عقدة الفطام: بحثًا عن خلطة الانتماء الجديدة

لقطة من فيلم «The Hunger Games» - الصورة: Lionsgate

محمد أشرف
نشر في 2018/04/08

«بالنسبة إلى ألمانيا، تلك الأمة المأساوية التي زرعت الريح والآن تحصد الزوبعة، نحن وحلفاؤنا متفقون تمامًا على أنه لن تكون هناك صفقة مع المتآمرين النازيين، وأننا لن نسمح لهم ولو بِذَرّة سيطرة علنية أو سرية على أدوات الحكم، ولن نترك لهم أي عنصر من عناصر القوة العسكرية الحالية أو المحتملة». الرئيس الأمريكي السابق «فرانكلين روزفلت» في كتاب «The Public Papers And Addresses Of Franklin D. Roosevelt».

انتهت الحرب العالمية الثانية، وبدأت خطط المنتصرين تتشكل لتحجيم دور ألمانيا في السياسة العالمية. من ضمن تلك الخطط كانت خطة مورغنتاو لتجريد ألمانيا من أي مظاهر صناعية قد تدعم الصناعة العسكرية بالتحديد، وتضَمّن ذلك إغلاق المناجم والمصانع، وفرض حدود على الصادرات والواردات، تمهيدًا لتحويل ألمانيا إلى بلد يعتمد في الأساس على الزراعة، بحسب ما جاء في كتاب «هنري مورغنتاو» نفسه، «Germany is Our Problem» (ألمانيا هي مشكلتنا).

خطط أخرى كانت أكثر تطرفًا، مثل خطة اليهودي الأمريكي «ثيودور كوفمان» في كتابه «Germany Must Perish» (لا بد من سحق ألمانيا)، الذي اقترح تعقيم جميع السكان الألمان للتخلص منهم إلى الأبد.

غير أن الخطة الأهم كانت في ما يتعلق بإعادة تشكيل العقل الألماني، عبر زرع ثقافة جديدة من شأنها تحويل المواطن الألماني إلى مواطن على النمط الغربي (الأكثر تسامحًا مع الآخَر)، وهي الخطة التي حاولت البروباغندا الأمريكية تنفيذها بطريقة مثيرة للغاية: مواجهة النازية بنفسها.

الانتماء إلى النازية: المارد الذي بداخلك

الصورة: ArtsyBee

في عام 1945، أُجبِر سكان مدينة فايمر الألمانية على زيارة معسكر الاعتقال النازي «بوخنوالد»، الذي كان قد حُرِّر للتو على أيدي الحلفاء، ليروا بأعينهم جرائم النازية مجسدةً وحيةً أمامهم. صنع الجيش الأمريكي تقريرًا مصورًا لهذه الزيارة، وعرضه بكل بشاعته ليكون ضمن الأفلام المهمة للبروباغندا ضد الفاشية.

في ذلك التقرير يظهر السكان الألمان مصطفِّين لدخول المعسكر، ليشاهدوا ما قُدِّر بـ21 ألف سجين أحياء بالكاد، كانوا كل من تبقى من ربع مليون سجين استقبلهم المعتقل في فترة تمتد منذ إنشائه عام 1937 حتى تحريره عام 1945.

تطرح السلطة فكرتها بشيء من «الإبعاد»، بحيث يبقى جزء منها بعيدًا وغامضًا عن أذهان المنتمين إليها، فيظل الجزء الوحشي مُبعَدًا ومَقصيًّا إلى أن يُعرّى ويُكشَف.

أحد السجناء في بداية الفيلم يكشف قدمه لتظهر أصابعها المبتورة، ثم تبدأ الكاميرا بعرض وجوه السكان الألمان وهم يشاهدون العربات المملوءة بالهياكل العظمية والجثث، يضعون المناديل على أنوفهم هربًا من الرائحة النتنة، تسقط إحداهن مغشيًّا عليها، تحملها الممرضات، ثم يُعرَض على الألمان طاولة كبيرة عليها بعض الكماليات المصنوعة يدويًّا من جلد بشري، لوحات وأباجورات، وأجزاء من أجساد آدمية مقطوعة ومحنطة في الفورمالين، ورأسان لسيدتين، كل منهما تقلصت إلى خُمس حجمها الطبيعي.

هذا التكنيك في التعامل مع الألمان كان غرضه نزع فكرة منتَمًى إليها، وإحلال فكرة أخرى محلها. وكانت الطريقة الأقصر لذلك هي مواجهة أصحاب الفكرة بفكرتهم، مجردة من كل زخرفاتها، ومفصلة ومشروح بها أدق أجزائها خفاءً.

