يعتمد الآباء والأمهات، ممن يؤمنون بقوة العلم في المحافظة على حياة أطفالهم، على الاختبارات الجينية التقليدية للكشف عن الأمراض التي من الممكن أن تصيب أبناءهم في المستقبل، إلا أن مثل هذه الاختبارات تخيب ظن هؤلاء الآباء أحيانًا، إذ اكتشفوا أن بعض الأمراض التي تصيب الطفل في المستقبل لا يتم كشفها.
تظهر هنا أهمية تقنيات ما يعرف بـ«تسلسل الجينوم الكامل»، الذي يقصد به كامل المادة الوراثية للإنسان، التي تحتوي على ما يتراوح بين 20 إلى 25 ألف جين، يمكنها أن تخبرنا الكثير عن مستقبل صحتنا، ما سيساعد في تشخيص الأمراض واكتشافها مبكرًا، إلا أن هناك أسئلة حول التحديات التي ستواجهنا مع التعمق في استخدام هذه التقنيات، يمكننا الاقتراب من إجابتها في تقرير نشرته مجلة «Scientific American».
وفاة طفل منحت الحياة لآخرين
يحكي المقال قصة «جينفر غارسيا»، التي وضعت وليدها «كاميرون» عام 2010، وصممت هي وزوجها على إجراء الفحوصات الوراثية للجنين قبل الولادة، للاطمئنان على سلامته من أمراض مثل متلازمة داون والتليف الكيسي وغيرها، وتأكدت من خلو جنينها من هذه الأمراض، ومرت الأشهر ومر الرضيع بمراحل النمو الطبيعية، حتى أصبح عمره سبعة أشهر، وعندها ظهرت مشكلة.
صُدم الوالدان عندما اكتشفا أن ابنهما الذي بدا في أتم صحة في أشهر عمره الأولى ظهرت عليه أعراض الالتهاب الرئوي، وتحير الأطباء في حالته، إذ اعتقدوا في البداية أنه مصاب بالتهاب السحايا أو السعال الديكي أو السل، وجربوا معه أدوية مضادة للبكتيريا والفيروسات والفطريات وغيرها، وظل الحال على هذا الوضع حتى فهم الأطباء حالته أخيرًا.
توصل أحد أخصائيي أمراض المناعة إلى حقيقة مرض كاميرون، وتبين أن الرضيع مصاب بمرض يدعى «العوز المناعي المشترك الشديد» ويعرف اختصارًا باسم «SCID»، وهو ما أسهم في عدم تماثله للشفاء من الالتهاب الرئوي، لأن هذا المرض يعطل عمل جهاز المناعة.
زادت صدمة الوالدين عندما تيقنا أن التاريخ المرضي لعائلتهما لا يتضمن هذا المرض، إلا أن الخطأ الأكبر يعود إلى فحوصات المستشفى التي وُلد بها الطفل، والتي لم تكن تدرج هذا المرض ضمن قائمة أمراض تفحصها لدى حديثي الولادة.
تدهورت صحة الرضيع بسرعة إلى أن تُوفي في 30 مارس 2011، ولم يتجاوز تسعة أشهر، لكن والدة كاميرون بعد أن خرجت من المستشفى للمرة الأولى دون رضيعها قررت أن تجعل من وفاته فرصة حياة لغيره من الأطفال الرضع، فأصبحت ناشطة تدعو لإدراج مرض عوز المناعة ضمن قائمة الأمراض المفحوصة لدى الرضع.
لكن يبقى السؤال هنا: ما الحل إذا استجدت أمراض أخرى؟ هل سيظهر لكل مرض ناشط يدعو لإدراجه ضمن قائمة أمراض لا تنتهي؟ أم ينبغي أن يشمل الفحص بعد ذلك كل الحمض النووي، وقايةً من جميع الأمراض التي يمكن اكتشافها؟
اقرأ أيضًا: كيف تنقذ الفئران والكلاب مرضى السل والسرطان؟
تحديات أمام تسلسل الجينوم
الاهتمام بالصحة منذ لحظات العمر الأولى هو ما دفع معاهد الصحة الوطنية الأمريكية إلى إجراء دراسات تناولت استخدام تسلسل الجينوم الكامل للوقاية من الأمراض والتعامل معها، وتناولت الدراسات المسألة من كل النواحي الاقتصادية والأخلاقية والطبية والتقنية، للوقوف على جميع التحديات التي قد تواجه الأطباء في هذا الصدد.
مصارحة الآباء بنتائج فحوصات تسلسل الجينوم الكامل لأبنائهم ينطوي على بعض الخطورة.
بغض النظر عن الفوائد الكثيرة لفحص تسلسل الجينوم الكامل، مثل التنبؤ بالمشاكل الصحية المستقبلية التي قد تواجه الطفل، والتي يمكن أن ترقى إلى مستوى إنقاذ حياته عند الكشف عن احتمالية إصابته بمرض خطير لا بد من اكتشافه مبكرًا، فإن الفحص الشامل يقدم معضلة أخلاقية، وهي كيفية تعامل الآباء والأمهات مع النتائج، إذ يجد الأطباء صعوبة كبيرة في تبسيط هذه البيانات العلمية للآباء، فتظل نتائج هذا الفحص كالطلاسم بالنسبة لهم، ما قد يشكل مخاطر على مستقبل الطفل.
«BabySeq»: الوقاية تنتصر
أطلق «روبرت غرين»، أخصائي علم الوراثة، مشروعًا سمَّاه «BabySeq»، يهدف إلى تحسين مستوى الرعاية الصحية للأطفال عن طريق فحص الجينوم، فدرس حالة 240 رضيع مريض و240 رضيع صحيح، ورصد استجابة آباء الفريقين لما تظهره بيانات فحص الجينوم.
استطلع غرين آراء الآباء بشأن رغبتهم في إجراء تحليل تسلسل الجينوم الكامل أم لا، فوجد رغبة كبيرة من الآباء لإجرائه، وحتى عندما بدأ الباحثون بشرح النتائج التي قد يسفر عنها تحليل الجينوم الكامل، مثل احتمالات الإصابة بالسرطان أو الشلل الرعاش، لم يخفت حماس الآباء تقريبًا.
يرى غرين مع ذلك أن مصارحة الآباء بنتائج فحوصات تسلسل الجينوم الكامل لأبنائهم ينطوي على بعض الخطورة، لأن خروج الأطباء بنتائج غير مؤكدة أو تفسيرات خاطئة لنتائج الفحص قد يضع الآباء في حالة لا داعي لها من التوتر والضغط العصبي.
قد يهمك أيضًا: علينا أن نفكر جديًا بشأن نظرية التطور
بدأ مشروع غرين في 2015 بمشاركة متخصصين في طب حديثي الولادة وعلم الوراثة والجينات، وبحلول 2016 وصل عدد الأسر التي شاركت في الدراسات إلى 100 أسرة، وعلى الرغم من الصعوبات التي تواجه القائمين على المشروع، فإن جرين يتوقع أن تشهد الخمس سنوات القادمة تحسنًا كبيرًا في تكلفة الفحص ووقت الانتظار الذي يثقل كاهل من يرغب في إجراؤه.
يبدو أن التحديات الأخلاقية التي يطرحها فحص الجينوم إذًا أقل قوة مما قد ينجم عنه من فوائد، وربما لا ننتظر كثيرًا حتى يصبح حصول الآباء على بيانات الحمض النووي الكاملة لأبنائهم تقليدًا طبيًّا مستقرًا.