيو داماسيو» يحاول البحث عن تعريفٍ لوعي الإنسان

لم يتفق العلماء على تعريف ملائم للوعي، لكن هناك وصفًا بسيطًا قد يتفق أغلبهم عليه، أن «الوعي هو ما نفقده عندما ندخل في نوم عميق دون أحلام، أو غيبوبة، ونستعيده عندما نستيقظ».

درس العلماء المصابين في المخ، فوصلوا إلى منطقة تضررت بشدة عند أغلب من وقعوا في غيبوبة، وما زالت سليمة عند الواعين.

يفترض العلماء أن الوعي ينقسم إلى عنصرين رئيسيين، كلاهما ضروري كي يعتبر الإنسان في حالة وعي:

  1. الإثارة (Arousal): الاستجابة الحسية لمؤثرات العالم الخارجي، خصوصًا اللاشعورية منها، مثل الصور الكلاسيكية لطبيب الأعصاب الذي يطرق طرف ركبتك المثنية بمطرقة، فتنطلق الساق مفرودة في ما يشبه الركلة. والإثارة عنصر فسيولوجي حسي، والمسؤول عن حالة الإثارة في المخ هو جزء من منطقة جذع الدماغ.
  2. الانتباه (Awareness): يسمح لنا باستقبال المعلومات التي توفرها الحواس الخمسة، ثم إدراكها ومعالجتها. وللانتباه مركَّب سايكولوجي يختلف حسب عقل وتفكير كل فرد على حدة،  وعنصر فسيولوجي، على حسب الحالة الفيزيائية والكيميائية للمخ. لكن أي منطقة بعينها في المخ؟

دراسة الإثارة ممكنة إلى حد كبير، نظرًا لأن الموقع المسؤول عن تلك الحالة معروف، لكن المنطقة المسؤولة عن حالة الانتباه ما تزال غامضة إلى حد كبير.

مؤخرًا، توصل علماء في جامعة هارفارد إلى ما يمكن أن يكون المكان المسؤول عن حالة الانتباه، بعد إجراء تجربة درسوا فيها وحللوا عددًا من المصابين في المخ، بعضهم كان في غيبوبة وآخرون واعون، فوصلوا إلى منطقة بعينها تضررت بشدة عند أغلب الواقعين في غيبوبة، وما زالت سليمة عند أولئك الواعين.

بمزيد من البحث على خرائط مرسومة لأدمغة سليمة، وجد العلماء أن هذه المنطقة متصلة بالمنطقة المسؤولة عن «الإثارة»، مما يرجح أن المنطقة المحددة حديثًا قد تكون هي المسؤولة عن العنصر الثاني الغامض من الوعي، الانتباه.

قد يهمك أيضًا: كيف يفتح الوعي بوابة الرعب؟

اكتشاف آخر مثير في 2014، حين اكتشف الباحثون منطقة في المخ، بالتأثير عليها بشحنة كهربية يفقد المريض الوعي فورًا، وكأنها تعمل كزر لإيقاف وتشغيل الدماغ.

في مقطع الفيديو بالأعلى يتحدث البروفيسور «أنتونيو داماسيو»، الباحث في علم الأعصاب والعلوم السيكولوجية، عن عدة تقنيات وأساليب جديدة للغوص في أعماق المخ البشري للبحث عن الوعي، ذلك المجهول.

الملاحَظ في كل التجارب والتقنيات والأبحاث المذكورة حتى الآن أن كلُّها يعتمد على الملاحظة والتسجيل، وهي طريقة معملية فعالة لإيجاد إجابات لأسئلة «كيف...؟»، لكنها غير كافية أبدًا لإجابة أسئلة «لماذا...؟».

لإجابة أسئلة «لماذا»، نحتاج إلى نظريات كبرى تقترح نماذج تفسيرية واسعة، مثل قوانين نيوتين ونظريات آينشتاين في الفيزياء. ورغم وجود نظريتين في الوعي يُنظر إليهما باحترام في المجتمع العلمي، لم يصل أيًّا منهما بعد إلى إيجاد التفسيرات التي تحتاجها العلوم في هذا الشأن.

عقبات رئيسية في دراسة الوعي

 

«ديفيد تشارلمز» يتحدث في مؤتمر «TEDx» عن الوعي

الوصول إلى مفهوم ومعنى للوعي لن يحدث بشكل كامل بمناهج البحث الحالية، فالحل لن يأتي إلا بإقتراح أفكار راديكالية ثورية.