أدرك الأمريكان أهمية التعري لإسقاط الانتماء القديم، فمهما تكن الفكرة التي تطرحها السلطة، لا بد لها أن تُطرَح بشيء من «الإبعاد»، بحيث يبقى جزء منها بعيدًا وغامضًا عن أذهان المنتمين إليها، حتى وإن أُسِّسَت الفكرة نفسها بأكثر الأشكال شراسةً كما فعلت الفكرة النازية، سيظل ذلك الجزء الوحشي مُبعَدًا ومَقصيًّا إلى أن يُعرّى ويُكشَف.

بروفة أخرى نعيشها اليوم للعبة التعري تلك صنعتها الثورات العربية في السنوات الأخيرة، عندما وُضعت الشعوب في مواجهة أكثر أفكارها تقديسًا، واختبار تصوراتها الخاصة عن مفهومي الدين والوطن، التصورات التي أنتجها نسق خاص اتُّفق واعتُمِد في المرحلة اللاحقة لما سُمي ثورات التحرر الوطني ضد المستعمر.

دولة ما بعد الاستعمار أسست نفسها على الوطنية والقومية العربية والوحدة، والشكل الوسطي للتدين الذي لا يخرج عن جدران الكنيسة والمسجد، وبذلت كل شيء لتكريس نمط واحد للمواطن الصالح، لكن ثورات ما سُمِّيَ بالربيع العربي جاءت وزعزعت ملكية هذا النمط، بأن وضعته وجهًا لوجه في المرآة مع أفكاره.

ثورات وحروب: اللعبة الخطرة

الصورة: German Federal Archives

فالثورات والحروب، رغم أنها تمنح شرعية للسلطة للتلويح بعصا الانتماء ضد كل من لا يلتف حولها في هذه الأوقات الحرجة، تمنح كذلك أرضية منبسطة لاختبار تلك الأفكار المقدسة ومراقبة تصرفاتها واختياراتها، ليس باعتبارها أفكارًا منوطًا بها التصرف بواقعية وعملية على مستوى الحدث الحاصل، وإنما كأفكار مُثلى مقدسة كما أحبت هي أن تغرس نفسها في عقول المنتمين.

لذلك، فإن هذه المفاهيم، وفي هذه اللحظة، إما أن تتغير وتتبدل وتختفي الهالة حولها، أو يتغير الشخص نفسه الذي يتبناها، فيتخلى عن سلام المثالية الذي أحاط بالفكرة، وينتقل إلى جحيم التبرير والواقعية الذي يكون مضطرًّا إليه مع كل كبوة تمر بها الفكرة.

اقرأ أيضًا: إسلامي، ثوري، وطني.. كيف شكلتنا مصانع الانتماء؟

الانكشاف: فخ أم لذة؟

لوحة «Narcissus Looking in the Water» - الصورة: Jacques Callot

ما يحدث في السينما شكل متطور مما سماه فرويد «الحصول على المتعة بالنظر إلى الآخرين»، لكن هذه المتعة تأتي مصحوبةً بشعور بالذنب.

في نظرية التحليل النفسي عند المحلل الفرنسي «جاك لاكان»، هناك دائمًا توتر يحيط بفكرة الإدراك الذي يكتسبه الفرد عندما يرى نفسه في المرآة لأول مرة، توتر من فكرة أن نكون موضوعًا للرؤية، في ما يُعرف بـ«مرحلة المرآة»، هذا التوتر ينشأ عنه تصور عن «الأنا»، لكنه يبقى تصورًا متغيرًا وغير ثابت لأن الأنا عند لاكان فكرة متخيلة عن الذات تنشأ بشكل ضبابي، وتتشكل طوال الوقت.

كذلك هناك تشابه بين ما يحدث أمام المرآة وأمام شاشة السينما، فالمُشاهِد لا يرى شخصيات مستقلة عنه، وإنما يرى نفسه مجسدة بمشاعره وتطلعاته وأفكاره.

هذا ما انتبهت إليه الكاتبة والمُنظِّرة «لورا ميلفي» عندما وصلت إلى نظريتها عن المُشاهد، مستندةً إلى تحليل نفسي فرويدي/لاكاني.

رأت ميلفي أن ما يحدث في السينما شكل متطور مما سماه فرويد «Scopophilia»، أو الحصول على المتعة بالنظر إلى الآخرين. لكن هذه المتعة تأتي مصحوبةً بشعور بالذنب.

