كنت في الصف الثاني الثانوي. هذه الليلة من صيف 2013، عندما شاهدت فيلم «Pulp Fiction»، إخراج «كوينتن تارانتينو»، لم أفهم الفيلم حينها، لكنني كنت مستمتعًا به جدًّا، وفور أن انتهى قلت: «أنا عايز أعمل ده».
«إنت ليه دخلت معهد السينما؟ هو في سينما في مصر؟».
كثيرًا ما يواجهني هذا السؤال منذ التحقت بالمعهد. حتى قبل التحاقي، كانت أسرتي متخوفة من تلك الخطوة. لكنني امتلكت ما يكفي من الحرية لأفعل ما أريد، وصناعة السينما الشيء الذي أردته لنفسي.
بعد ثلاث سنوات من الدراسة، أتساءل: «ما الذي استفدته من المعهد، وما علاقة ما ندرسه بما يُنفَّذ من أفلام؟». وللإجابة، أعود إلى اللحظة التي قررت فيها دراسة السينما في المعهد.
حصلت على الثانوية العامة بمجموع يكفي لدخول اختبارات المعهد. كانت الصدمة الأولى عندما ذهبت لسحب ملف التقديم. طوال الطريق كنت أتخيل الصرح الكبير اللائق بمدرسة السينما في مصر: الواجهة المزينة بصور للفنانين، والمقتنيات التي تجعله أقرب إلى متحف. لكن ما وجدته كان مختلفًا تمامًا: مبنى قديم ومتهالك يليق بمصلحة حكومية، وليس مكانًا لدراسة الفن.
دخلت الإختبارات وفي عقلي سؤال: «هل أملك الموهبة أصلًا؟». نجحت فى الاختبارين الأول والثاني، ووصلت إلى الورشة الإبداعية. عندما أتذكرها الآن أشعر بأنني أتذكر خمسة أيام من الجحيم. كل يوم مع دكتور مختلف، واختبارات مختلفة، والضغط هائل. أمامي خطوة واحدة للوصول إلى الحلم، وعندما ظهرت النتيجة رسبت. شعرت بعدم اتزان، وكان أمامي خياران: إما الاستسلام للأمر الواقع، وإما المحاولة مرة أخرى.
ما بعد الهزيمة
كان الاستسلام سهلًا ومبرراته موجودة، مثل مشكلة الوساطة المعروفة بأنها أساس القبول في المعهد. عندما قدمت في الاختبارات اعتقدت أنني أعرف اللازم، لكني اكتشفت أن مقدار معرفتي ضئيل جدًّا، فبدأت من هنا.
مثَّلت لي الدراسة في المعهد كثيرًا من الأمور. فسأدرس ما أحب، وأجد بسهولة فرصة للعمل في المجال وأنا طالب في المعهد.
كان أمامي عام لتعويض ما ينقصني. ففي أحد أيام الورشة سألني أحد الأساتذة سؤالًا يبدو بسيطًا: «إنت مين؟». عجزت يومها عن الإجابة، وبعد الانتهاء من اليوم الدراسي، قال لي: «إزاي عايز تتكلم عن الناس وانت مش عارف تتكلم عن نفسك؟».
إذًا، يجب أن أعرف نفسي أولًا قبل أن أعرف الناس. شاهدت أفلامًا من أماكن كثيرة. شاهدت أفلامًا من إخراج «فيديريكو فيليني» و«عباس كياروستامي» و«كيسلوفسكي» و«أصغر فرهادي» و«يوسف شاهين». قرأت كل ما وقعت عليه يدي: روايات ومجموعات قصصية لإبراهيم أصلان ونجيب محفوظ وغسان كنفاني ومحمود السعدني. قرأت سيناريو فيلم «إسكندرية ليه» قبل مشاهدة الفيلم. كتبت قصصًا وأفلامًا قصيرة. كان الأمر بالنسبة إليَّ «أكون أو لا أكون». فبغير الدراسة في المعهد لم يكن لدي أدنى فكرة عما سأفعل.
