«وفقًا لنتائج الدراسة، فإن المستقبل يحمل لنا عالمًا أموميًّا تسود فيه النساء».
كتبت «سوزان بينكر» هذه الجملة في كتابها «The Sexual Paradox» منذ عقد مضى، ولا تزال تتبنى النظرية نفسها حتى اليوم، إذ أظهر بحث أُجرِيَ عام 2014 تفوُّق الفتيات في المدارس بشكل عام في الفترة من 1914 إلى 2011، وهذا يعني أن هناك تقدمًا للإناث في الدراسة، لكن لماذا لا يقابله تقدم في الأجور أو المناصب الرفيعة لاحقًا في سوق العمل؟
لم يتغير رأي بينكر منذ خرج كتابها للنور عام 2008، فهي ترى أن تفوق الإناث في المدارس لا يُتَرجم في سوق العمل إلى تفوق مماثل بسبب اختلاف تفضيلات النساء عن الرجال، واختلاف أسلوب حياتهن، وهي أمور تحكمها الخلفيات الثقافية، وهذه التفضيلات جزء أساسي في تفسير مسألة سلوك الرجال والنساء مسارات وظيفية مختلفة عن بعضهم. ما زال التمييز جزءًا أساسيًّا من التفسير، لكنه في الحقيقة ليس كل شيء.
تفضيلات النساء في العمل
يهتم معظم الرجال بالظهور والنجاح الشخصي، أما النساء فبالعدل والاستثمار في المجتمع.
حين صدر، كتبت صحيفة «نيويورك تايمز» عن كتاب بينكر أنه يمثل طلقة مدوية في تاريخ الصراع بين الجنسين. ومؤخرًا، أجرى موقع مجلة «Nautilus» حوارًا مع بينكر ليعرفوا مزيدًا عن وجهة النظر التي تتبناها.
تُظهِر الدراسات أن مسارات النساء المتعلمات الوظيفية تتخذ شكلًا مختلفًا بناءً على اهتماماتهن ورغبتهن الواسعة في الحصول على عمل مرن في وقته، أو بدوام جزئي حين يكون أطفالهن في سن صغيرة. وتميل حياة النساء الوظيفية إلى الاستمرار لمدد أطول من الرجال، إذ يعشن أطول بنسبة من خمس إلى ثماني سنوات، وتتنوع مساراتهن الوظيفية خلال حياتهن.
أظهرت نتائج بحث طويل أُجري منذ عام 2014 على مجموعة من الموهوبين البالغين أن النساء اللواتي لديهن نفس درجة القدرة على الاختيار كالرجال غالبًا ما يخترن مسارات مختلفة في الحياة. أجرى هذه الدراسة «ديفيد لوبينسكي» و«كامليلا بينبو» و«هاريسون كيل» من جامعة «فاندربيلت» بولاية تينيسي الأمريكية، كما يشير المقال.
تتبع الباحثون مجموعة من المراهقين الذين أظهروا قدرة في التحليل الرياضي لأربعة عقود، ليعرفوا ماذا يفعلون في حياتهم. اختلفت الوظائف بين الرجال والنساء، لكن كان لديهم كذلك فروق في التفضيلات والقيم، الأمر الذي لعب دورًا مهمًّا في اختيار الوظيفة.
بالنسبة إلى الرجال، كان معظمهم يهتمون بالظهور والنجاح الشخصي، وشعروا أن المجتمع يجب أن يستثمر فيهم لأن أفكارهم أفضل من الآخرين، وركزوا في العموم على أهدافهم وعلى تحقيق أشياء ملموسة، أما النساء، ففي العموم كُن مهتمات بالعدل، أي بحصول كل شخص في المجتمع على ما يحتاجه، وأن يكون لهن دور في تحقيق ذلك، وركزن أكثر على الاستثمار في أن يكون المجتمع صحيًّا وصالحًا للجميع.
كثر عدد الرجال في مجالات العمل المتعلقة بالعلوم والتكنولوجيا، فيما ارتفعت نسبة النساء في مجالات الطب والصحة والقانون والتعليم.
وبسؤالها عن اهتمام الرجال والنساء بالعمل بدوام جزئي، قالت بينكر إنه في هولندا على سبيل المثال، حيث العمل بدوام جزئي أمر يكفله القانون، كان أغلبية الذين قرروا العمل بدوام جزئي من النساء، و62% منهن ليس لديهن أطفال، فهن يعملن بدوام جزئي لأن هناك أولويات أخرى في حياتهن، كالعلاقات والأصدقاء والاهتمامات الأخرى.
حين ننظر إلى البيانات في أمريكا الشمالية، نجد أن ثلثي الأشخاص الذين اختاروا مواعيد عمل مرنة في الصناعات التي يتوفر فيها هذا الخيار كن من النساء، ومعظمهن أمهات.