ما تفعله السينما هو نزع هذه المتعة من الذنب المصاحب لها، وتُرجع ميلفي تَعلُّق الناس بالسينما إلى الإمكانية التي توفرها للحصول على هذه المتعة من خلال مشاهدة أشخاص معزولين وخياليين موجودين فقط خلف الشاشة، بينما يكون المشاهد موجودًا على كرسيه المدفوعة تذكرته، في الظلام الآمن، ووسط مجموعة من الناس الذين يشاركونه فعله.

إذًا، هناك عنصران يحيطان بالرؤية:

  1. متعة مشاهدة الآخَر
  2. التوتر المصحوب بتلك المشاهدة، لأنه ليس آخر بالمعنى الحقيقي، وإنما تَجَسُّد لنا أنفسنا

اليوم نحن نعيش عالم «الشاشة» بامتياز، شاشة التلفزيون واللابتوب والهاتف الذكي، كل أفكارنا ومشاعرنا وتطلعاتنا خلف هذه الشاشات مجسدة ومعزولة، ويتيح ذلك مشاهدة الأفكار التي ننتمي إليها بوضوح كامل.

بعض الناس حين يرون مقطع فيديو لمذبحة ينفذها داعش مثلًا يحصلون على متعة معينة من ذلك، متعة ترتبط بحالة من النشوة، لأن أفكارًا كحد الرِّدة يمكنها أن تخرج من الكتب وخطب الجمعة ليشاهدوها بأعينهم. ثم يحصلون على نشوة أخرى عندما ينتصرون على هذه الفكرة، فكرتهم الأخرى عن الإسلام الوسطي، وفكرتهم عن الوطن التي تربوا عليها.

لكن لا تَسلم عملية الرؤية تلك من الشعور بالتوتر الذي تخلقه صدمة الاكتشاف، اكتشاف أن تلك الأفكار لها أن تتمثل خارج تصوره عنها، خارج ما يتخيله عن الحد، وعن الكافر الذي اعتقده موجودًا فقط بشعره الطويل المشعث وعينيه المكحلتين وحواجبه الكثيفة كما يعرفه في فيلم «فجر الإسلام»، واكتشاف أن هذه الأفكار التي اعتقد فيها لها قابلية التجسد والرؤية بشكلها الحقيقي كما هي في الواقع.

خلطة سرية للمواطن الصالح

الصورة: oldindianphotos

رجوعًا إلى ما بعد ثورة يوليو 1952 والاستعمار الإنجليزي لمصر، يطرح «سلافوي جيجيك»، الفيلسوف السلوفاكي، أطروحة مثيرة في إحدى محاضراته عن الرؤية الخاصة التي تبناها البريطانيون للسيطرة على مستعمراتهم، هذه الرؤية بحسب جيجك تتمثل في إبقاء الوضع على هو عليه، وتثمين الثقافة الشعبية الخاصة بالبلاد المحتلة.

يقول جيجك في حديثه عن الهند وقت الاحتلال الإنجليزي: «أدرك البريطانيون ذلك في الحال: لو أنهم فرضوا طريقة حياتهم الخاصة في البلاد التي يحتلونها، سيجلبون على أنفسهم نفس المشكلات في بريطانيا، ثورات عمالية واجتماعية، وهذه الأشياء التي تجلبها الرأسمالية. أما وضع الأغلبية الهندية الصامتة تحت تصرف الحكم الهيراركي (نظام قيادة هرمي) الأسوأ هناك، فإن ذلك سيجعل حكمهم أسهل».

هذه السياسية ربما كانت حاضرة أيضًا في مصر الملكية، وانتجت خطابين مستقطبين على جانبيها:

  1. الخطاب الدولاتي العلماني كما جاء به عبد الناصر، الذي حاول تعرية هذه السياسية مروجًا لخطاب التحديث كما يراه
  2. الخطاب الإسلامي الذي دعم سياسة الاستعمار تلك، ربما من دون أن يقصد، لكنه أيضًا استغل المناخ المساند المضاد للتحديث بأن وجد أرضية خصبة أسس عليها خطابه الرافض لكل ما هو غربي

هذان الخطابان، وإن كانا مستقطبَيْن منذ البدء، فإنهما حاولا التفاهم في فترة التحضير لثورة يوليو، وحتى حادثة المنشية، وما تلاها، وطوال سنوات الحكم العسكري حاولا التفاهم مجددًا، إلى أن نجحا أخيرًا تحت حكم مبارك في الوصول إلى خطاب متجانس، حفظ كل طرف فيه نصه وألقاه على المواطن.

