بينما يبدو أن الأجيال الجديدة في العالم العربي تتطلع إلى عالم أكثر حرية ومساواة، وتبحث باستمرار عن صيغ مختلفة للعلاقات مع الدولة والأسرة والمجتمع، وتعتقد أنها هكذا ستلحق بعالم أكثر تحضرًا وتنفتح على إنسانية لا تعرف التمييز، تظهر في الوقت نفسه علامات مُحبطة تشير إلى أن هذه الأجيال ربما تحارب ضد حركة التاريخ، لا معها كما نعتقد.
ففي مقابل خطاب عربي يشدد على الاحتواء والإخاء والديمقراطية والعدالة، عَلَت وتيرته بطريقة ملحوظة خلال الانتفاضات الشعبية العربية في 2010 و2011 خصوصًا، يتصاعد في الغرب خطاب نقيض يدعو إلى الانغلاق واللامساواة، ارتفع صوته مع صعود الحركات اليمينية في أمريكا وأوروبا، وبلغ أَوْجَه مع دخول دونالد ترامب إلى البيت الأبيض.
«جيل الألفية» يتبنى توجهات أقل «تقدمية» من الأجيال السابقة.
يُصبح السؤال مُلحًّا بشأن أي مجموعة من القِيَم ستنتصر في المستقبل، ويحاول مقال على موقع «Quartz» الإجابة عن هذا السؤال، بعد عرض مجموعة من البيانات المُقلقة التي تشير إلى أن قيمة المساواة بين الجنسين تتراجع، في الولايات المتحدة على الأقل.
قد يهمك أيضًا: هل اختلاف سلوك الرجال والنساء بيولوجي أم ثقافي فحسب؟
جيل الألفية لا يؤمن بالمساواة
قد يحمل المستقبل مزيدًا من التراجع في المكاسب التي حققتها المرأة طَوَال قرون.
يشير المقال إلى إحصائية أجريت عام 1994، وأظهرت أن 42% من طلاب المدارس الثانوية في أمريكا، الذين تبلغ أعمارهم 18 عامًا، يرون أن المرأة ينبغي أن تعتني بالمنزل بينما يخرج الرجل إلى العمل، والمفاجأة أن هذا الرقم ارتفع في 2014 إلى 58%.
تلفت هذه النتائج، التي قد تبدو غريبة لأول وهلة، انتباهنا إلى أن «جيل الألفية» يتبنى توجهات أقل «تقدمية» من الأجيال السابقة، رغم اعتقادٌ منتشر بالعكس. وعلى كل حال، لا يتبنى جيل الألفية توجهات رجعية عمومًا، فقد كان تقدميًّا في ما يتعلق بالمساواة بين الرجال والنساء في مجال العمل، إذ رأت 90% من عينة الاستطلاع أن النساء يجب أن تملك نفس فرص العمل والأجر والترقي بالضبط كالرجال.
اقرأ أيضًا: لماذا يصعب على جيل الألفية العثور على شريك الحياة؟
لكن النتائج تأتي مختلفة تمامًا حينما تتعلق المسألة بالموقف من تقسيم الأعمال المنزلية، ولم تدل على ذلك الإحصائية السابقة وحدها، وإنما أشار بحث آخر إلى أن 16% من الشباب الأمريكيين بين 18 و25 عامًا كانوا يعتقدون، في عام 1994، أن النساء يجب أن يلزمن منازلهن، وأن هذه النسبة ارتفعت عام 2014 إلى 25%.
وبينما آمن 83% عام 1994 أن الأسرة النموذجية ليس من الضروري أن تشمل عائلًا ذكرًا، رأى ذلك 55% فقط عام 2014. كل هذا رغم القناعة العامة بأن قِيَم المساواة تزداد انتشارًا، وأن الحركة النسوية تزداد سطوة.
قد يعجبك أيضًا: ألف باء فيمينزم: أسئلة شائعة عن النسوية
يعتقد أحد القائمين على هذه الأبحاث أن المستقبل قد يحمل المزيد من التراجع في المكاسب التي حققتها المرأة طَوَال قرون، وأن هذا التراجع الذي يظهر حاليًا في الآراء والمواقف المُعلنة فقط، ربما يبدأ في أخذ أشكال تنظيمية وقانونية لاحقًا.
الرأسمالية ضد المساواة بين الجنسين
قد يؤدي وجود أطفال إلى تراجع الرجال عن مشاركة زوجاتهن العمل داخل وخارج البيت.
يعتقد باحث علم الاجتماع «دانيال كارلسون» أن أسبابًا اقتصادية قد تكون وراء هذه التحولات، ويعني هذا أن ضعف برامج الأمان الاجتماعي في الولايات المتحدة، خصوصًا مع الأزمة الاقتصادية الأخيرة، هو السبب في فشل الرجال والنساء المتزايد في تحقيق التوازن بين أعمالهم ومنازلهم، وارتدادهم بالتالي إلى الصيغة التقليدية لتقسيم العمل بين رجال يخرجون لكسب المال ونساء ينشغلن برعاية المنزل والأطفال.
تتلقى هذه النظرية دعمًا خاصًا لأن المَيْل نفسه نحو غياب المساواة لا يظهر في أوروبا، حيث برامج الأمان الاجتماعي عالية الكفاءة. ويورد المقال رأي باحث علم اجتماع آخر، هو «جان فان بافل»، الذي درس المساواة في المحال والمنازل الأوروبية ووجد أن دعم المساواة بين الجنسين لا يزال في تزايد بين جميع الفئات العمرية، عكس الولايات المتحدة.
لو صحَّت هذه النظرية، ستشير إلى أن غياب منظومات الدعم القوية قد يؤدي إلى آثار مباشرة على قيم اجتماعية أساسية. تُظهر بعض الدراسات بالفعل أن الآباء الأمريكيين غير راضين عن حيواتهم بسبب غياب بعض سياسات الأمان الاجتماعي، مثل الإجازات المرضية المدفوعة، والدعم المُقدَّم لرعاية الأطفال، بينما كان الآباء أكثر رضًا في الدول التي تبنَّت، على العكس، سياسات «صديقة للأسرة».
ورغم أن دراسات سابقة أظهرت رغبة الأزواج الأمريكيين في تقاسم العمل مع النساء داخل المنزل وخارجه، فإن هذا يصير أكثر صعوبة مع وجود أطفال، ويؤدي إلى ارتداد الرجال والنساء إلى أدوار أكثر تقليدية، فيعيدون التفكير في قِيَمهم لتُصبح متناغمة مع الوضع الجديد.
قد يهمك أيضًا: فاليري سولانيس: الراديكالية الساحرة التي أرادت عالمًا بلا رجال
تتحطم أحلام المساواة إذًا تحت وطأة واقع اقتصادي لا يعبأ بالمساواة. ولعلنا نحتاج إلى التعلُّم من هذه الظاهرة وفهمها بصورة أفضل، لو كنا لا نزال متمسكين بتغيير اجتماعي في العالم العربي، إذ تُثبت الحالة الأمريكية أن حُسن النوايا وحده لا يكفي، وأننا بحاجة إلى رؤية اجتماعية أشمل إذا كنا نريد تغييرًا حقيقيًّا ومستمرًّا.