يحدث هذا، وفقًا لبينكر، لأن النساء يقسن نجاحهن بعدة عوامل، كالعائلة والأصدقاء والاهتمامات، بدلًا من الاعتماد على عامل واحد هو العمل.
هذه الاهتمامات المتنوعة عملت على حماية النساء بعد الأزمة المالية في عام 2008، فعدد أقل من النساء كن عاطلات عن العمل، وكان عدد المنتحرات بسبب الخسارة المالية والشخصية أقل في النساء كذلك.
اقرأ أيضًا: كيف يؤثر عمل المرأة أو بقاؤها في المنزل في مستقبل أطفالها؟
تفاوت الوظائف والمساواة
كلما أتيحت للفتيات مساحة أكبر في الاختيار، اخترن مجالات بعيدة عن العلوم والتكنولوجيا.
أظهرت دراسة اهتمت بالبحث في الأداء الأكاديمي لنحو نصف مليون مراهق من 67 دولة مختلفة أن الدول التي تزيد فيها المساواة ويتاح للمرأة مساحة اختيار أكبر في مجال الدراسة والعمل، كان من الواضح أن اختيار النساء للمجالات المتعلقة بالعلوم والتكنولوجيا في الجامعات يقل.
فالدول التي تتوفر فيها حماية اجتماعية وقانونية قوية للمساواة بين الجنسين، مثل السويد والنرويج وفنلندا، يقل فيها دخول النساء إلى الكليات المتعلقة بالعلوم والتكنولوجيا إلى 20%. على النقيض، تزيد نسبة وجود النساء في الدول التي تغيب فيها حماية المساواة، مثل الجزائر والإمارات وتركيا وألبانيا، بمساحة تمثيل في المجالات المتعلقة بالعلوم والتكنولوجيا، وتقترب تقديرات الباحثين في هذه الحالة لوجود النساء من نسبة 41%.
تعتمد المسألة هنا على الأداء الجيد للفتيات في الرياضيات والعلوم في المدرسة الثانوية، دون النظر إلى أي مهارات أخرى.
النتيجة التي انتهى إليها البحث، حسبما يورد المقال، أنه كلما أتيحت للفتيات مساحة أكبر في الاختيار، اخترن مجالات بعيدة عن العلوم والتكنولوجيا. لكن الدول التي تغيب فيها المساواة بين المرأة والرجل كانت النساء تشعر فيها بضرورة الحاجة إلى خوض هذه المجالات كدلالة لإثبات التفوق.
كشفت دراسة أخرى هذا التأثير المتناقض عام 2008، وأثبتت أن اختلافات الشخصية بين الجنسين ترتفع في البيئات الثقافية التي تتحقق فيها فرص المساواة وقوانينها، وهذا شيء لا يمكن توقعه لو كانت اختيارات الرجال والنساء مرتبطة حصرًا بالبيئة الثقافية المحيطة.
تصوُّر النساء عن الوظيفة المثالية مختلف، فنحن حين نسأل النساء عن الوظيفة المثالية، سيجبن، وبخاصة المتعلمات منهن، بأنهن يردن العمل مع أشخاص يحترمونهن، وأن تكون الوظيفة مرنة في مواعيدها، ولها معنى، وتفيد المجتمع، ومعظم الوظائف المتعلقة بالتكنولوجيا لا تحقق هذه الرؤية.
قد يعجبك أيضًا: هل ينبغي أن يكون العمل الغاية الأساسية من حياتنا؟
هل يتفق علماء النفس مع هذا التفسير؟
ناقشت بينكر هذا التفسير مع «ويندي ويليامز»، الكاتبة المشاركة في كتاب «Why Aren’t More Women In Science»، واتفقت الاثنتان على أن الفتيات يخترن توظيف مهاراتهن في المجال الذي يحببنه إذا كانت البيئة حولهن توفر حياة جيدة، وقد يكون هذا في العلوم والتكنولوجيا، أو القانون مثلًا، أما حين توفر البيئة خيارات محدودة، أو حين تصبح مجالات العلوم والتكنولوجيا أفضل الموجود، تركز الفتيات مهاراتهن عليها.
بمعنى آخر: تختار النساء ما تحبه في البيئة التي يشعرن فيها بحرية الاختيار، أما حين تقيدهن الثقافة أو الأمان المالي، يذهبن فورًا إلى المجال الذي يحقق لهن الأمان، أي العلوم والتكنولوجيا.
تؤيد بينكر بالطبع المساواة في الوصول إلى الفرص، لكنها ترى أن هذا لن يعني بالضرورة نتائج متساوية، فالافتراض بأن المرأة مجرد نسخة مقيدة من الرجل، تختار ما يختاره لو أتيحت لها الفرصة، افتراض لا يحترم استقلالية النساء، ولا تدعمه أي بيانات أو دلائل.