ذلك الخطاب كان من صفاته أنه مسلم وسطي، ليس سياسيًّا، بل وطني ومنتمٍ إلى قضية ما، ولتكن القضية الفلسطينية مثلًا، والأهم أنه شبحي ومتملص.

قد يعجبك أيضًا: الانتماء إلى «العالم»: حين أساعدك، أساعد نفسي

معمل تكوين الانتماء: رجولة على المحك

الصورة: goodfreephotos

«تَلِدين الآن من يحبو.. فلا تسنده الأيدي،

ومن يمشي.. فلا يرفع عينيه إلى الناس،

ومن يخطفه النخّاس:

قد يصبح مملوكًا يلوطون به في القصر،

يُلقون به في ساحة الحرب..

لقاء النصر،

هذا قدر المهزوم»

يعرض أمل دنقل هنا، ضمن قصيدته «في انتظار السيف»، حالة فقدان الكرامة وحرية امتلاك المصير، وفقدان الذكورة التي هي قدر المهزوم.

حالة الفقدان تلك هي ما قد يفسر خوف الخسارة في الحرب، لأن ذلك سيترتب عليه انتزاع الهوية والرضوخ للآخَر، لإرادته وقوانينه وحكمه، والأهم لذكورته.

الحافز الدائم لدى الجنود المحاربين أن خسارتهم ستعني اغتصاب زوجاتهم وأطفالهم، مما يجردهم رمزيًّا من ذكورتهم ويُثبتها عند الآخَر.

يسمي فرويد ذلك «عقدة الإخصاء»، وتعني باختصار: قلق التجرد من الذكورة الذي ينشأ لدى الطفل بمجرد تعرفه إلى نوعه الجنسي خوفًا من فقدان قضيبه.

تمثل الحرب معمل اختبار لتكوين الانتماءات التي تلتحم بالغريزة الفطرية المتعلقة بالذكورة، ليصبحا وجهين لعملة واحدة. ففقدان الفكرة المنتمَى إليها يعني ضمنيًّا، لدى المحارب، فقدان ذكورته.

هذه اللعبة قديمة قِدَم حروب الإنسان، إذ كان الحافز دائمًا لدى الجنود المحاربين، الحافز الذي يضطرهم إلى خوض الحرب والتضحية فيها بأقصى ما لديهم، أن خسارتهم الحرب لن تعني مجرد خسارة، بل إنها ستعني اغتصاب زوجاتهم وأطفالهم، وستعني بالتحديد اختراق هؤلاء بقضيب آخر من خارج القبيلة، الشيء الذي يجردهم رمزيًّا من ذكورتهم ويثبتها عند الآخَر.

لكن هذا الوضوح الذي تتكون عليه الفكرة هنا لا يتوفر في حالة الحرب على الجماعات الإسلامية، فالأمر أكثر تشوشًا في ذهن المواطن وإن بدا غير ذلك، لأن هذا الآخَر المراد له أن يصبح عدوًّا اليوم كان قبل عدة سنوات مثلًا أعلى وقدوة حسنة، ومكونًا أساسيًّا من المظلة الآمنة والمعتمدة، التي أريد للمواطن أن يستظل بظلها متوحدًا بالمجموع.

تجريد هذا الخطاب الإسلامي من قوته/ذكورته يُسقِط جزءًا من الخلطة المنتمَى إليها، فلا يصبح الإخصاء موجهًا نحو الآخر، بل موجهًا من الفرد نحو نفسه.

بحسب فرويد أيضًا يتكون هذا القلق في عقدة الإخصاء لأن الطفل، باكتشاف ذكورته، يصبح معتقدًا في أهلية هذه الذكورة للحصول على الأم، فتكون أول رغبة حميمية لدى الطفل موجهةً نحو أمه، في ما يُعرف بعقدة أوديب، لكن بمجرد أن يدرك الطفل عدم وجود تلك الأهلية الفيزيائية لجسده الصغير وذكورته غير المكتملة، يتحرر من تلك الرغبة في الأم.

المواطن المصري اليوم ربما يقف مترددًا بين الالتصاق بانتمائه المهترئ، محاولًا ترقيعه ومدافعًا عن لقبه كمواطن صالح مرضيٍّ عنه من السلطة الرسمية ومعيارها، محاولًا الازدياد صلاحًا كلما ازدادت تلك المعايير تطرفًا وجنونًا، وبين توتر يستدعي منه نفض هذا الانتماء برُمته، والبحث عن خلطة انتماء جديدة، فهل توفر له السلطة ذلك؟

مواضيع مشابهة