بالفعل دخلت الاختبارات. في هذه المرة نجحت، وأصبحت طالبًا في معهد السينما. كان إحساسًا بالزهو وشهادة من خبراء بأنني أملك الموهبة اللازمة للعمل في السينما. ففي كل قسم من أقسام المعهد الثمانية، يُقبل ثمانية طلاب من بين مئات المتقدمين للدراسة كل عام. في العام الذي دخلت فيه على سبيل المثال، تقدم لقسم السيناريو بين 60 و65 طالبًا حاصلين على شهادة الثانوية العامة أو مؤهلات عليا، وكنت أنا من تلك القلة المختارة.
العيش داخل الحلم
مثَّلت لي الدراسة في المعهد كثيرًا من الأمور. فمن المؤكد أنني سأدرس ما أحب، وأجد بسهولة فرصة للعمل في المجال وأنا طالب في المعهد. فإذا أردت أن أتدرب مساعد مخرج على سبيل المثال، وأُعرِّف نفسي بأنني طالب في معهد السينما، سأعامَل بجدية. وكانت الفرصة في إيجاد شركاء في الشغف نتحدث عن السينما والأدب ونتطور معًا، تتمثل في زملاء المعهد، وفي هذا طريقة خاصة للتعلم. هكذا كان الحلم.
مع بداية الدراسة ذهبت لتسجيل المواد. كانت بداخلي حيرة عما يجب أن أسجل وما أتجاهل. لكني لم أحتج لتلك الحيرة، فأُعطِيت ورقةً مُسجَّل فيها المواد سلفًا، وكان عليَّ فقط أن أوقِّع. بعدها سحبت ملفي من كلية الحقوق التي قدمتُ فيها عام الرسوب، وقدمته في المعهد، وأصبحت رسميًّا طالبًا في المعهد العالي للسينما.
ذهبت إلى المحاضرة الأولى وفي داخلي أحاسيس مختلطة بين السعادة والقلق الذي لم أفهم سببه. كانت قاعة المحاضرات أبعد عن قاعات المحاضرات في الجامعة، وأقرب إلى فصول المدرسة بمقاعدها الخشبية والسبورة. كان هذا هو الوضع في يومي الأول.
يتعامل بعض دكاترة المعهد مع النظريات كصواب مطلق، فإذا حاول طالب الإتيان بفكرة ثورية يقابلونها بالرفض دون مناقشة.
كنت أتخيل أن نظام الدراسة سيكون أشبه باختبار الورشة. أي نجلس في مجموعات نناقش المحاضر ونُجري تدريبات عملية. من بين 16 مادة درسناها في السنة الأولى على مدار تيرمين، لم يحدث ذلك إلا في مادتين هما مادتا التخصص، وبقية المواد عامة عن تاريخ السينما والدراما، إضافة إلى مبادئ كل التخصصات الثمانية. كانت الدراسة أشبه بتلك المحاضرات التي حضرتها في كلية الحقوق، حيث يجلس المحاضر ليقول ما لديه من معلومات، ونحن نجلس أمامه دون مناقشة.
«أنا داخل أدرس سيناريو. مالي ومال أحجام اللقطات والقطع السلس وكل الحاجات دي؟»، تساءل زميلي بعد إحدى المحاضرات، وكان رد الدكتور: «إنت بتدرس سينما. لازم يكون عندك المعرفة عن كل اللي بيدور حواليها، مش بس القسم اللى إنت داخله».
هذه الطريقة في التعلم تجعلنا ندرس كل شيء دون أسلوب واضح نحصل من خلاله على بصمة خاصة تميز كل منا. كنت أنتظر إيجاد شكل وأسلوب معين في الكتابة أشعر فيه بذاتي وبتطورها. كنت أريد صناعة أفلام تتحدث عن الحياة العادية للناس الذين نقابلهم كل يوم، وحتى هذه اللحظة لا أستطيع فعل ذلك.
«أنا حاسة إن أنا واقفة مكاني ومابتطورش». قالت زميلتي في لحظة يأس بعد فشل تطويرها إحدى أفكارها.
يتعامل بعض دكاترة المعهد مع النظريات كصواب مطلق، فإذا حاول طالب الإتيان بفكرة ثورية يقابلونها بالرفض، ويجبروننا على الالتزام بالقاعدة دون مناقشة. مع ذلك، يتعامل غالبية الدكاترة مع النظريات باعتبارها فقط نظريات، إذ يخبرنا أحدهم: «إحنا بندرِّس لكم النظرية علشان المعرفة، وفي الآخر إنت أدرى باحتياجات فيلمك، بس المهم تكون عارف لما تطبَّق النظرية بتطبقها ليه، ولما تتجاهلها بتتجاهلها ليه».
