قبل وفاة جدها، جلست «إيمي أولبردينج»، أستاذة الفلسفة في جامعة أوكلاهوما الأمريكية، في المستشفى، بينما كان الأطباء ينتظرون مصيره. قبل أن ترحل، أشار الجد إلى دولابه وطلب منها أن تأخذ محفظته إلى المنزل، فقد كان يخشى أن يأتي أحدهم ويفتش ملابسه ويأخذ محفظته خلال نومه.
أخذت إيمي المحفظة ورحلت وقلبها مُثقَل بالقلق من سماع نبأ وفات جدها الذي بدا وشيكًا. بدأت تستوعب أن وفاته تعني أنها ستفتقد حديثهما معًا، ومفرداته التي تنتمي إلى عصر فائت أحبته فيه. لم يكن جدها يريد أن يموت، بل كان لا يحب حتى أن يذكر الموت صراحةً في كلامه، ولو في حديث عابر.
نتيجةً لهذا الموقف، كتبت أولبردينج مقالًا نشره موقع «Aeon»، حاولت فيه أن تتحدث عن مشاعرها وأفكارها، وتستكشف بعض الفروق الأساسية بين الفلسفة الغربية والكونفوشية في العلاقة بكبار السن والتعامل مع فقدهم.
الموت: فقدُ اللغة المشتركة
يؤدي فقد الناس إلى فقد لغة حوار مميزة، إذ تضع العلاقات قاموسها الخاص من المصطلحات التي تنشأ من رحم الأوقات والتجارب المشتركة.
تبدو وفاة كبار السن أقل الصور قسوةً للموت، لكن إذا كنا نعتبر موت هؤلاء أمرًا سيئًا، أفلا يكون الموت بكل صنوفه فظيعًا؟
ولأن الموت يُنهي العلاقات، فهو يقضي كذلك على التفاعلات المميزة التي تعبِّر عن تلك العلاقات، وعن طرق تبادل الحديث والتفاهم التي تنشأ معها. لكن رغم كل هذا، فثَمّة أمر مختلف يتعلق بفقد كبار السن، لأننا مع رحيلهم نفقد اللغة التي تعلمناها ورأينا العالم من خلالها، فالعالم كما نراه أول مرة هو ذلك الذي وهبوه ووصفوه لنا.
بحسب كاتبة المقال، ربما يكون ذلك هو السبب الذي جعل الفيلسوف الصيني كونفوشيوس يعتبر الحزن على فقد أحد الأبوين حدثًا يتطلب من البشر أن «يحزنوا بشدة». وتعتبر الفلسفة الكونفوشية وفاة المسنين «أكثر الشدائد إزعاجًا، رغم أنها أكثر الأحزان شيوعًا».
بينما ترى الفلسفة الغربية أن الوفاة بعد عمر طويل أفضل نهاية ممكنة، فوفاة كبار السن هي سنة الحياة، بل هي السنة التي نستحسنها، فالأفضل أن يعيش الأبناء عمرًا أطول من آبائهم، والأحفاد عمرًا أطول من أجدادهم، إلا أن فلسفات الشرق تتعامل دائمًا مع تلك اللحظات بقدر كبير من الأسى.
قد يهمك أيضًا: هل تقتلنا كسرة القلب حقًّا؟
موت الكبار: الحكمة لا تمنع الحزن
عندما يُذكر الفقد أو النهايات، تبدو وفاة كبار السن أقل الصور قسوةً للموت. لكن إذا كنا نعتبر موت هؤلاء أمرًا سيئًا، أفَلا يكون الموت نفسه، بكل صنوفه، أمرًا فظيعًا؟ لو كنا لا نستطيع تقبُّل فراق كبار السن برباطة جأش واتزان، ألا يعني ذلك أنه لا توجد صورة للموت يمكن تقبُّلها؟
لو قيّمنا موت كبار السن بين احتمالات الوفاة الأخرى لوجدناه عاديًّا ومتوقعًا، يأتي في الوقت المناسب لو جاز التعبير، وقد نجد في ذلك سببًا لتهدئة التياع قلوبنا. ولكن المشكلة في هذا المنطق أن الحزن ليس متصلًا بواقعة الموت في حد ذاتها.