في 1994، أصدر الفيلسوف الأسترالي «ديفيد تشارلمز» ورقة بحثية بعنوان «مواجهة مشكلة الوعي»، يوضح فيها لماذا يشكل الوعي ظاهرة عصية على الفهم والدراسة. لم يكن تشارلمز أول من يفعل، لكنه كان أول من يصنف مشكلات دراسات الوعي إلى نوعيين رئيسيين:

1. المشاكل السهلة: تبحث مسائل مثل كيف يتلقى العقل المعلومات المختلفة؟ وكيف يتعامل معها ويعالجها؟ وكيف نركز انتباهنا أو نشتته؟

رغم أن هذه المسائل ليست سهلة أبدًا (لا شيء يتعلق بالعقل والمخ يمكن اعتباره سهلًا)، فإنها تعتبر كذلك لأنها تقع ضمن نطاق العالَم الفيزيائي الملموس، ولحلها نحتاج إلى أبحاث معملية ستصل عاجلًا أم آجلًا إلى إيجاد ميكانيزمات (آليات) عمل المخ التي تؤدي إلى هذه التصرفات. وطالما الأمر محكوم في نطاق فيزيائي مادي، فإيجاد حله سيكون مسألة وقت ليس إلا.

2. المشاكل الصعبة: المسائل من نوعية لماذا يحدث الوعي في الأساس؟ لماذا تُنتج هذه العمليات والميكانيزمات الفيزيائية منتجًا نسميه الوعي، بدلًا من أن تؤدي إلى شيء غيره؟ بدلًا من أن لا تؤدي إلى أي شيء على الإطلاق؟

ما يجعلها صعبة أنه لا يمكن أبدًا أن نشير إلى ميكانيزم ما ونصيح: «هذا ما يجعل الوعي وعيًا». هذا أمر غير ممكن ببساطة لعدم وجود أي مرجعيات ثابتة يمكن العودة إليها كنموذج تفسيري، مثلما هو الحال في الفيزياء مثلًا، ستعود دومًا إلى الكتلة والزمن والإزاحة كعناصر أساسية تُستخدم لتفسير كل شيء.

بسبب ما اعتبره «مشكلات صعبة»، آمن تشارلمز أن الوصول إلى مفهوم ومعنى الوعي لن يحدث بشكل كامل بمناهج البحث الحالية، وبدلًا من ذلك يقترح (شاهده يفعل في الفيديو السابق) أن الحل لن يأتي إلا باقتراح أفكار راديكالية ثورية، أفكار قد تبدو مجنونة في البداية، لكن ربما بالنظر والبحث فيها أكثر قد تؤدي إلى فهم علمي للوعي، وربما إلى رؤية الوجود كله بنظرة مختلفة.

يتحدث الفيلسوف الأسترالي في مؤتمر «TEDx» عن فكرتين تديران الدماغ:

  1. اعتبار الوعي ذاته عنصرًا أساسيًّا مرجعيًّا مثل عنصر «الكتلة» في الفيزياء، وبالتالي قياس كل شيء بالنسبة إليه.
  2. ربما كل شيء في الوجود على درجة من الوعي، حتى الفوتونات قد يكون لديها شيء من الوعي.  

استمع إلى تشارلمز يتحدث، وحاول أن تحافظ على وعيك الخاص من التشتت.

قد يعجبك أيضًا: التدفق: وصفة الإنسان الخارق

الفيزيائي «إدوارد ويتن» يتحدث عن فهم الوعي وكيف يعمل مخ الإنسان

في الجزء التالي، سأترك الفيزيائي «إدوارد ويتن»، صاحب نظرية «الأوتار الفائقة»، الذي يعُده كثيرون أذكى العلماء على قيد الحياة الآن، يتحدث عن الوعي، ليستكمل الجزء الذي بدأنا به هذا الموضوع:

«يسهل عليَّ تخيل أننا سنفهم الانفجار الكبير أكثر مما أتخيل أننا سنفهم الوعي.

ربما لن يظل لغزًا إذا حدث تعديل رئيسي في قوانين الفيزياء عندما تنطبق على المخ، لكن لا أظن هذا سيحدث، أشك أن مثل هذا قد يحدث في الفيزياء.

لن أحاول أن أضع تعريفًا للوعي، لنفس السبب الذي يجعلني لا أعتقد أنه سيصير جزءًا من الفيزياء.

أظن أني لن أقول شيئًا بشأنه، سأتركه كما هو، تعبير غير معرف، مثل تلك التعبيرات غير المعرَّفة في بداية كتب الرياضيات».

مواضيع مشابهة