«أنا حاسس إني اترميت في البحر».
عندما كنا في السنة الأولى، طُلِب من زميلي عمل فيلم قصير، على طريقة «إذهب أنت وربك فقاتلا»، على حد وصفه. أجَّر معدات التصوير والصوت، وتعرَّض لمشكلة في أثناء التصوير الخارجي لأن المعهد لا يوفر التصاريح الأمنية التي باتت مفروضة.
باستثناء مساعدة الدكتور المشرف على الفيلم، والمتمثلة في تطوير الحبكة والمساعدة في عمل الديكوباج (تقطيع المشهد وتقسيمة إلى لقطات)، كان وحده تمامًا، فخرج الفيلم سيئًا.
الأهم، هو عدم مراعاة الفروق المادية بين الدارسين. فالمعهد ترك الميزانية مفتوحة حسب قدرات كل طالب. فصُنِع فيلم بمتوسط ميزانية ثلاثة آلاف جنيه، وآخر بمتوسط 20 ألف جنية، والنتيجة: خرجت الأفلام متباينة الجودة تقنيًّا.
عندما سألنا أحد الدكاترة عن ذلك قال: «الغرض من الفيلم ده مش الجودة التقنية، وإنما معرفة أفكار الطالب. كمان بنخليه يتدرب على المشاكل اللي هتواجهه في السوق، ونشوف هيتعامل معاها إزاي».
ماذا نستفيد من المعهد؟
التعليم الحي المعتمِد على التواصل هو الذي يساعد على تطوير المشروعات.
على الرغم من تلك التحديات وغيرها، فإن الدراسة في المعهد مفيدة من عدة جوانب. فكل واحد من دكاترة المعهد ينتمي إلى مدرسة مختلفة، وغالبيتهم يساعدون الطلبة حتى في المشروعات غير المتعلقة بالدراسة.
عندما أراد زميلي تقديم سيناريو في «مسابقة ساويرس»، وطلب المساعدة من أحد الدكاترة، ساعده وظل معه خطوة بخطوة حتى انتهى من مشروعه.
على مستوى الحرفة، ما نتعلمه في المعهد لا يمكن تعلمه من الكتب. ذات مرة واجه زميل لي مشكلة في أحد مَشاهد فيلمه، فذهب إلى أحد الدكاترة، فقال له: «احذف 8 لقطات من هنا». لم يقتنع زميلي بالحل، لكنه نفذه، فوجد النتيجة كما يريدها تمامًا. ذلك النوع من التعليم الحي المعتمِد على التواصل هو ما يساعدنا على تطوير مشروعاتنا.
لا تنبع هذه الأهمية فقط من فكرة أن خريج المعهد يحصل على عضوية نقابة المهن السينمائية، بل لأن المعهد يهتم بالتدريب المنهجي من تقنيات وأسس هي التي تميز خريجيه عن العاملين في السينما دون دراسة. وعلى الرغم من وجود كثير من الأماكن التي تعلم فنون السينما، يبقى لخريجي المعهد الأولوية في العمل، ويمثلون من 80 إلى 90% من العاملين في المجال من جميع التخصصات.
الحقيقة أنني لم أقتنع بأهمية الدراسة في المعهد إلا عندما قال لي صديق يعمل مساعدًا للإخراج في السوق، لكنه لم يدرس السينما: «انتم متدلعين. لما بييجي حد من المعهد يتدرب إحنا بنترمي في الزبالة وهو بيبقى باشا».
المسافة بين الدراسة والواقع
عند مرحلة معينة من الدراسة تولَّد داخلي سؤال: «لماذا لا ينعكس ما نتعلمه في المعهد على ما يُنتَج من أفلام؟»، وبخاصة أن غالبية العاملين في السوق السينمائي من خريجي المعهد.
المناهج التي يدرسها الطلاب في قسم السيناريو، هي آخر ما وصل إليه العالم من تقنيات السرد. لكن إمكانيات السوق المصرية لا تسمح بتنفيذها.