يمكن أن نتقبل فكرة الموت ومع ذلك نشعر بالحزن. تقبّل كونفوشيوس قرب موته برصانة، وشعر بالرضا لكونه سيتوفى بين أيدي أصدقائه، لكن عندما تهدّم جزء من مقبرة والديه، انهار وبكى بحرقة على ما اعتبره إهانة رمزية لهما. يستطيع الحكماء تقبُّل الموت، لكن الحكمة لا تحمي من الحزن ولا تمنعه، لأن ما يدفع إلى الحزن هو «الفقد» وليس الموت، وفقد الكبار ليس كمثله فقد.
آهِ من موت الآباء والأجداد
يساعد كثيرون في تشكيلنا، وتتكون هُويّاتنا من علاقاتنا مع الآخرين، لكن تتميز علاقاتنا بالآباء والأجداد بشكل خاص، فلغتهم هي أول ما ننطقه من كلمات، والعالم الذي يرسمونه بسلوكهم وحديثهم هو الخريطة التي ننطلق منها إلى العالم. وفي الفلسفة الكونفوشية، يغريس كبار السن جذورنا البيولوجية والأخلاقية والوجودية. فنحن نزهر وننضج لأننا نستقي مما قدموه لنا وعلمونا إياه، وعندما نتمتع بتنشئة جيدة نصير مدينين لهم بصورة لا يمكن ردّها، إلا ربما بالتمتُّع بحياة طيبة، كما تذكر كاتبة المقال.
كأن إدراك وفهم ذلك الفارق بين الأجيال، الذي يجعلنا نتقبل موت كبار السن، هو نفسه ما يجعل تلك الوفيات مزلزِلة وصعبة. في الكونفوشية، تُعتبر رؤية الوالدين يشيبان مصدرًا للسعادة والفزع في آنٍ واحد. ففي الوقت الذي نسعد فيه بطول رفقتهم لنا في الحياة، لا نفتأ نتذكر أننا مفارقوهم وإن امتدت صحبتهم، وتظل شيبتهم تذكرنا باقتراب حالة من الوحدة لا مثيل لها.
نتمنى أن يرحل الكبار قبل الصغار، لكننا نخشى أن يرغمنا فراقهم على البحث عن أنفسنا، فسيأتي دائمًا وقت لا نجد فيه مصدرًا للحكمة سوى أنفسنا. وهذا، وفق المقال، موضع اختلاف آخر مع الفكر الغربي الذي يلتزم بنموذج الصداقة، ويرى أننا للتغلب على الحزن لا بد أن ندرك أننا نستطيع خلق مزيد من الصداقات الجديدة، فلا يمكن تعويض الأصدقاء، لكن باستطاعتنا بدء صداقات متعددة.
إلا أن ذلك النموذج لا ينطبق على وفاة الآباء والأجداد، فمهما بنينا من علاقات قوية، لا يمكن لأحد أن يحل محل أحد الأبوين أو الأجداد. يمكن لأصدقائنا أن يصبحوا مثلهم، لكنهم أبدًا لن يكونوا «هم» أنفسهم. لا يمكنهم أن يلعبوا نفس الدور، لأنه يمتد إلى ما قبل بداياتنا ويشكِّل صورة العالم كما عرفناه. عالمٌ من غير الأبوين هو عالم تائه مجهول، كأرض دون خريطة توضح معالمها.
اقرأ أيضًا: التعاسة كنز لا يفنى: للمشاعر السلبية أثر إيجابي كذلك
لا تبخلوا بحزنكم
نتكلم أحيانًا كما لو كان موت كبار السن يستحق قَدرًا أقل من الحزن، وكأن العجز يجعل حياة هؤلاء بالية لا تبرِّر بذل الحزن من أجلها. لكن بالنسبة إلى الفلسفة الكونفوشية، كل الأفكار التي تدعو إلى تقبُّل الموت وتوقعه لا تلغي فكرة أننا نعتمد بشكل كبير على أحبّتنا من كبار السن.
وبينما لا يكون في عمر هؤلاء الكبار بقية، يظل الكثير باقيًا للشباب، الذين يصير عليهم أن يحملوا الراية ويستكملوا المسيرة، حتى لو كانوا مفجوعين ومُثقلين، ويعانون وحدة موحِشة لم يجربوها من قبل.