يشيع في ثقافتنا العربية تمجيد ما اعتدنا عليه، فالسلعة التي عكفنا على استهلاكها لسنوات نجد صعوبة بالغة في تجربة البديل الأحدث منها، ويواجه بعضنا خوفًا من خوض تجربة جديدة في مسيرته المهنية بدعوى أنه أَلِف مكان عمله الحالي، وغير مستعد نفسيًّا لمواجهة أشخاص يقابلهم لأول مرة، فيفضِّل البقاء في «منطقة الأمان»، أو هكذا يُخيّل إليه.
ألقت ثقافة «ما نعرفه أفضل» بظلالها على حال الشعوب العربية على نطاق أكثر شمولية، فحتى في اختيار حُكّامهم، إن كان هناك اختيار، نجد أننا نركَن إلى الحاكم الذي عرفناه واعتدناه طيلة عقود، ونبرر ذلك بأننا لم نعرف من يضاهي كفاءته، حتى إن لم يكن هناك أثر لتلك الكفاءة على أرض الواقع، فلماذا نخشى تجربة الجديد؟ هذا ما تناوله تقرير أعدته صحيفة «نيويورك تايمز» الأمريكية.
الاعتياد يقتل
عندما نختار نفس الشيء مرارًا وتكرارًا، يصبح الجانب السلبي لتجربة الأشياء الجديدة محدودًا بالتدريج، والمكاسب التي قد تتحقق من تجربته أكبر نسبيًّا، إلا أن دراسة حديثة ينقل نتائجها التقرير كشفت أن 47% فقط من الناس يفضلون تغيير عاداتهم القديمة.
ما زال كثير من الناس يصرون على شراء المنتجات ذات الماركات المعروفة، رغم أن نظيرتها من المنتجات التقليدية متاحة، ويظهر ذلك جليًّا لدى مجتمعاتنا العربية في مجال الأدوية، فمعظمنا يفضل شراء العقاقير المستوردة، رغم أن بديلها المحلي يحوي نفس التركيبة الكيميائية والمادة الفعالة بسعر أقل. وبتجربة بسيطة، ستتأكد من أن المنتج المحلي له نفس التأثير في صحتك.
نميل إلى التمسك بعادتنا القديمة بسبب تأكيدات نفسية مثل أن «تجربة شيء جديد يمكن أن تكون مؤلمة».
ينقل التقرير دراسة أخرى أُجريت على إضراب نظمه عمال مترو أنفاق لندن، تسبب في إغلاق عديد من محطات المترو لمدة يومين، ما اضطر الركاب إلى اتخاذ مسارات بديلة. وبعد انتهاء الإضراب، عاد معظم الناس إلى طُرُقهم القديمة، بينما ظل واحد من كل 20 شخصًا يتخذ الطريق الجديد، على الرغم من أنهم وجدوا أن الطريق الجديد يوفر في المتوسط ما بين 6 و7 دقائق من زمن رحلتهم البالغ 32 دقيقة.
ما حدث هو أن الإضراب أجبر عددًا من الأشخاص على تجربة جديدة لم يكونوا ليخوضوها في الأوقات العادية. ولو أن الإضراب استمر لفترة أطول، لأدى إلى إقناع مزيد منهم بأفضلية التجربة الجديدة. وهكذا يحتاج معظمنا إلى إضراب من نوع خاص كي يحركه نحو تغيير عاداته.
اقرأ أيضًا: كيف يحرمنا الروتين من رؤية الحياة على حقيقتها؟
كيف نحطم قواعد الاعتياد؟
يتمسك كثير من المديرين بقبول موظفين كلاسيكيين بسبب الصورة التقليدية المشهورة عن الموظف الجاد، رغم أن الكفاءة لها حسابات أخرى.
لعاداتنا القديمة سلطة علينا بسبب أننا نميل إلى التمسك ببعض التأكيدات النفسية، مثل أن «تجربة شيء جديد يمكن أن تكون مؤلمة»، أو «من الممكن أن لا يعجبني الشيء الجديد واضطر إلى التخلي عما اعتدته»، وهكذا تجد نفسك أمام ثمن فوري تدفعه لو فشلت التجربة الجديدة، في حين أنها لو نجحت ستكون المكافأة مستقبلية وليس الآن. إن كنت تريد تجربة مطعم جديد، ستقول: «نعم، أريد تجربة مكان جديد، لكن دعني اليوم أتناول طبقي المفضل في مطعمي المعتاد».
تلعب الثقة المبالَغ فيها دورًا في عملية التمسك بالعادات، إذ تجد نفسك متأكدًا من أن الخيارات البديلة ستكون سيئة، حتى إن لم تجربها. هنا يجب عليك أن تتوقف كي تتأكد من أن بعض ما نسميه «خيارات» ليس خيارًا بالفعل، فاعتياد منتج معين يتحول إلى تصرف لاواعي وليس خاضعًا للتفكير أصلًا في الخيارات المتاحة.
ينتقل ذلك التصرف الاعتيادي، أي الذي يحدث دون تفكير، من حياتنا الخاصة إلى العامة حين يمارسه الساسة والمدراء، فيُحجمون عن تجربة الجديد في مسيرتهم المهنية. على سبيل المثال، يذكر التقرير أن مديري الشركات يميلون إلى تطبيق آرائهم وأحكامهم المسبقة على من يتقدم لشغل وظيفة معينة، فتجد المدير منهم يقبل الموظف ذي الصورة الكلاسيكية، وفقًا للانطباع التقليدي المشهور الذي يعرفه عن الموظف الملتزم الجاد، رغم أن الكفاءة قد تكون لها حسابات أخرى.
صحيحٌ أن اختيار موظف لا يتمتع بالصورة المعروفة عن الموظفين الملتزمين قد يكون خطيرًا على مصلحة العمل، لكنه من الممكن أن يُثبت بسهولة خطأ المعتقدات الثابتة التي تعودنا عليها في هذا الشأن.
قد يهمك أيضًا: من قال لا تؤجل عمل اليوم إلى الغد؟
لا يختلف الأمر كثيرًا بالنسبة إلى الحكومات وأصحاب القرار السياسي، إذ تمثل تجربة أمور جديدة في هذا المجال أمرًا شائكًا للغاية، لأنها قد تعصف بمصائر الشعوب. رغم ذلك، ينبغي الركون إلى الوضع القائم بحذر، فالتمسك الزائد ربما لا يعني إلا مجرد تفاؤل مزيف، يجعلنا نرى هذا الوضع أفضل من غيره، ويساعد على ذلك عدة عوامل، مثل الصدف التاريخية والثقة الزائدة في أشخاص بعينهم، والأفضلية التلقائية التي يحصل عليها كل ما هو معروف.
تكمُن المشكلة كلها في أن التحول عن المألوف وتجربة الجديد يتطلب التحلي بالتواضع، والتخلي عن الكبرياء المصاحِب لفكرة أننا «نعرف مسبقًا» دون حتى أن نجرب شيئًا مختلفًا، ففهم تلك الحقيقة هو الخطوة الأولى، يأتي بعدها ذلك المجهود اللازم بذله للانطلاق بعيدًا عن قواعد العادات المألوفة التي تجذبنا إلى أسفل. يلزمنا قدر مماثل لتلك الطاقة الهائلة التي تدفع صاروخًا بصدد مغادرة قاعدته الأرضية، من أجل الانطلاق إلى الفضاء الرحب.