من أكثر الأشياء المحيرة أنه في قسم السيناريو، ينفذ كل طالب مشروعًا للتخرج، يُعرض على لجنة تحكيم تتكون من كبار المخرجين والكتَّاب والنقاد. لكن هذا المشروع نادرًا ما يُنفَّذ، وعندما سألت أحد الدكاترة عن ذلك قال: «مشروع التخرج، الطالب بيعمل فيه كل اللي اتعلمه على مدار أربع سنين. فالمنتجين بيبصوا له على إنه سينمائي أوي ومش هيعجب الجمهور وهيخسر، خصوصًا إنه بيكون في العادة مكلف إنتاجيًّا جدًّا. كمان لجنة التحكيم أو المشرف على المشروع، مابيحطوش أي قيود على الطالب، فالفيلم بيتعرض لمشاكل في الرقابة. مثلًا فيه طالب كتب معالجة لرواية «Sleeping Beauties» لـ«ستيفن كينج»، لكن هذه الرواية من المستحيل إجازتها رقابيًّا دون الإخلال بالمضمون».
في قسم السيناريو، ندرس أساليب مختلفة في السرد وأنواعًا كثيرة للبناء الدرامي، فلماذا تخرج أفلام السوق بنفس الشكل والبناء.
سألنا الدكتور، وكانت إجابته: «جهات الإنتاج لسه بتعامل الكتابة كموهبة، وفيه تخمة من الكتَّاب اللي مش دارسين. فالحرفة بتتركن على جنب، والموازنة بين اللي بتدرسه في المعهد واللي مطلوب في السوق بتاعتك انت. امتى تتمسك باللي شايفه وامتى تتنازل عن شوية حاجات علشان المركب تمشي».
إضافة إلى ذلك، فإن المناهج التي ندرسها في قسم السيناريو، هي آخر ما وصل إليه العالم من تقنيات السرد. لكن إمكانيات السوق المصرية لا تسمح بتنفيذها. «لماذا ندرسها إذًا؟»، سألت أحد الدكاترة، فقال: «لأنك لازم تكون عارف الصناعة وصلت لفين، ومتحبسش نفسك في الدايرة الصغيرة اللي موجودة، افرض الوضع اتغير، كمان ده بيوسع من ثقافتك ورؤيتك كطالب».
ماذا يخبئ الغد؟
منذ أن قرأت اسمي في كشوف المقبولين بالمعهد، رأيت صورة لنفسي وأنا أصعد على مسرح الأوسكار وأتسلم الجائزة من «كوينتن تارانتينو».
«الشغل أكل عيش مش عبقرية على بطون فاضيه» - عمرو عبد الجليل في مشهد من فيلم «إسكندرية كمان وكمان»، إخراج يوسف شاهين.
اقرأ أيضًا: «إسكندرية كمان وكمان»: يوسف شاهين يواجه يوسف شاهين
حين أقرأ عن مستقبل صناعة السينما في مصر ينتابني الخوف، وأسأل نفسي: «هل لي مكان في هذا المجال؟».
مشكلة السوق السينمائية في مصر أنه لا يوجد قواعد تحكمها. وحين أقرأ عن سيرة يوسف شاهين مثلًا، أجد أنه عانى كثيرًا من أجل تنفيذ أفلامه، وأسأل نفسي: «هل أملك هذه القدرة على المواجهة؟»، فأنا أحلم بصنع أفلام تشكل «نقلة» في السينما، وأخشى أن أجد نفسي مجبرًا على صنع أفلام لا ترضيني.
منذ أن قرأت اسمي في كشوف المقبولين بالمعهد، رأيت صورة لنفسي وأنا أصعد على مسرح الأوسكار وأتسلم الجائزة من «كوينتن تارانتينو» نفسه وهو يقول لي: «فعلتها أيها اللعين». سأضحك وأنظر إلى عمالقة الصناعة وهم يصفقون، لكنني مع الوقت أرى هذه الصورة تبتعد.
اقرأ أيضًا: 90 عامًا من الأوسكار: كل ما تريد معرفته عن جوائز الأكاديمية
«مش ندمان إنك دخلت المعهد؟».
يعاودون السؤال، أفكر قليلًا، لكن الإجابة تكون دائمًا: «لا، لأني أرى أن حلم صناعة السينما يستحق الحرب من أجل الوصول إليه. وعندما أشاهد «Pulp Fiction» الآن، بعد ثلاث سنوات من الدراسة، أفهم لماذا هو الفيلم المفضل لي.